حرب غزة ونظرية التفسير المذهبي للاحداث:

اين الحريصون على ’أهل السنة والجماعة’؟

اين الحريصون على ’أهل السنة والجماعة’؟
الجمعة ٢٥ يوليو ٢٠١٤ - ٠٥:٤٢ بتوقيت غرينتش

نتائج عديدة ستظهر تباعا لحرب غزة 2014.. لكن أسرع النتائج التي ظهرت هو تدمير النظرية السائدة في تفسير النزاعات السياسية في عالم ما بعد "الربيع العربي" والتي تتكئ على البعد المذهبي. ومن دون مواربة فإن المقصود هو الثنائية الشيعية ـ السنية التي صممت قالباً جاهزاً لاسقاطه على أي نزاع، الى درجة تحول اتباع المذهبين الى أعداء متقابلين في اذهان البعض، بسبب أو بدون سبب، إلى درجة لا يعود ممكنا النظر الى أي صراع مستجد أو مقاربته إلا من زاوية الرؤية هذه وفق تصور البعض.

وقد تمكن الاعلام المشتغل على هذه النظرية ـ ومعهم جيوش السياسيين ورجال الدين التكفيريون وأمراء الامارات الإسلامية المعلنة حديثاً ـ من كي وعي الجمهور واقناعه عنوة بأن الأعداء هم طرف مسلم بذاته، لا بل ان الغالب في هذه النظرية نزع صفة الإسلام عن "الروافض"، في مقابل "اهل السنة والجماعة" الذي قفز كمصطلح يتموضع في رأس أي خطاب لدى الذين نصبوا انفسهم مدافعين عنهم، كجواز مرور ضروري لكي يحجز كل خطيب بهذا المعنى حيزاً لدى الجمهور الغاضب على التعرض لـ"أهل السنة والجماعة" في أي بلد.

هكذا قُدمت الحرب السورية على انها "نزاع بين الأغلبية السنية المضطهدة ضد الأقلية العلوية"، وهكذا ُيرفع الصوت في لبنان من قبل جماعات سياسية حزبية وغير حزبية لم تجد وسيلة للأضواء سواء اعتناق هذه النظرية واخذ البلد نحو الفتنة المذهبية، وهذا باختصار حصل في العراق بعد غزوة"داعش" للموصل ومحيطها، عندما استنفرت دول عربية وجماعات "جهادية" وأدوات تحريض متعددة العناوين نظَرت لما جرى على أنه "ثورة من أهل السنة المضطهدين ضد حكم نوري المالكي الشيعي الصفوي الرافضي"، الى ما هنالك من عبارات باتت لازمة في كل تصريح أو مقالة وحتى خبر صغير، بات فيه عدد كلمات الاسم وصفاته الملحقة اكبر من عدد كلمات الخبر نفسه.

النتائج المترتبة على هذه الصورة النمطية الجديدة عن النزاعات أقصت "إسرائيل" من الواجهة كـ"عدو"، لا بل باتت صديقاً للمعارضة السورية المسلحة وفصائلها "الجهادية"، تتداول معها المعلومات والخطط والتسهيلات اللوجستية في مواجهة "العدو المشترك"، أي بشار الأسد وحلفاؤه. وباختصار أيضا باتت ايران والشيعة والعلويون والزيديون وكل من ينتمي الى هذه الدائرة الدينية في مصاف "العدو الجديد" الرقم واحد، المطلوب محاربته واقحامه بأي صراع، ثم تفسير أي مواجهة وفق الثنائية المذهبية هذه. ويتم طبعا كل ذلك بتمويل دول عربية وتوفير الأرضية والمساحة الجغرافية اللازمة لتغذية هذه النعرات، كما حصل في استضافة الأردن مؤتمراً لمعارضين عراقيين داعمين ضمنا لغزو "داعش"، وأيضا استضافة تركيا المستمرة لحركات بهذا المعنى وبهذه الوظيفة، واللائحة تطول في معرض إحصاء الدول والجماعات والشخصيات التي باتت منخرطة عن قناعة وايمان بالوجوب "الشرعي" في مقارعة العدو الجديد البديل عن "إسرائيل" الصديقة.

وعندما يستمع المرء الى خطابات هؤلاء وعباراتهم التي تعود الى زمن الجاهلية الأولى من حيث المضمون ومن حيث اللغة العربية المستخدمة، يخال ان "بعثاً إسلامياً" جديداً قد ظهر، كيف لا وان بعضهم يكني نفسه بأسماء الصحابة الأوائل، وجاء ليهدم اصنام "اهل الشرك والبدع والضلال" وينظف ارض الإسلام منهم ويقيم دولة الخلافة الموعودة. وهكذا صار هذا الخطاب سائداً ومالوفاً ولم يعد غريبا أو شاذاً، وفُرز المسلمون بين طائفتين: واحدة ضالة وأخرى على صواب، ولم يعد للمجتمع الإسلامي أي أعداء آخرين.

ومن الصعب انكار ان استلاباً للوعي قد حصل وشمل فئات كثيرة من الجمهور الواقع تحت وطأة التأجيج المذهبي، الى درجة أنه لم يعد لديه استعداد لكي يفكر بطريقة مغايرة لما أريد له ان يكون سائداً بهذا المعنى المذهبي المغلق. لكن حرب غزة سددت ضربة قاتلة لاصحاب هذا الخطاب التكفيري، سواء كانوا من لابسي "الدشاديش " واللحى الطويلة الحافين للشوارب، او من أصحاب الياقات والبدلات الباريسية والعطور وكل ما يمت للحداثة بصلة، انما بقلوب عمياء تتقن الحقد والتكفير ولكن بلغة معاصرة، عكس نظرائهم الجاهليين، مع نتيجة واحدة طبعاً.

هكذا لم يصدر أي تصريح او خطاب او خطبة جمعة او شحذ همم او بيان نصرة لاهل السنة والجماعة في فلسطين وغزة تحديداً، وجميعهم دون استثناء من منتسبي هذه الطائفة الكريمة. لم يخرج لا ملك ولا أمير ولا رئيس أو وزير أو نائب أو شيخ أو أبو بكر جولاني او عدناني او بغدادي او ظواهري ينادي بالويل والثبور على المسلمين ان لم يهبوا لنجدة إخوانهم الغزاويين في الدين ممن يبادون على مدار الساعة على ايدي جيش الاحتلال الإسرائيلي وبدعم أميركي ـ أوروبي.

لم يأت احد على ذكر الطفولة المذبوحة وحرائر غزة وشيوخها وشبانها وهم يتعرضون لجريمة إبادة منظمة، وهي عبارات قيلت كثيرا في الحدث السوري، حتى ان دعاء لمجاهدي غزة بالنصر في ختام صلاة جمعة او أي صلاة عادية لم يُقرأ، بل حتى لم يفكَّر به، وكأن غزة وأهلها ليسوا من اهل السنة والجماعة، وكأن قاتلهم ليس "أشد الناس عدواة للذين آمنوا" كما في القرآن الكريم. حتى جامعة الدول العربية التي ادمنت التفسير المذهبي للأحداث وباتت تجاهر به لم تشحذ قراراتها لدعم المقاومة الفلسطينية كما فعلت لدعم "الثورة السورية"، وكأن هذه الدول والقوى والجماعات والشخصيات قد بلعت السنتها ولم يعد في قاموسها اللغوي ما تراه مناسبا لتوصيف ما يجري على اهل غزة، وهي ظاهرة تستحق التأمل بعد أسبوعين على الحرب الصهيونية الشرسة ضد غزة.

على عكس كل ما تقدم فإن الاطراف المصنفة "عدوا جديداً" ويبدو انه حصري ايضاً، أي اطراف الهلال الشيعي كما سموه كانت هي الأكثر تحسسا لمعاناة اهل غزة والأكثر تفاعلا وتحفزاً لنصرتهم بأي طريقة. صحيح ان الوقائع الميدانية وأسماء الصواريخ وهوياتها وغيرها من الاسلحة بينت جزءاً من حجم جسر الوصل والتواصل المتين بين اضلاع محور المقاومة من ايران وحزب الله وسوريا الرئيس بشار حافظ الأسد، وبين المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها العسكرية، لكن ما قيل في السياسة ولدى الأطراف المعنية وعلى الأرض يظهر ايضاً جزءا آخر من حجم جسر الوصل والتواصل المعنوي بين مقاومة فلسطين وهذه الأطراف المقاومة.

في اليمن مثلا وبينما كان انصار الله الحوثيون يقاتلون التكفيريين في عمران وينتصرون عليهم، كان جمهور انصار الله يخرجون في كل المحافظات الموجودين فيها وبالملايين ومن كل الاعمار تلبية لنداء قائدهم السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي باظهار تضامنهم وتعاطفهم مع اهل غزة. لا بل اكثر من ذلك نظم المشاركون في المسيرات وهم من افقر فقراء اليمن حملة لجمع التبرعات لتسليمها لممثلي المقاومة الفلسطينية في صنعاء. اما في المقلب الاخر فكان حزب التجمع اليمني للإصلاح وبعد الهزائم المتكررة التي لقيها على يد انصار الله وأبناء المحافظات الشمالية، كان ينظم مسيرة يرفع فيها صور الملك السعودي مستجدياً مساعدة ما في حروبه الداخلية ضد أبناء وطنه، دون ان ينبس ببنت شفة تجاه ما يجري في فلسطين!

كما ان الرئيس السوري بشار الأسد وفي خطاب القسم لولاية ثالثة كان مصرا على ان تبقى فلسطين القضية المركزية الأولى التي تنال من الدعم ما يمكن ان تقوم به دمشق، بمعزل عما حصل مع احد فصائل المقاومة، أي حركة حماس. ويقع أيضا أداء الجمهورية الإسلامية في ايران وحزب الله في قلب دعم هذه المعركة وفي ذلك وقائع ومعطيات كثيرة يشهد بها اهل الدار.

ما تقدم يثبت ان نظرية التفسير المذهبي للأحداث قد سقطت في حرب غزة، وان دعاة نصرة "اهل السنة والجماعة" فقدوا صفتهم التمثيلية هذه بعدما بات صمتهم بمثابة شراكة في الجريمة، ولا يمكن بأي شكل من الاشكال ان يصنفوا في خانة الحريصين على المسلمين، لأي مذهب انتموا، خصوصا أولئك الذين غلبوا حقدهم على جماعة سياسية معينة لكي يعاقبوا شعبا بأكمله يشاطره الدين والمذهب نفسه، دون ان تاخذهم شفقة بالأطفال والنساء والشيوخ المباحين لطيران العدو الإسرائيلي وقذائفه. كما ان تلك الجماعات التي تسمي نفسها "جهادية" والتي تتفنن في توزيع الجغرافيا بين "أرض نصرة" و"أرض جهاد"، لم تجد في غزة أياً من التوصيفين ينطبق عليها، ولم يتكرم امراؤها على الغزاويين بأي رسالة ولو صوتية تحث "المجاهدين" العابرين للحدود والمتعددي الجنسيات وهم بالالاف، والزاحفين الى سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها، ان يحملوا جوزات سفرهم الحقيقية ويتوجهوا الى فلسطين، وبامكانهم الوصول اليها، لكي يناصروا عن قرب اهل السنة والجماعة في ارض الأنبياء.

لقد اسقطت حرب غزة ما اشتغل الاميركيون والإسرائيليون لسنوات على تعميمه كثقافة ومفاهيم جديدة في الشرق الأوسط أي تحول المسلمين الى أعداء بعضهم لبعض، لينشغلوا بأنفسهم بعيدا عن "إسرائيل"، وبالتالي فإن هذه النتيجة الهامة للحرب والمقاومة من شأنها ان تساعد في ترميم العلاقات بين المكونات الإسلامية بسبب اتكائها على المساحة المشتركة الكبيرة جداً والتي تضم فلسطين قضية أساسيا و"إسرائيل" عدوا ثابتاً ووحيداً.

موقع العهد - عبد الحسين شبيب

كلمات دليلية :