الحوثي في مواجهة تكتّل الخصوم

الحوثي في مواجهة تكتّل الخصوم
الأربعاء ٢٥ فبراير ٢٠١٥ - ٠١:٢٦ بتوقيت غرينتش

لا تكلّ الساحة اليمنية عن تقديم نموذج شديد التقلب في موازين الصراع الداخلية، وكأن البلد محكوم بحركة الفعل ورد الفعل، في متتالية زمنية لا مثيل لها في القريب أو البعيد من بلدان المنطقة العربية والإسلامية.

 فالتغييرات في البنية السياسية هناك لا تعرف معدلاً وسطيا للأعمار، ولهذا تعيش صنعاء في ظل قاعدة بسيطة، الثابت الوحيد فيها، هو أن لا شيء ثابت.
على هذا المنوال جاء التقدم الصاعق لجماعة «أنصار الله» في ايلول الماضي. بالطبع الحوثيون ليسوا حالة منعزلة عن أي تراكم تاريخي أو حالة طارئة على الساحة، لكن الانتصار السريع جاء بمثابة الإسقاط الخارج عن النص وسياقه المنطقي، نعم، الحوثي كان موجوداً في الساحات، خصوصاً مطلع «الثورة» الشعبية التي وازت يمنيا الحراك الشعبي الإقليمي في بدايات «الربيع العربي». ونعم أخرى لوجوده العسكري الملحوظ بالتحديد بين عامي 2006 و2007 إبان حروب صعدة التي وصلت نيرانها إلى ما وراء الحدود السعودية. لكن الـ «كلا» هنا، وهي من شعارات «أنصار الله»، للقائل بأن «الضربة القاضية» خصوصاً يوم الأحد 21 من ايلول 2014، كانت لتنجح بهذه السرعة وفي هذا الزمن بالتحديد.
لم يخف السيّد عبدالملك الحوثي «نشوة» النصر في اطلالاته المتكررة وفي أداء جماعته على المستويين الأمني والسياسي. ولشدة ما لحق بـ «حزب التجمع اليمني للإصلاح» من خسائر فادحة، خصوصاً بعد تحول قادته الى ملاحقين أمنيا وهائمين بين عواصم الخليج بحثا عن ملاذ، ظن الحوثي أن اللعبة دخلت مرحلة البرودة، متناسيا أن ادارة النصر أو استثماره، يعد عملا شديد التعقيد والحساسية، وفيه يكمن الامتحان الأكبر أمام الكيانات والأحزاب والحركات وحتى البلدان. فما بعد الصراع العسكري ملف آخر، يتشابك فيه الاقتصادي بالامني والسياسي بالاستراتيجي. وفي ظل «هفوة المنتصر» هذه، أعاد خصوم الحوثي التجمع مجدداً، وفي خاصرته الرخوة تحديدا. وبدا جنوب اليمن خلال الشهور الماضية على الطريق للتحول الى قاعدة عمليات سياسية وشعبية لكل «الهاربين» من صنعاء.
التمهيد الأول لتحول عدن إلى «سايغون» على شاكلة القسمة الفيتنامية في النصف الثاني من القرن الماضي، وإن كان لها روايتها الخاصة وموروثها الذي لا ناقة للحوثي فيه ولا جمل، كان في إظهار الرجل نوعا من التراجع عن تقبل او فهم حقيقة المطالب التي تشهدها المحافظات الجنوبية منذ حرب العام 1994، وانكفاء الجنوبيين أمام جيش الرئيس السابق علي عبدالله صالح. فالحوثي وخصوصاً خلال خطاباته قبل أيلول الماضي، كان يتحدث بوضوح عن «القضية الجنوبية». وهذا المصطلح يعدّ شديد الحساسية، إذ يعكس فهما لطبيعة الحراك في الجنوب، خصوصاً في أوساط المطالبين بالانفصال أو «الاستقلال» بحسب أدبياتهم. التغيّر الطارئ غير المفهوم في تناول «انصار الله» للعقدة الجنوبية، بدأ مع استخدامهم مصطلحا جديدا تمثل «بالمظلومية الجنوبية». وللمظلومية في اليمن خصوصية معروفة. إذ تتصل بعدد من القضايا الجهوية والقبلية والمناطقية، لكنها لا تشمل على الاطلاق مشروعا أو قضية بحجم ما يحصل في ساحة «خور مكسر» في عدن. فساحة الاعتصام هذه تنادي «باستقلال» الجنوب عن الشمال من منتصف الصيف الماضي، وتسمي الجيش اليمني «قوات الاحتلال» والرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي «رئيس دولة الاحتلال». وفي ظل ظرف معقد وحساس كهذا، لا يمكن لمن بات بين ليلة وضحاها حاكما بأمر صنعاء وجوارها ألا يتعاطى معه إلا على قدر مناسب من الحساسية المفرطة، وينتقي مفرداته وأدبياته على شاكلة تناسب المرحلة وتسحب البساط من تحت أقدام «المتربصين» به.
بالتأكيد، لا يمكن تحميل الحوثي تبعات التركة اليمنية الثقيلة. لكن «أنصار الله» باتوا ورثة السلطة بفعل الواقع الذي عملوا على خلقه، وهذا لن يغفر لهم أي زلة في ادارة الملفات الشائكة في الجنوب تحديدا، فالذي يحصل اليوم أن عدن باتت ملاذا آمنا لكل خصوم الحوثيين على تناقضاتهم وصراعاتهم. ومع لجوء الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي إلى عدن برفقة أعوانه وإلى أحضان شقيقه ناصر منصور، المسؤول الأمني عن عدن وجوارها، وصديقه عبدالعزيز بن حبتور محافظ عدن. اكتمل نصاب «الثورة المضادة». فالمدينة الجنوبية كانت تشهد طوال الشهور الماضية توافدا غير اعتيادي لكوادر وعناصر «حزب الإصلاح» إضافة لعناصر أخرى من تيارات إسلامية، لا سيّما صاحبة الخلفية «السلفية» كـ «الهيئة الشرعية». والأبرز في هذا المجال حديث أوساط يمنية عن تواجد «جنرال الحرب» علي محسن الأحمر وحميد الأحمر في عدن، ما يعني عمليا تواجد قاعدة شبه متكاملة لمشروع سياسي وأمني وربما عسكري مضاد يستثمر القضية الجنوبية في مواجهة الحوثيين.
الواضح أن اعمال الحشد الشعبي قد بدأت على الأرض، فالتعميم الصادر من أوساط «الإصلاح» لكل أنصارهم، هو استخدام مصطلح «التمدد الحوثي» في التظاهرات والاجتماعات العلنية كافة وفي خطاب الرأي العام الداخلي والعربي. فمن خلال اقناع الجنوبيين بأن لـ «أنصار الله» أطماعا توسعية، يمكن إحداث عملية انتقال شاملة للوعي الجمعي، من تبني مشروع كان ينادي بـ «الحقوق المسلوبة» بادارة الحراك الجنوبي السلمي وأنصار الزعيم اليمني علي سالم البيض، إلى مشروع صدامي يخلق بيئة حاضنة لجماعة «أنصار الشريعة» والعناصر المسلحة التابعة للإصلاح لمواجهة «التمدد الحوثي» المدعوم ايرانيا، والمتهم بشكل علني من كبار علماء السلفية الجهادية في اليمن، ومنظري «الإخوان» بكونه «تمددا زيديا».
الواضح أن الإصلاح وآل الأحمر وعلي محسن الأحمر وحلفاءهم الاقليميين، يعدون العدة لمعركة اعلامية وسياسية وعسكرية طويلة الأمد مع الحوثيين، تقوم على مبادئ مجربة في ميادين قريبة، وهي تنقسم بحسب الأداء الاعلامي الواضح للائتلاف المستحدث هذا إلى خمس خطوات سريعة.
الخطوة الأولى ـ العمل داخليا وعربيا ودوليا وبمساعدة اعلامية خليجية على شرعنة عمل الرئيس المستقيل «العائد عن الاستقالة» عبدربه منصور هادي، وتعويم الرجل ليكون بمثابة الواجهة للصراع القائم، علما بأنه الطرف الأضعف على أرض الساحتين المتخاصمتين. ويقال في هذا المجال إن بيانه الأول لدى وصوله إلى صنعاء صيغ من دون علمه على يد راجح بادي المقرب من «الإصلاح»، والناطق السابق باسم حكومة خالد بحاح المستقيلة.
الخطوة الثانية – محاولة استقطاب ما يسميه خصوم الحوثي «المحافظات المنتفضة» وتحديدًا محافظتي مأرب وتعز الشماليتين، وربما البيضاء في وقت لاحق. وفي ظل تمركز «القاعدة» وحلفائها في مأرب، إضافة للبيئة الشعبية غير الحاضنة للحوثيين في تعز، يمكن العمل على ضم ثقل المحافظتين الى المشروع المضاد القادم من الجنوب.
الخطوة الثالثة ـ إذابة الحراك الجنوبي السلمي ومختلف الهيئات والقوى السياسية الرافضة لأداء «الإصلاح» حتى قبل تطور الأحداث نهاية صيف العام الماضي. وقد بدأ الأمر عمليا في اتهام الاوساط السلفية أو الدينية المتصلة بحزب «الإصلاح» لشخصيات في الحراك او لقياديين جنوبيين كعلي سالم البيض وعلي ناصر محمد بالتحالف مع إيران، وهي التهمة الجاهزة دوما في وجه خصوم «الإصلاح» وآل الأحمر.
الخطوة الرابعة - شنّ معركة إعلامية شديدة الحماوة، لا تقلّ عن شقيقاتها في المناطق المشتعلة الأخرى كسوريا والعراق وليبيا. وستبدأ بوقف بث القنوات الحكومية اليمنية وفي مقدمها قناة اليمن، في مقابل اطلاق فضائيات جديدة تعمل انطلاقا من عدن لمؤازرة العضلات الإعلامية العربية، ومن صور المعركة هذه ما تناقلته وسائل الإعلام الخليجية عن تظاهرات معارضة «للانقلاب الحوثي» في 15 من الشهر الجاري في مدينة عدن، بينما كانت التظاهرات في الواقع لأنصار الحراك الجنوبي في مواجهة تحركات محافظ المدينة ومدير أمنها ضد «أنصار الله».
الخطوة الخامسة – تفعيل تظاهرات وأعمال احتجاج مناوئة للحوثيين داخل العاصمة صنعاء، وبالتحديد الجماعات التابعة «للإصلاح» ولتيارات إسلامية سلفية ناشطة في الجامعات الصنعانية، والتي كان لها دور فاعل في احتجاجات العام 2011، فيما يقابل هذه التحركات حملة اعلامية مكثفة لإظهارها بمثابة الانتفاضة الداخلية ضد «أنصار الله».
وهنا لا يمكن الفصل بطبيعة «نهاية الطريق» في المعترك اليمني هذا. المبادرة اليوم لم تعد حكرا على الحوثيين، كما أن الطرف الآخر لم يعد «إصلاح» الأعوام الماضية عندما كان عماداً اساساً للسلطة. والأمر الوحيد الواضح أن أطرافا عديدة تسعى لإعادة انتاج نموذج التقسيم المذهبي داخل الارض اليمنية. وتحويل ضفتيها الجنوبية والشمالية الى بيئة مثالية لصراع يستقطب الإرهاب العابر للأقطار. فاللعب على متناقضات اليمن السعيد وهو في أتعس ايامه يعد أمرا يسيرا، سيكون من أبرز منجزاته بدء عملية الفرز والتصنيف على اسس لم يعهدها اليمنيون من قبل. وسيكون الغريب في الأمر معرفة الانتماءات المذهبية «المفاجئة» لبعض الشخصيات اليمنية، التي لا يعكس الجهل بطبيعتها مسبقا إلا الواقع اليمني القديم، وهو أن البلاد في كل حروبها وتناقضاتها لم تكن يوما بيئة حاضنة للمذهبية.

عبد الله زغيب - موقع السفير