هذا ما جنته الوهابيّة على أوروبا

هذا ما جنته الوهابيّة على أوروبا
السبت ٢٨ نوفمبر ٢٠١٥ - ٠٧:٠٤ بتوقيت غرينتش

يجهد الأوروبيون في إقناع أنفسهم بأن ما لمسوه أخيراً من هجمات وما يتخوفون منه قريباً، هو نتاج غضّهم النظر عن انتشار الوهابية في بلدانهم بأيدٍ سعودية وعبر موافقات حكومية قدمتها دولهم، مقابل المصالح الاقتصادية والمالية المشتركة مع السعودية.

ثنائية ناجحة يمارسها آل الشيخ (نسبة إلى الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب) باستغلال إرث جدّهم في إسباغ الشرعية الدينية على العرش السعودي، فيما يلتزم أحفاد ابن سعود مهمّة الدفاع عن الوهابيّة وبثّ تعاليمها ومناهجها في البلدان كافّة. مهمّة يسخّر لها أنجال عبد العزيز (مؤسّس الدولة السعودية المعاصرة) أدوات «حداثية» تتمثّل في تشييد المدارس والمراكز التبليغية والبعث بالدعاة إلى «أقطار المعمورة».
«السعودية أنفقت 87 مليار دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهّابية في العالم»، ينقل السفير الأميركي السابق لدى كوستاريكا كورتين وينزر، في دراسة تحليلية أكاديمية نشرتها مجلة «ميدل إيست مونيتور» عن الخبير في الصراعات الدينية وتمويل التطرّف أليكسي أليكسيف. وجاءت أقوال أليكسيف أثناء جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 26 حزيران 2003، وهي أرقام مماثلة أوردها المستشار السابق في وزارة المال الأميركية في حزيران 2004، ديفيد أوفهوسر، وقدّر آنذاك أن إنفاق الحكومة السعودية على نشر «المذهب الوهّابي» في العالم بما لا يقلّ عن 75 مليار دولار.
في هذا السياق، ذكر المحلّل النفطي في شركة «هس» لتجارة الطاقة إدوارد مورس، أنّ الملك الاسبق فهد بن عبد العزيز، خصّ ناشري الوهّابية بحصّة من عوائد البترول تعادل ملياراً و800 مليون دولار سنوياً. أمّا في الوقت الراهن، فلا أرقام تقارب حجم الإنفاق السعودي على «الأنشطة الدينية»، ولكنّ الأخيرة تكاثرت باطّراد لافت تزامناً مع بلوغ الطفرة النفطية أوجها. ولم تكن الأقطار العربية والإسلامية التي غزتها البترو ــ وهّابية، وفي مقدّمها باكستان، يتيمة على قائمة الأهداف.

منظومة وهّابية متكاملة في أوروبا
أوروبا، التي تسأل عن أسباب الإرهاب الآن، كان لها كذلك نصيب وافر من الجهود السعودية في توسيع رقعة «التوحيد الوهّابي» بالنظر إلى نماء الجالية الإسلامية داخل القارّة العجوز. وتقدّر آخر الإحصاءات عدد المسلمين في جميع دول أوروبا بنحو 44 مليون نسمة، أي ما يقارب 6% من إجمالي السكان. وهذه المساعي المتقادمة لم ينكرها النظام السعودي، بل إنّه جاهر بها متفاخراً تحت شعار نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية ودعم الأقليّات المسلمة. وبنظرة سريعة إلى المنابر الإعلامية المتحدثة بلسان المملكة، تظهر مشاريع هائلة سخّرت للمؤسّسة الدينية ووجوهها. صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية نفسها أحصت في تقرير عدداً من المشاريع المموّلة سعودياً على امتداد القارّات الخمس، وذلك في ذروة أنشطة الدعوة الوهّابية.
تلك الصحيفة، التي تعتبر في صدارة المدافعين عن آل سعود، تشير إلى أنّ السعودية بنت في أوروبا مراكز دينية تبلغ مساحة بعضها 3848 متراً مربّعاً، وتقارب تكلفة بعضها الآخر 5 ملايين دولار. ومن أبرزها «مركز خادم الحرمين الشريفين الثقافي الإسلامي» في مدينة ملقا الإسبانية، و«المركز الإسلامي في العاصمة الإيطالية روما»، و«مركز مدينة مونت لاجولي في فرنسا»، و«المركز الإسلامي» في جنيف، و«المركز الإسلامي الثقافي» في بروكسل (يشار إلى أن هذا المركز يقع على مقربة من منطقة مولينبيك البلجيكية التي ذاع صيتها كإحدى أبرز البقع الأوروبية المصدّرة للجهاديّين). يضاف إليها: «المركز الإسلامي» في مدريد، و«المركز الثقافي» في لندن، و«المركز الإسلامي» في لشبونة في البرتغال، و«المركز الإسلامي» في العاصمة النمسوية فيينا، و«مركز خادم الحرمين الشريفين الإسلامي» في أدامبرا في إسكتلندا.
إلى جانب المراكز الدينية، تعدّد «الشرق الأوسط» المساجد التي شيّدتها المملكة أو أسهمت في تشييدها على الحواضر الأوروبية من بين 1359 مسجداً سعودياً حول العالم. وفي صدارتها: مسجد «مونت لاجولي» في فرنسا، مسجد مدينة ليون الفرنسية، مسجد «خادم الحرمين الشريفين» في أدامبرا، مسجد «المركز الإسلامي» في برن السويسرية، المسجد الجامع في بروكسل، المسجد الجامع في مدريد، مسجد «برنت» المركزي في بريطانيا ومساجد أخرى في زغرب ولشبونة وفيينا.
ولا يكتمل مشهد المنظومة الوهّابية في أوروبا إلا بالتعريج على الأكاديميّات التي أنشأتها السعودية في غير دولة، وفي مقدّمة هذه الصروح المبنية تحت شعار «ربط النشء من أبناء الأقلّيّات المسلمة بدينهم وعقيدتهم من خلال الدروس النظرية والعملية»، تأتي «أكاديمية الملك فهد» في لندن، و«أكاديمية الملك فهد» في بون التي تضم مدارس من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، ومسجداً يتسع لـ 700 مصلٍّ. أيضاً يوجد «معهد العالم العربي» في العاصمة الفرنسية باريس، بل لا تستثنى الجامعات الغربية حتّى العريقة منها من سيل البترو ــ وهّابية، فالمملكة «أدركت أهمّية إبراز حقيقة الإسلام وتصحيح المفاهيم الإسلامية المشوّهة». من هنا، كان «كرسي الملك فهد للدراسات» في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، كما كان «كرسي الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية» في جامعة كاليفورنيا، و«كرسي الملك فهد للدراسات الشرعية الإسلامية» في كلّية الحقوق في جامعة هارفارد.
ما تمّ تعداده مقدّماً ينتسب جميعُه إلى حقبة زمنية واحدة هي حقبة الثمانينيات والتسعينيات، أي قبيل أحداث الحادي عشر من أيلول. في تلك المرحلة من عمر المملكة، كان فهد مسكوناً بهاجس التصدّي لامتدادات الثورة الإيرانية، ولا سيّما أنّ الأخيرة بلغت آنذاك مرحلة التأثير القوي في ساحة الثقافة الإسلامية. والهواجس المشار إليها، معطوفة على الإغراءات المالية والنفطية، جعلت الدول الغربية والأوروبية بالتحديد تغضّ الطرف عن التوسّع الوهّابي في البلدان ذات الأقلّيّات المسلمة.
تغاضٍ ما لبثت أوروبا أن دفعت ثمنه بالدماء. يقول الخبير أليكسي أليكسيف في شهادته أمام مجلس الشيوخ الأميركي، إنّ «متخرّجي المدارس الوهّابية كانوا وراء الأعمال الإرهابية في اوروبا». وثمة نماذج توضح استمرارية النهج السعودي القائم على تفريخ الوهّابية حتّى ما بعد أحداث 11 أيلول، التي جعلت الرياض تعمل على امتصاص غضب واشنطن إزاءها، بحملات إعلامية وأمنية أشبه ما تكون بالفقاعات. ولم تمر سنوات قلائل حتى صارت سوريا قبلة «الجهاديّين» من كلّ حدب وصوب، وقد بدأ ربائب المدارس والأكاديميّات الوهّابية في أوروبا شدّ الرحال للنفير إلى الساحة الشامية، وهو نفير ظنّ حكّام أوروبا أنّ السكوت، بل وتسهيله، سيحقّق غاياتهم السياسية وسيخلّصهم من جيل «القاعديّين الجدد».

حديث الوهّابية من جديد
خابت الظنون وافترقت حسابات الحقل عن حصيد البيدر. ما هي إلّا أشهر معدودات حتّى اندلق «الجهاديّون» نحو أوروبا مدشّنين هجماتهم بالإغارة على صحيفة «شارلي إيبدو» وغير منتهين على ما يبدو بهجمات باريس الدامية. ليلة 13 تشرين الثاني 2015 التي وُسمت بأنّها 11 أيلول أوروبي دقّت ناقوس الخطر على نحو غير مسبوق، وأعادت تزخيم الجدل بشأن السياسات الأوروبية وخصوصاً الفرنسية حيال التغلغل الوهّابي في أوروبا الغربية.
أول القرارات التي اتّخذتها باريس على خلفية ذلك الجدل إغلاق مساجد وصفت بأنّها تبثّ الكراهية وطرد دعاتها من الأراضي الفرنسية، وهو قرار ليس الأوّل من نوعه، فقد سبقتها في عدّة دول أوروبية إجراءات مماثلة، وتحديداً عام 2012 حيث منعت السلطات السويسرية الداعية السعودي ( الوهابي) محمّد العريفي من دخول أراضيها لأسباب؛ من بينها حضّه على كراهية الآخر. وبموجب القرار السويسري، بات العريفي محروماً من دخول دول «الشينغن» الـ 19.
ألمانيا بادرت، من جانبها، في أيلول الماضي إلى إغلاق «الأكاديمية السعودية» في بون، في وقت حمل فيه الجدل البريطاني والإيرلندي المتعاظم حول المدارس السعودية، الملحقيةَ الثقافية التابعة للرياض على اتّخاذ قرار بإلغاء كلمة المدارس من جميع الوثائق والأوراق المتعلّقة بالطلاب واستبدال تعبير «مجاميع للتقوية» بها. خطوة التفافية لم تفلح في إخماد المطالبات الأوروبية بقطع الطريق على تدفّق البترو ــ وهّابية.
لكن البرلمان النمسوي كان السبّاق في إقرار قانون يحظر أيّ «تمويل أجنبي للمنظّمات الإسلامية» وأئمّتها (شباط الفائت) ضمن جهود فيينا لمكافحة التطرّف. أمّا إسبانيا، فرفضت مطلباً قطرياً بتشييد أكبر مسجد على مستوى أوروبا، وذلك على أطلال ساحة مصارعة الثيران الواقعة وسط برشلونة، بكلفة قدّرت بأكثر من ملياري يورو. وعزت وسائل إعلام إسبانية الرفض إلى خشية برشلونة والحكومة المركزية في مدريد من تكرار التجربة السعودية الوهّابية على أراضيهما.
هو الذعر الغربي، إذاً، من تغوّل الوهّابية واستحالتها خطراً محقّقاً على حياة الأوروبيين وأمنهم بعدما كانت سيف حكوماتهم ودوائرهم الاستخبارية المسلّط على رقاب الخصوم. ذعر وإن كانت أحداث 11 أيلول قد أطلقت صفارته الأولى، فإنها لم تكن كافية لإقناع حكّام أوروبا بأنّ غثّ أنظمة البترو ــ وهّابية يفوق سمينها، فهل يكون 13 تشرين الثاني الفرنسي اختبار اليقظة الأخير؟.

خليل كوثراني، دعاء سويدان / السفير