في ذكرى ميلاده المبارك..

دور الإمام الرضا (ع) في حفظ خط أهل البيت عليهم السلام

دور الإمام الرضا (ع) في حفظ خط أهل البيت عليهم السلام
السبت ١٣ أغسطس ٢٠١٦ - ٠٥:٢٢ بتوقيت غرينتش

في الحادي عشر من ذي القعدة عام 148 للهجرة، تُطِلُّ علينا ذكرى مولد ثامن الأئمة ألاثني عشر، الذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وهو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

إزدهرت المدينة المنورة وأشرقت الأرض في هذا اليوم نورا ساطعا ملئت الكون ضياءا وَسرتْ بهذه المناسبة السعيدة مموجاتٌ من السرور والفرح والبهجة عند آل النبي صلى الله عليه وآله، وقد استقبل الإمام موسى الكاظم عليه السلام النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج، وسارع إلى السيدة زوجته يهنيها بوليدها قائلا: هَنِيئاً لكِ يا نَجمَة، كَرامَةٌ لَكِ مِن رَبِّكِ. ان ميلاده المبارك كانت بشائر متلألئة هبطت الى الأرض مع عوالم الغيب لتمنّ على أهل الارض بنور مقدس من انوار الإمامة الإلهية الساطعة بمولد الامام الرؤوف علي بن موسى الرضا عليه السلام وتجليا جديدا للخير والهدى وحقيقة التوحيد، فكان عليه السلام قائداً ربانياً منقذاً في عواصف التسلّط والهوى والانكفاء، وإماماً هاديا لطريق الله تعالى ورضوانه، ان يوم مولده، هبة الهية كبيرة، وفّقنا الله تعالى في الدنيا لزيارته، وأنالنا في الآخرة شفاعته.
ولد الإمام علي الرضا عليه السلام في نفس السنة التي استشهد فيها جده الإمام الصادق عليه السلام. وسمَّى الإمام الكاظم عليه السلام وليده المبارك باسم جده الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، تَبَرُّكاً وَتَيَمُّناً بهذا الإسم المبارك، والذي يرمز لأَعظَم شَخصيةٍ خُلِقَت فِي دنيا الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله، والتي تَحلَّت بِجميع الفضائل. وکان عليه السلام خير أهل الارض واعلمهم واعبدهم واتقاهم.
يقول أحد أصحاب الإمام وهو رجاء بن الضحاك: والله ما رأيت أعبد لله من علي بن موسى الرضا، ولا رأيت أتقى لله منه، ولا شد خوفاً لله تعالى منه، كان يختم القرآن في كل ثلاث ليال، ويقول: لو لا أني ما مررت بآيةٍ إلا وتفكرت فيها لختمت القرآن في أقل من ثلاث ليال. وكان عليه السلام لا يمر بآية فيها ذكر النعيم والثواب إلا وسأل الله تعالى ذلك، ولا يمر بآية فيها ذكر العقاب والحساب إلا واستعاذ بالله تعالى من ذلك. وكان عليه السلام قليل النوم في الليل كثير الصيام في النهار. وقال عنه أحد أصحابه: كان لا يترك صيام ثلاثة أيام في كل شهر، ويقول: إنها تعدل صيام الدهر كله.
اما عن علمه عليه السلام، قال إبراهيم بن العباس الصوفي: والله ما رأيت الرضا سئل عن علم أو عن شيءٍ إلا وعلمه، وما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا وشهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في عدة مجالس رؤساء الأديان والفرق والمذاهب وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فحاججهم وناقشهم حتى غلبهم عن آخرهم وما بقي منهم عالم أو أحد إلا واعترف له بالفضل وأقر على نفسه بالعجز.
وقال محمد بن عيسى اليقطيني: لقد جمعت من مسائل الناس التي سألوها الإمام الرضا عليه السلام وأجابهم عليها، جمعت من ذلك ثمانية عشر ألف مسألة.
كما مكارم اخلاق الإمام الرضا عليه السلام، هي نفحة من مكارم اخلاق جده الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد كان قمة في اخلاقة، يقول رجاء بن الضحاك: ما رأيت علي بن موسى الرضا جفا أحداً بكلامه قط، ولا رأيته قطع على أحد كلامه قط حتى يفرغ منه، ولا رأيته مد رجليه بين يدي جليسه، ولا رأيته اتكأ بين يدي جليسه، ولا رأيته رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، وما رأيته قهقه في ضحكه قط، وكان ضحكه التبسم، ولا رأيته سب أو شتم أحداً من مواليه أو من مماليكه. وكان عليه السلام، لا يرد سائلاً يسأله شيئاً من العطاء. ويقول ياسر الخادم، كان عليه السلام إذا خلا جمع خدمه وحشمه وصار يحدثهم ويأنس بهم ويوجههم، وكان إذا وضعت المائدة دعا خدمه ومواليه وأجلسهم معه على المائدة، قيل له في ذلك: لم لا أفردت لهم مائدة؟ قال عليه السلام، ولماذا أفرد لهم مائدة؟ أو ليس الرب واحد، والأب واحد، والأم واحدة؟ فلا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى.
وقد أثنى علماء أهل السنة ايضا، بمختلف الأقوال على الشخصية الرفيعة للإمام الرضا عليه السلام، ونشير هنا إلى بعض كلماتهم:
1- ابن حجر الهيتمي: «وکان اولاد موسى بن جعفر - حسن وفاته - سبعة وثلاثين ذکراً وانثى، منهم عليّ الرضا وهو أنبههم ذکراً واجلّهم قدراً».
2- السمهودي: «علي الرضا بن موسى الکاظم، کان اوحد زمانه، جليل القدر، اسلم على يده ابو محفوظ معروف الکرخي».
3- ابن حجر العسقلاني: «کان الرضا من اهل العلم والفضل مع شرف النسب».
4- الذهبي: «الإمام السيد ابو الحسن الرضا... وکان من اهل العلم والدين والسؤدد بمکان». وقال كذلك «وقد کان علي الرضا کبير الشأن، اهلا للخلافة».
5- خير الدين الزركلي:«علي بن موسى الکاظم بن جعفر الصادق، ابو الحسن الملقب بالرضا، ثامن الأئمة الاثنى عشر عند الامامية ومن اجلاء السادة اهل البيت وفضلائهم...».
6- الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي:«علي الرضا ـ (رضي الله عنه) ـ کانت مناقبه عليّة وصفاته سنيّة... وکراماته اکثر من ان تحصى واشهر من ان تذکر».
7- عبد الله بن اسعد اليافعي: «الإمام الجليل المعظم، سلالة السادة الأکارم، ابو الحسن علي بن موسى الکاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر(عليهم السلام)... احد الأئمة الاثنى عشر، أولى المناقب الذين انتسبت الامامية إليهم وقصّروا بناء مذهبهم عليهم».
8- احمد بن يوسف ابو العباس القرماني: قال في حق الإمام الرضا(عليه السلام): «وکانت مناقبه عليّة وصفاته سنيّة، وکراماته کثيرة ومناقبه شهيرة، وکان قليل النوم، کثير الصوم. وکان جلوسه في الصيف على حصير وفي الشتاء على جلد شاة».
9- يوسف بن اسماعيل النهباني: «علي الرضا بن موسى الکاظم بن جعفر الصادق، احد اکابر الأئمة ومصابيح الأمة من اهل بيت النبوة ومعادن العلم والعرفان والکرم والفتوة، کان عظيم القدر، مشهور الذکر، وله کرامات کثيرة منها انّه قال لرجل صحيح سليم: استعدّ لما لابدّ منه، فمات بعد ثلاثة ايّام».
10- ابن ابي الحديد المعتزلي:«ومن رجالنا موسى بن جعفر بن محمّد وهو العبد الصالح، جمع من الفقه والدين والنسك والحلم والصبر. وابنه علي بن موسى المرشّح للخلافة والمخطوب له بالعهد. کان اعلم الناس واسخى الناس واکرم الناس اخلاقاً».
لقد عاصر الإمام علي بن موسی الرضا عليه السلام عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد عشر سنوات ثم ابنه الأمين ثم المأمون وقد اتسمت تلك الفترة بالقسوة والظلم والإرهاب وممارسة اشر انواع التنکيل والتعذيب والقتل بحث ابناء اهل البيت عليه السلام. عاش الإمام الرضا (ع) المرحلة الصعبة التي مر بها والده الامام الکاظم (ع)، ولما استشهد ابوه عليه السلام وانتهت الامامة اليه، فقد جاء ان الرشيد قال ليحيی بن خالد البرمکي، حين حرضه الأخير علی الامام الرضا (ع): (يکفينا ماصنعاه بأبيه).
ومع ذلك فان الإمام الرضا (ع) لم يکن ليحيی بعيدا عن الصراع العلوي مع العباسيين دون ان يصيبه الأذی وتحل به الکروب والمحن. وبرز الإمام الرضا (ع) علی مسرح الحياة السياسية الإسلامية کألمع سياسي عرفه التأريخ الإسلامي في عصره. ان تردي الأوضاع السياسية قد أنعکس علی طبقات الأمة کافة، فلم يسلم منه أحد سواء العامة والجمهور أو قادة الرأي وأقطاب المجتمع والعلماء، لذا کان الرأي العام قد اتجه بشکل قوي نحو أهل البيت عليهم السلام، حيث ان قادة أهل البيت وائمتهم  أمثال الصادق والکاظم والرضا عليهم السلام کانوا هم المفزع للامة وملجأ الاستغاثة.
كان المأمون العباسي في حالة ضعف بعد صراعه مع أخيه الأمين فأصبح العباسيون على غير رضا على المأمون، إضافةً إلى أن العلويين كان لهم نفوذهم البارز، هنا وجد المأمون نفسه في موقفٍ ضعيف، ففكر في استقطاب الإمام الرضا عليه السلام، حتى يأمن جانب العلويين، ويتقوى بهم على العباسيين.
أمر المأمون الإمام الرضا عليه السلام، أن يقدم إليه من المدينة، وطلب منه أن يقبل الخلافة بعد أن يتنازل المأمون عنها، لكن الإمام الرضا لا يريد خلافةً تأتي عن هذا الطريق، وإنما طريقه رضا الناس وخضوعهم، فرفض هذا الأمر وقال للمأمون: إن كانت الخلافة ثوباً ألبسك الله إياه، فلم تنزعه عن نفسك وتلبسنيه، وإن كانت الخلافة لغيرك فكيف تعطيني ما ليس لك؟.
طرح المأمون على الإمام أن يُصبح ولياً للعهد، رفض الإمام ذلك، ولكن المأمون أصر وهدد الإمام، والمسألة لا تقف عن حدود التهديد لأن الإمام لا يخاف التهديد فأهل البيت عليهم السلام شعارهم: وكرامتنا من الله الشهادة. وهو يعلم أنه مقتول على يدي المأمون قبل بولاية العهد أم لم يقبل. ولكن الإمام رأى "أن من مصلحة خط أهل البيت عليهم السلام والحفاظ على هذا الخط وهذا الكيان المحمدي الاصيل" في تلك الظروف أن يقبل بولاية العهد، لأن أتباع أهل البيت عليهم السلام، كانوا يعيشون حالةً ضنكة وصعبة خصوصاً في عهد هارون الرشيد، وهم بحاجة لأن يعيشوا أجواءً هادئة وقبول الإمام بولاية العهد يُحقق هذا الهدف.
ان الظروف السياسية والفكرية والعقائدية في حياة الإمام الرضا كانت ظرفاً مميزاً، وفي هذه الظروف العصيبة جاء الإمام الرضا، عليه السلام، منقذا للأمة من جو الإضطراب السياسي الذي ينعكس بدوره على الإضطراب الفكري، وانتشار الأفكار اللادينية في الأمة الاسلامية، التي غذتها ترجمة النظام للكتب الغربية والشرقية المشحونة بالشرك والكفر والافكار الاستسلامية.
فضُرِبت رسالات السماء في صميمها الا وهو التوحيد، فكان عليه السلام بحق منهل الرسالة وينبوعها الخالص الأصيل، وحجتها في وجه التيارات الفكرية الناشئة آنذاك، فمن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية وغيرهم من انواع الزنادقة، يشهد الحق‏ بما كان للإمام الرضا، عليه السلام، من دور في رد اباطيل وخداع هذه الفلسفات والعقائد المزيفة، ومن هنا نستطيع ان نفسر كيف ان اغلب الاحاديث والنصوص الواردة عن الامام الرضا، عليه السلام، كانت في التوحيد وبقية مباني العقائد، حتى انه اشتهر ان من يحاجج تلامذة الإمام، فلابد ان ينخسئ راجعا عن قوله. ولم تكن البدع التي ظهرت في زمانه، عليه السلام، هينة او بسيطة فنرى ان رجلا يدعي النبوة وآخر يدعي انه ابراهيم الخليل وهكذا.
وحينما ننظر إلى رحلة الإمام الرضا، عليه السلام، في طريقه من المدينة إلى‏ خراسان بناء على طلب المأمون اياه، هذه الرحلة التي استغرقت عدة شهور. حيث مر بالبصرة، والاهواز، وفارس، و طوس، وحتى مرو. كان الإمام عليه السلام، اينما يحط برحله، فإنه يبث من علومه ويحاجج الملحدين والمشككين. إضافةً إلى ذلك فإن فضائل الإمام الرضا عليه السلام ظهرت بشكلٍ واسع مما دعى المأمون بعد فترة، لتنفيذ خططه الدينئة والتي كان يتحين الفرص للقيام بها فأقدم على قتل الإمام بذلك السم الذي قدمه للإمام في عنب ورمان.
ومن اللأسباب التي دعت المامون إلى اغتيال الإمام انه لم يحصل على ما اراد من توليته للعهد، فقد حدثت له فتنة جديدة وهي تمرد العباسيين عليه ومحاولتهم القضاء عليه. وقد أحس المأمون في نفسه خطورة الحدث وفداحة المصاب، وخاف تحسس العلويين وجماهير الأمة وانقلاب الرأي العام وتحرَکهم ضده واتهامه بقتل الامام عليه السلام. لذلك کتم المأمون خبر استشهاد الإمام عليه السلام يوما وليلة، ثم استدعى محمد بن جعفر الصادق - عم الامام الرضا - وجماعة من آل أبي طالب، فلما احضرهم عرض عليهم جسد الامام واکد لهم زورا، انه مات موتا طبيعيا.
يذکر المؤرخون ان الناس اتجهوا إلى اتهام المأمون وقالوا: لقد قتل واغتال ابن رسول الله (ص). وکثر اللغط والضجيج بين الناس، وهم يجتمعون حول البيت الذي فيه الجثمان، فخاف المأمون هياج الرأي العام وتحرَك الناس، فطلب من عمَ الامام محمد بن جعفر ان يخرج الى الجماهير المحتشدة ويصرفها الى وقت آخر، حيث أجل تشييع الجثمان الطاهر وعندما تفرق الناس، وعندما ارخى الليل سدوله، غسله الإمام محمد الجواد عليه السلام الذي کان قد قدم من المدينة، وصلى عليه ودفنه.
وقد رثاه دعبل الخزاعي قائلاً:
ارى أمية معذورين ان قتلوا *** ولا ارى لبني العباس من عذر
اربِع بطوس على قبر الزكي به *** ان كنت تربع من دين على خطر
قبران في طوس خير الناس كلّهم *** وقبر شرهم هذا من العبر
ماينفع الرجس من قرب الزكي وما *** على الزكي بقرب الرجس من ضرر
وأستشهد عليه السلام، في طوس من ارض خراسان في ايران، وتعرف اليوم بمدينة مشهد المقدسة، في سنة ثلاث ومائتين للهجرة النبوية الشريفة وهويومئذ ابن خمس وخمسين سنة. وكانت مدت إمامته وقيامه بعد ابيه الإمام الكاظم عليه السلام في خلافته عشرين سنة واستشهد عليه السلام يوم الثلاثاء 17 صفر أو يوم الجمعة  25  صفر سنة (203) هجرية وقيل آخر شهر صفر. ولقد وضع عليه ضريح يزهو بهاء وجالا، وتعلوه على الضريح قبة ذهبيّة تشعّ نورا وعزّا وسموّا، ويتوافد على روضته الشريفة ملايين المسلمين كلّ عام، يقصدونه من مشارق الأرض ومغاربها، ساكبين عند عتبته المقدّسة دموع الولاء، ومجدّدين معه العهد، وعاقدين عنده ميثاق الولاية.
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى عَلِىِّ بْنِ مُوسىَ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ وَرَضيتَ بِهِ مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، اَللهُمَّ وَكَما جَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ وَقائِماً بِاَمْرِكَ وَناصِراً لِدينِكَ وَشاهِداً عَلى عِبادِكَ، وَكَما نَصَحَ لَهُمْ فِي السِّرِ وَالْعَلانِيَةِ وَدَعا اِلى سَبيلِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَصَلِّ عَلَيْهِ اَفْضَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى اَحَد مِنْ اَوْلِيآئِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، اِنَّكَ جَوادٌ كَريمٌ.

208
 

تصنيف :