ثورة الامام الخمیني.. نقد الذات (3)

ثورة الامام الخمیني.. نقد الذات (3)
الجمعة ٠٥ فبراير ٢٠١٦ - ١٠:٥٣ بتوقيت غرينتش

استكمالا للمشهد الذي طرحته خلال القسمین الماضیین، أود هنا اتمام الصورة بما یجري في ایران وحواضر التشیع الاخری حالیا.. وما یُنفخ فیها من محاولات فصل وخلق عداوات ومواقف بین زعماء الحوزة العلمیة وايجاد تيارات واتجاهات غير عقلانية تستغل العاطفة لأهداف أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة.

بهذا الواقع قامت الثورة الاسلامیة في ایران والتي ایدها أغلب مراجع الدین الكبار في ايران كالسيد الكلبايكاني والسيد المرعشي النجفي والشيخ الاراكي والسيد عبدالله الشيرازي (رضوان الله عليهم) كما حظيت بتأييد علماء الاسلام في العالم سنة وشیعة.. الا الاتجاه الوهابي التكفيري ومن ارتبط به بالطبع فهؤلاء كان لهم موقف من الثورة والاسلام والتشيع لان آل سعود شركاء نظام الشاه في التبعية لاميركا اعلنوا عن دعمهم لنظام الشاه في مواجهة الثورة والشعب وقيادته، رغم ان التایید لا یعني بالضرورة القبول بكل القیم التي جاءت بها الثورة او الشعارات التي رفعتها..

وباستثناء التیار الثوري ومن انضم الیه بفعل امتدادات الثورة وعملیة الدفع التي نتجت عن الصحوة الاسلامیة، فان التیار التقلیدي انقسم لاحقا وبعد الافاقة من صدمة الحدث الی فریقین.. غالبیة مؤیدة في الخطوط العامة متحفظة علی بعض خصوصیات الثورة، وهذه الاغلبیة استفادت من الثورة كثیرا وافادتها في الوقت ذاته فلم تمنع المرجعيات مقلديها واتباعها من الانخراط في انشطة الثورة ومشاريعها.. واقلیة اصطدمت بالثورة سریعا لاسباب شخصیة او سیاسیة، فالبعض ـ ولا نرید ان نذكر اسماء ـ وحسدا من اقبال الناس علی مرجعیة الامام الخمیني (رض) وخوفا من ان تقلّ عوائد الاموال الشرعیة التي تصل الیه، بلغ مرحلة التآمر والسعي للانقلاب علی قیادتها (كما كشفت عن ذلك مؤامرة انقلاب قاعدة "نوجه" في همدان) وكان من حق الحكومة الاسلامية ان تصدر بحقه اقسى الاحكام واشدها كما هو مبرر شرعا وعقلا ومنطقا، لكنها اكتفت بالحد من نشاطه وعدم السماح له ببث سمومه، .. وآخرون بدأوا بالمطالبة في مشاركة قیادة الثورة في قراراتها، لانهم يقولون بشورى القيادة، ولانهم فشلوا في اختراق الثورة في قمة الهرم رغم كل الامكانيات التي حصلوا عليها من الجمهورية الاسلامية!!

وبعد ان فشلوا في تحقیق ذلك.. اعتمدوا سیاسة "الحرب المقدسة" والعمل على تقویض مفاهیم ومبادئ الثورة، فالتقريب والوحدة الاسلامیة یحاربان من خلال "اسبوع البراءة" وبدعة "فرحة الزهراء" والاساءة المتعمدة الى رموز المسلمين السنة.. واخیرا مفهوم "العمامة النسائیة!"..

وكانت الشعائر المبتدعة أهم وسیلة للمواجهة، واصبح منع التطبیر (عفوا الادماء المقدس) و"التطیین المقدس" و"التجمر المقدس" و"التقفل المقدس" من قبل الجمهورية الاسلامية بجانب دعوتها للتقریب والوحدة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم دلیلا علی انحراف الثورة عقائدیا.. واصبحت قيادتها "عمامة نسائیة" لا تعرف قدر مذهبها وائمتها!!

التقلیدیون "الاكثر متانة!" بقوا متمسكین بالفصل بین العلوم العقلیة والنقلیة ولا یزالون عند رأیهم بأن دراسة وتدریس كتب ابن عربي و صدر المتألهین الشیرازي والحلاج وغيرهم من مشايخ العرفان والحكمة.. زندقة وخروج عن الدین ونجاسة!! حتی لو كان الامام الخمیني (رض) علی رأس هذه القائمة، بل العكس هي فرصة لضرب تحركه والاسلام السیاسي الذي جاء به!!

استطاع الامام الخمیني (رض) فرض هیمنته علی قم وامتد نفوذه الی حواضر أخرى ومنها النجف الاشرف التي حاصرها التیار الثوري من كل جانب وضغط علیها من داخلها.. وبعد رحیله (رض) وانتقال القیادة الی سماحة آیة الله السید الخامنئي (حفظه الله) وفي ظل اجواء الانفتاح ونهایة الحرب المفروضة وحكومة الاعمار، بدأت الحوزة المحسوبة علی التیار الثوري بمشاریع علمیة ضخمة خارج نطاق المألوف وبما یساعد علی حل المشاكل المجتمعیة والاجتهاد في المسائل المستحدثة التي تواجه الدولة والنظام.. رغم ان الوصول الی نظریة في اغلب العلوم الانسانية التي هي الحقل الأهم للنشاط المعرفي الحوزوي یحتاج الی فترة من الزمن وحجم من تراكم الانتاج المعرفي وهذا الامر لا يختص بايران والثورة الاسلامية، بل من "سنن المعرفة"..
ومن یطلع علی سعة الحراك وعمقه في قم خاصة وحجم المركز والمشروعات التي ظهرت خلال الـ 37 سنة من عمر الثورة المباركة، یدرك ان تیار الثورة ضم في دفینة تیار دولة واسع ومتشعب ومعقد (في مقابل بسیط)، يفكر بمشروع نهضوي ضخم ويحلم بواقع علمي مغاير لمنهجية التقليد رغم انه لم يلغها، بل جعلها الارضية والبيئة الحاضنة لمشروعه او على الاقل هكذا تعامل معها، ولم يقصها بل دعمها في كثير من الاشياء.

ورغم اجواء التعایش بین التقلیدیین والثوریین في ظل تفاهم قیادة التیارین في ايران وخارجها، الا ان التیار المتطرف لا یزال یشكل المعضلة حتی في العلاقة بین التقلیدیین عامة والثوریین، وخطورته في مضمونه الرجعي التقلیدي وادواته الصدامیة وخطابه العدائي المتشنج، مدعوما بهذا الكم الهائل من وسائل الاعلام المشبوهة التي تحاول افراغ الساحة الشیعیة من عمقها ومحتواها.. بل تحول بعضها الى منهجية تكفيرية (تشبه المنهج الوهابي في اقصاء جميع المسلمين الآخرين من دائرة الايمان) بسبب خلاف حول قضية جزئية، لا هي من اركان ولا فروع الدين، وهجوم على جميع العلماء والفضلاء، وبالطبع العداء السافر وباقذر واحط الالفاظ ضد قيادة الجمهورية الاسلامية...

انني علی اطلاع بالمشاریع المشتركة (معرفیا) والتقارب المنهجي الذي یجري بین حوزتي النجف الاشرف وقم المقدسة، سواء في النجف او قم وهي بادرة مهمة نأمل ان تستمر وتطور علی غرار ما یجري في حوزة قم من جهد علمي وبرمجي وبحثي...

لكن الصراع بین التیارین التقلیدي والثوري خلق تیارا آخرا "حداثویا" انفتح علی القراءات الحدیثة في علم الكلام والعرفان واللاهوت والتي جمیعها تتبنی البلورالیة والتأویلیة والنسبیة ـ المعرفیة ـ فتبنی هذا التيار في عمقه الفكر اللیبرالي الغربي، وتلبس بظاهرة بالمفاهیم والصور العرفانیة الاسلامیة.. تیار یحاول انسنة الدین، بمعنی مرجعیة الانسان ولیس الوحي في استغلال غیر برئ للوازع الدیني والعطش الانطولوجي عند الانسان (على حد تعبير أحد الاصدقاء المفكرين من عمق هذا التيار)...

ما یطرحه هذا التیار ("الحداثوي") من مفاهیم رومانسیة عامة ومعالجات قائمة علی التعددیة والنسبیة المعرفیة، یوحي بانه یرفض الدولة الدینیة (یرتبط بالتیار التقلیدي هنا) لكن دعوته العرفان والانسان والمحبة والحیاة تربطه علی مستوی الخیال الفكري بالتیار الثوري، رغم ان عمقه والاسس التي ینطلق منها هي المفاهیم اللیبرالیة الغربیة، مهما حاول بعض رموزه تدجین افكارهم اسلامیا.. خاصة وان هذه الافكار جاءت عموما بعد تجربة فاشلة خاضها اغلب رموزه مع التیار الثوري ومن خلال ارتباط مستمر بالتیار التقلیدي!

ان ثورة الامام الامام الخمیني (رض) ثورة عودة الی الذات ونقد ومحاسبة للنفس علی قاعدة "ان الله لا یغیر ما بقوم حتی یغیروا ما بانفسهم"، وايضا "میدانكم الاول انفسكم...".. ثورة مراجعة لجمیع المفاهیم وقراءتها من جدید بما یتناسب والتطور المعرفي والنضج العقلي الذي بلغته البشریة.. ثورة التقدم العلمي والمعرفي والصناعات النوویة والجوفضائیة والنانو والمساهمة في ركب التقدم الحضاري البشري.. ثورة تخرج الدین من المقابر ومجالس العزاء والانكفاء علی تقسیم الارث وعقود الزواج.. لیشمل كل نواحي الحیاة بحلول ومعالجات "غیر انتقامیة" وغیر دافعة، قوامها المحبة والسلام ونبذ التطرف.

* علاء الرضائي