هل راهنت أوروبا على نجاح الانقلاب التركي؟

هل راهنت أوروبا على نجاح الانقلاب التركي؟
الجمعة ٢٢ يوليو ٢٠١٦ - ٠٨:١٩ بتوقيت غرينتش

لدى أوروبا كل الأسباب للتوجس مما يجري في تركيا، ما يعطي زخماً للتخمينات بأنها لم تكن على مقاعد المتفرجين خلال الانقلاب الفاشل. إذا كان من شيء يصعب التنبؤ به الآن، فهو شكل السلطة التي يعيد صياغتها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان. هناك حالة التطهير الواسعة، الاستباحة التي تتيحها حالة الطوارئ، لكن أيضاً الشهية التي لم تبرد يوما للتحول إلى نظام رئاسي يقوده السلطان الجديد بلا منازع. إضعاف اردوغان مصلحة أكيدة لأوروبا، لكن الفرصة تبددت مع إحباط الانقلاب. لا شيء أكيدا الآن، بانتظار أي اردوغان سيظهر بعد هذا المخاض العنيف الذي بدأ للتو.

التهديد باستخدام ورقة تدفقات اللاجئين، وتنفيذ ذلك، شكّل سابقة في العلاقة بين الشركاء في «الحلف الأطلسي». تجاوز اردوغان بالفعل الخط الأحمر مع الأوروبيين بحساب حصيلة الخسائر من تحركاته. حصل انقسام غير مسبوق في صفوف الاتحاد الأوروبي، خلافات وسجالات تجاوزت اللباقات بين زعمائه، تعطيل منطقة «شنغن» مرورا بإمداد أحزاب اليمين المتطرف بمادة سحرية لتعزيز شعبيتها لتشكّل تهديدا وجوديا للتكتل، ليس أخيرا مساهمة كل ذلك في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

خلال حملة الاستفتاء البريطاني لم ينكر بعض المقربين من حملة الخروج أن «أزمة اللاجئين»، كما تسميها أوروبا، مع الضجيج المحيط بها، كانت هدية لا تقدّر بثمن. يمكن فقط تذكّر الملصق الإعلاني الضخم الذي وضعه زعيم حزب «الاستقلال» ناجل فاراج، ليحمل صورة حشود لاجئين في عزّ التدفقات، وتحتها تحذير للبريطانيين بأنهم سيلقون المصير ذاته إذا بقوا داخل الاتحاد الأوروبي. قرر البريطانيون الخروج بعدما لعبت الدعاية النفسية عاملا أساسيا، خصوصا مع ثبوت أنهم عرفوا القليل جداً عما هو الاتحاد الأوروبي، لتكون قضية اللاجئين والهجرة عاملًا شديد التأثير.

وفق تلك الحسابات، كانت تركيا الاردوغانية الأشد ضرراً لأوروبا في العقود الأخيرة. ليس قليلا تحميل سياسات الرئيس التركي قسطا من المسؤولية تجاه خسارة جيوسياسية كبيرة، بحجم خروج بريطانيا، وفوق ذلك جعل المشروع الأوروبي مهددا بالتفكك جراء الصعود المدوّي لليمين المتطرف على ظهر قضية اللاجئين. وصل الأمر ببعض الديبلوماسيين الأوروبيين للقول، في أحاديث خاصة، إن تركيا هي من «صنعت داعش بشكل أو بآخر». بعد كل ذلك، لم يكن أي مراقب بحاجة لانتظار البيانات الأوروبية الثلجية، حينما كان اردوغان يتقلب على نار الانقلاب المشتعل.

ستمر ساعات على اندفاع الدبابات الانقلابية في الشوارع قبل أن يخرج الاتحاد الأوروبي عن صمته المريب. خرجت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني لتقول إنها ليست غائبة، تتابع الأحداث على مدار اللحظة، مع اتصالها المباشر بالبعثة الديبلوماسية الأوروبية في قلب الحدث. ما رأيها إذًا بما يحدث طالما تعرف أدق تفاصيله؟ بأفضل الأحوال، لم يكن أقل من نأي بالنفس على طريقة الحياد السلبي: «أدعو إلى ضبط النفس واحترام المؤسسات الديموقراطية». ولا كلمة إدانة؟! كانت كلمات غريبة حينما تتحدث عن مؤسسات تتعرض للقصف والحصار العسكري.

لم يكن قادة المؤسسات الأوروبية بحاجة للتواصل الهاتفي للتباحث. كانوا جميعا في موقع واحد، يتشاورون وجها لوجه على هامش قمة «أوروبا-آسيا» المنعقدة في منغوليا. على الأرجح مرّت أمامهم صورة المرارات التي وضع اردوغان الأوروبيين أمامها بعدما استخدم تدفقات اللاجئين ورقة ابتزاز ومقايضة.

موغيريني مع رئيس المفوضية ورئيس المجلس الأوروبي شهدوا القمة الأوروبية خلف الأخرى مع تزايد الخلافات والانقسام. عايشوا تحول الاتحاد، مرة واحدة، من ماركة عالمية للدفاع عن الحقوق والحريات إلى مادة أساسية لانتقاد المنظمات الحقوقية الدولية، لتليه الإدانات للصفقة مع تركيا بعدما ظهرت معها السياسة الأوروبية عارية من أي وازع أخلاقي. ليس قليلا أن تعلن منظمة دولية وازنة، مثل «أطباء بلا حدود»، رفض قبول التمويل الأوروبي اعتراضا على صفقة «مشينة» مع أنقرة.

مرّ ذلك الشريط فيما كانت أحداث الانقلاب تتقدم، بالأحرى يصير من الواضح أنها محاولة، على اتساعها، يعتريها الكثير من عناصر مغامرة وطيش ومراهقة بما يجعل التعويل عليها مقامرة خاسرة. ساد الحياد السلبي حتى الثالثة والنصف فجرا، بتوقيت أنقرة، قبل أن يعلن الأوروبيون إدانتهم للخاسرين ووقوفهم إلى جانب الرئيس العائد لحياة ثانية. خرج البيان حينها من رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك وموغيريني معلنين «دعم الحكومة المنتخبة ديموقراطيا»، مضيفين بعد العبارة السحرية تلك لاحقة دعم «مؤسسات الدولة وحكم القانون».

لم يكن الأوروبيون متفرجين. قبلهم فعل الأمين العام لحلف الأطلسي يانس شتولتنبرغ ما يزيد سلبية. كان يفترض، كما تستدعي اللباقة السياسية تجاه حكومة منتخبة ديموقراطيا لدولة عضوة في الحلف، أن يقول شتولتنبرغ إنه يدعمها على الأقل. لم يفعل. بجمل نائية، شديدة الاقتضاب، قال فيما كانت الساعة تقترب من الثانية والنصف في فجر أنقرة «أدعو إلى الهدوء وضبط النفس، والاحترام الكامل للمؤسسات الديموقراطية التركية ودستورها. تركيا حليف قيّم لحلف الناتو».

تجنب البيان الأطلسي دعم حكم اردوغان وحزبه، تماما كما فعل بالتزامن وزير خارجية واشنطن جون كيري. لكن الأوروبيين ليسوا عادة بهذه الفجاجة للتغاضي عن استيلاء بالسلاح على السلطة، رغم تكرارهم الآن أنهم أول من أدان الانقلابيين ودعم حكومة أنقرة. ليس لديهم سوابق واشنطن، منذ سارع سفيرها يوما لدعم أول انقلاب في العام 1960 مهنئا قيادته بأنهم أدهشوه بالسرعة والدقة والكفاءة الانقلابية.

تحاول واشنطن الضغط الآن من باب عضوية الأطلسي، لكونها تشترط الالتزام بمعايير ديموقراطية، فيما يضغط الأوروبيون بإعلان أن إعادة تطبيق الإعدام يجعل أنقرة خارج مسار العضوية المرشّحة في الاتحاد. اردوغان لا يبدو أنه يبالي كثيرا. حملة التطهير تتجه إلى استباحة، فيما يبقى الاتحاد الأوروبي معنيا في الصميم. تبقى الصفقة مع تركيا مجهولة المصير، بين الصمود على ضعفها وتصدعاتها، أو الانهيار إذا اختار اردوغان تحريك التدفقات مجددا. الرجل قال بنفسه إنه مستعد لنقل اللاجئين بالباصات إلى الحدود مع أوروبا إذا لم يحصل على ما يريد.

الصفقة لا تعمل بالشكل المطلوب الآن. المحاكم اليونانية ترفض الكثير من طلبات ترحيل اللاجئين السوريين إلى تركيا مجددا، رافضة اعتبارها «بلدا ثالثا آمنا» كما أقرت حكومة اليونان. تلك الإعادة تشكل إحدى دعائم الصفقة، فيما تحاول بروكسل وأثينا التحايل بإعادة تشكيل لجان الاستئناف بما يجعلها تميل لموقف الحكومة، أو حتى محاولة القفز عن الرأي القضائي عبر الترحيل المباشر.

المقايضة بعيدة عن التمام اللازم لجعل الصفقة محصنة. اتفاقية منح تأشيرة «شنغن» للأتراك باتت بعيدة الآن. كان مطلوبا تطبيق بضعة معايير باقية تتعلق باحترام سلطة القضاء وتعديل قوانين الإرهاب، لكنها معايير تبخرت مع فرض حالة الطوارئ، حيث لا قانون غير ما تريده وتقرره السلطة.

التقدير الأولي كان أن اردوغان سيخرج ضعيفا، سواء فشل أو نجح الانقلاب. لا يبدو الحال كذلك. الرجل مع حزبه مضيا بسرعة البرق إلى الإمساك بعنق الدولة، مع عملية تطهير تستبيح جميع المناوئين المحتملين. ليس معروفا رأس المال السياسي الذي سيحصله أردوغان من هذه «الهبة من الله» كما قال بلسانه. أوروبا تترقب استحقاقات مهمة، وآخر ما تريده فتح السدّ التركي أمام تدفقات اللاجئين مع عام انتخابي آتٍ تترقبه هولندا وألمانيا وفرنسا.

واشنطن متضررة أيضا من الخسائر الأوروبية، خصوصا أن كل ضعف هنا يذهب تلقائيا لمصلحة الخصم الروسي. لو نجح الانقلاب لكانت السلطة الجديدة بأمس الحاجة لإرضاء مانحي الشرعية الدولية، مستعدة لكل ما يطلبونه. تلك الأحلام تبخرت الآن. التفاعل مفتوح هنا: أوروبا تشهد لاردوغان بأنه انتهازي من الطراز الرفيع، لكن لن تنسى له تجاوز الحدود باستخدام ورقة إنسانية جعلتها عارية أخلاقيا، مهددة حتى الآن مصير مشروعها السياسي.

* وسيم ابراهيم ـ السفير

2-210