القابون .. كاستيلو الغوطة الجديد

القابون .. كاستيلو الغوطة الجديد
الخميس ٠٤ مايو ٢٠١٧ - ٠٨:٤٩ بتوقيت غرينتش

لا مفاوضات تستبق مسير العسكر، تجربة الدولة السورية في محاولاتها المستمرة بالوصول لحلول سلمية مع المجاميع المسلحة غالباً ما تم عرقلتها من قبل هذه المجاميع نفسها أو من رعاتها الإقليميين الذين لا يرون بداً من استدامة الصراع في سورية.

وهذا ما حدا بالدولة السورية للجوء إلى الضغط العسكري عبر سلاحها الضارب الممثل بالجيش السوري، وبصورة قد تسهم في الوصول إلى تسوية تفضي بإنهاء الصراع المسلح في هذه المنطقة أو تلك، هزيمة عسكرية أو انسحاباً ممنهجاً ترعاه مصالحة.

هذا و قد شكل إفراغ غلاف العاصمة دمشق من الوجود المسلح هدفاً رئيسا للدولة ، بما يجعل مؤسسات العاصمة و قاطنيها في مأمن من أي مؤثرات عسكرية قد تصرف لصالح المسلحين و رعاتهم في ميادين السياسة و المفاوضات.

بالقدر الذي شكل فيه تأمين محيط العاصمة مسعىً استراتيجياً شرعت الدولة العمل به منذ العام ٢٠١٤ ، فإنها قررت اتخاذ مسار جديد يعمد إلى إطلاق مبادرات للتسوية في عدد من البؤر التي تحتضن المجاميع المسلحة، و هو مسار أثبت نجاعته في العديد من المناطق لحقن الدماء و تجنيب هذه البؤر التي تتخذ من تجمعات سكانية وازنة الدمار و الخراب، فيما أسهمت هذه المصالحات في إعادة الأمن و الاستقرار إلى مناطق بعينها، فإنها أعطت المؤسسة العسكرية خيارات أوسع باستخدام فائض القوة الناتج في مناطق أخرى.

من جهتها ، رأت بعض المجاميع المسلحة في مبادرات المصالحة فرصة ذهبية دفعت فيها مناطق تشهد مواجهات مسلحة إلى القبول بالدخول في مصالحات مع الدولة مما يجنبها الصدام و يجعل منها رئة لمناطق ساخنة، فعمدت هذه المجاميع إلى استغلال المناطق التي تشهد مصالحة كممر للدعم اللوجستي لمناطق ساخنة، فيما جاوزت أخرى الأمر إلى نقل غرف عملياتها لمناطق المصالحات و لتنعم بمظلة أمان توفرها التزامات الدولة تجاه المنطقة.

و بالرغم من هذا التصور لدى عديد من المجاميع المسلحة ، فإن رهان دمشق كان في مكان آخر تماما و هو الإنسان السوري مدنياً كان أم مسلحاً . فقد هدفت المصالحات في جملة ما هدفت إليه إلى إيجاد بيئة هادئة لمن اعتاد على حمل السلاح تشبه واقعه السابق قبل الحرب علها تقنعه بتغليب واقع الأمن و السلام على ويلات النزاع و الحرب بالرغم من من تخفيفها للعبء القتالي الواقع على كاهل المؤسسة العسكرية ، و تمكين هذه المؤسسة من نقل فائض القوات لديها إلى مناطق أكثر سخونة ، تخدم المصالحات أهدافاً تكتيكية أخرى في الميدان، فلو نظرنا إلى خريطة المناطق التي شهدت مصالحات، سنجد قاسماً مشتركاً بين أغلبها و هو كونها مفاتيح لمناطق استراتيجية واقعة تحت سيطرة المجاميع المسلحة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر شكلت المعضمية منفذاً لداريا و سوق الوادي منفذاً لوادي بردى و قدسيا منفذاً للهامة و زاكية منفذاً لخان الشيح، وهذا تكتيكياً يحيلنا إلى سيناريوهات عمد الجيش السوري إلى اتباعها في تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين ، يمكن الاستدلال عليها عبر تحليل مسير مشاة هذا الجيش و المجنزرات طوال ست من سنوات هذه الحرب، حيث تعمل قوات الجيش السوري على تضييق الخناق على المناطق التي تشهد تواجدا مسلحاً و خاصة ذات الكثافة العمرانية، عن طريق ضرب طوق دائري مصحوباً باشتباكات و مناوشات و قضم متواصل للجغرافية المعادية، و هو تكتيك يحقق هدفين رئيسيين أولهما إنهاك الخصم واستنزاف موارده التي أصبحت محدودة بفعل الحصار ، وثانيهما تقليص مساحة السيطرة بما يقلل هامش المناورة و مساحة الاشتباك، و هو ما يقود بالنهاية ـ مشفوعاً بالنفس الطويل ـ إما إلى تسليم المسلحين بالقضاء المبرم موتاً برصاص الجيش و قذائفه ، أو جوعاً بفعل قطع خطوط الإمداد و التي قد تؤدي إلى انقلاب حواضنه عليه ما يعني مواجهة مزدوجة الاتجاه . و غالباً ما يفضله المسلحون بعد وصول الأمر إلى نقطة اللاعودة هذه في النزاع المسلح هو اختيار الباصات الخضراء كطوق نجاة و خيار ضرورة لا بديل عنه إلا الموت.

في مطلع العام الحالي طرحت العاصمة دمشق على غوطتها الشرقية ، خيار المصالحة و نزع السلاح و بما يؤدي للتسوية الشاملة داخل الغوطة الشرقية، غير أن المبادرة الدمشقية المشفوعة بالضمانات الروسية لم تجد صدى لها في غوطة يتقاسمها "جيش الإسلام " السعودي و هيئة تحرير الشام القطرية . و قوبلت المبادرة برفض الفصيلين المسلحين المصنف أحدهما ارهابياً.

و بصورة تعيد للأذهان مبادرة حلبية سابقة لأحياءها الشرقية انتهت باقتلاع الوجود المسلح تماماً. و كانت لغة البنادق هي الأعلى صوتاً من لغة المفاوضات، حيث دفع تعنت المجاميع المسلحة بالجيش السوري إلى فرض معادلة أخرى على الأحياء الشرقية الموبوءة بالإرهاب ، عبر قطع ارتباطها عن الشمال السوري بإغلاق معبر الكاستيلو طريق الأمداد الوحيد لتلك الأحياء من تركيا، مما أرغم المجاميع المسلحة على الانسحاب بشروط الدولة السورية إلى بؤرة تجميع سلاح الفصائل بالشمال.

و إذا ما قمنا بإسقاط ما جرى في حلب على الوضع الآني في الغوطة ، سنرى كيف سحبت دمشق لغة الدبلوماسية خطوة إلى الوراء، و عهدت لعسكرها البدء بعملية واسعة لحسم معركة الغوطة الشرقية وهي معركة لم تتوقف يوماً، و تمكن الجيش السوري خلال سنواتها الفائتة من تقليص المساحات الحيوية للمجاميع المسلحة وفق التكتيك الآنف الذكر، مما يجعل حي القابون كاستيلو دمشق الأخير المفضي لحسم معركة الغوطة نهائياً.

و في التفاصيل ، و استناداً إلى ما قالته مصادر ميدانية فإن استخبارات الجيش السوري وضعت المعلومات الراشحة إليها عن شبكات أنفاق ( برزة ـ القابون ـ الغوطة ) ضمن بنك أهداف الجيش، ومن ضمن هذه الأنفاق ثلاثة أنفاق رئيسية استطاع الجيش الوصول إلى اثنين منها يتبعان لهيئة تحرير الشام و فيلق الرحمن ، ليبقى الثالث في عهدة جيش الإسلام كممر للهروب الأخير وينتقل بذلك اندفاع العمل العسكري للجيش السوري إلى الجوار الطامح سابقا لاستعادته ( جوبر ـ عربين ـ وزملكا ).

من الناحية التنظيمية والإديولوجية لم يجد الجيش السوري صعوبة في تحديد مسار خروج الفصائل المسلحة إن كان من حلب أو من محيط العاصمة نظرا لانتماء معظم الفصائل إلى قيادات شمالية، ولكن في الغوطة الوضع مختلف كلياً نظراً لانتماء قادة جيش الإسلام إلى البيئة المحلية ذاتها ودون وجود أرضية لهم في أماكن أخرى تسمح بنقلهم إليها.

وقد كشف خلاف المصالح والنفوذ المعمد بالدم و النار بين جيش الإسلام من جهة و هيئة تحرير الشام و فيلق الرحمن من جهة أخرى ، عن تصميم جيش الإسلام على اقتلاع هيئة تحرير الشام من مجاله الحيوي في الغوطة ، كما كشف هذا التناحر عن الاشتباك السياسي بين رعاة هذه المجاميع المسلحة و المتمثلة بالسعودية و قطر و بما يبوح برغبة الراعيين الإقليميين السيطرة على غلاف العاصمة دمشق بغرض حشد الأوراق للحظة المفاوضات، كما يقف تهميش العامل السعودي في سلسلة من المصالحات التي أبرمتها فصائل محسوبة على القطري كاتفاق المدن الأربع قبل أسابيع عاملاً رئيساً يقف خلف رغبته باقتلاع وكلاء منافسه القطري في الغوطة. و هنا يبرز السؤال الأهم حول كيفية التعاطي مع عدو كجيش الإسلام من قبل الدولة السورية ؟!!

*جعفر يونس - دمشق الآن