النأي بالنفس والفول المدمّس

النأي بالنفس والفول المدمّس
الأحد ١٤ يناير ٢٠١٨ - ٠١:٠٥ بتوقيت غرينتش

أنا لا أفكر، اذاً أنا موجود. وليذهب رينيه ديكارت الى الجحيم! 

العالم - مقالات
المفكر الفرنسي ريمون آرون قال «الديموقراطية! أن تكون كل الأبواب مشرّعة أمام العقل البشري». عندنا «ديموقراطية الدمى». كل الأبواب مقفلة في وجه العقل البشري.

نحاول أن نتتبّع خارطة الدوائر في قانون الانتخاب الجديد. ألا يبدو غازي كنعان أكثر ديموقراطية (ورؤيوية) من أفلاطون؟ في زمننا لا مكان للكثافة الأخلاقية. الحنكة المكيافيلية ولو لامست اللامعقول.

مثلما نذهب بغرائزنا الصدئة الى صناديق الاقتراع (توابيت الاقتراع)، تذهب بنا غرائزنا المبرمجة الى الكوميديا السياسية. بعض أهل السلطة يحاولون اقناعنا بأن لهم مقعداً على رقعة الشطرنج. حتى على رقعة الشطرنج لا مقعد لهم.

ماذا يعني ذلك المصطلح الفضفاض والملتبس «النأي بالنفس»، كما لو أن قرار الابتعاد عن لعبة المحاور (وهم في قعر المحاور) قرار حول طبق من الفول المدمس، ولا يرتبط بالصراع المعقد الذي يجري أمامنا، وفوقنا، وتحتنا، وربما داخل ثيابنا. 

مصطلح غرائبي كما الكثير من مصطلحاتنا. النأي بالنفس في حين أن الاستقرار الراهن انعكاس للستاتيكو الذي كرّسته القوى الدولية، ولا تأثير لنا فيه. أين هي الحدود بين أميركا وسوريا، بين روسيا وسوريا، بين ايران وسوريا؟ كثيرون منا تورطوا في الحديث عن صفقة ما حول «النأي بالنفس». كل ذلك السيناريو الباهت للتغطية على المشهد الشكسبيري في الرابع من تشرين الثاني في الرياض. الابتعاد عن المحاور هو كما الابتعاد عن حركة (وحركية) الكواكب. اللعبة أكبر منا. اللاعبون أكبر منا.

دونالد ترامب لم ينشىء قواعد على الأرض السورية من أجل الأكراد. هؤلاء مثلنا وقود للصفقات الصغرى والكبرى. الرجل يريد معاهدة سلام بين دمشق واورشليم، وعلى أساس أن سوريا اليوم غير سوريا الأمس.

الترسانة الكيميائية التي أرست حالة من التوازن مع الترسانة النووية الاسرائيلية تم تفكيكها. البنية السوسيولوجية ضربت في العمق، الدور الجيوستراتيجي تساقط قطعة قطعة بعدما تم استنفار كل مرتزقة العالم، وكل الايديولوجيات الهمجية، وكل الشاشات التي يمتزج فيه قرع الطبول مع رقصة العباءات الموشاة بالذهب.

اذاً، انها اللحظة السحرية لاستيعاب دمشق، وعلى غرار القاهرة التي دخلت في المتاهة، ولا تزال. واذا كان فلاديمير بوتين قد قال ان قواعد النظام العالمي الجديد تنبثق من سوريا، يرى دونالد ترامب أن صياغة هذه القواعد تبدأ حالما يلج السوريون والاسرائيليون الى ردهة المفاوضات.

لا جنيف، ولا أستانا، ولا سوتشي. ليس ثمة من يدّعي أن النظام في سوريا ظاهرة مقدسة، لكن واشنطن التي طالما تبنت تلك الوجوه الاصطناعية، والرثة، ان في جمهوريات الموز (أميركا اللاتينية)، أوفي الهند الصينية، وفي العديد من البلدان العربية، لا تنظر الى المعارضات السورية التي تكدست على أرصفة الآخرين، أحذية الآخرين، أكثر من تماثيل من التنك.

كل من يقول ان التسوية في سوريا، والمنطقة تزداد تفككاً وتفتتاً، وراء الباب، يخدع السوريين، ويخدع نفسه بالدرجة الأولى. لاحظوا الايقاع الذي تأخذه سياسات البيت الأبيض، وحيث التقاطع الصارخ مع الكنيست.

الآن، يقال لبشار الأسد «عليك أن تفاوض الذئاب، ولن نتزحزح من هنا». لا تصدقوا رجب طيب اردوغان الذي، كما قلنا، يرقص على خيوط العنكبوت. انه اللاعب وسط الحلبة الاسرائيلية مهما حاول أن يظهر بمظهر من يدافع عن القدس (أين الخطوة العملية... النصف خطوة؟). 

كل المنطقة في الدوامة. نحن في لبنان الذين بيننا، أو على أكتافنا، يمضون بنا، ودائماً عبر الشاشات، من «النأي بالنفس» الى «الاستراتيجية الدفاعية»، ومن ثم الى التظاهرات الايرانية على أنها تفضي، تلقائياً، الى بيع صواريخ «حزب الله» بالمزاد العلني. مصطلحات وتصورات الغاية منها الضحك على عقولنا. مثل كل شيوخ القبائل، اغتيال الزمن يبدأ باغتيال العقل.

الساحة اللبنانية على الساعة السورية. تأكيدات الى بعض الساسة بأن الصفقة آتية، وبأن دونالد ترامب لن يغادر سوريا قبل أن يرى نجمة داود ترفرف على ضفاف بردى.

رهان سيزيفي على التظاهرات التي توقفت في ايران، كما لو أن العقوبات الأميركية ليست مسؤولة عن الاختناق الاقتصادي، وحديث دونكيشوتي عن أن «حزب الله» أمام أزمة البقاء.

هذا أحد فصول الكوميديا السياسية. خذوا علماً بأن سوريا لن تفاوض. لبنان لن يعود الى 17 أيار، وما هو أسوأ منه. الستاتيكو الى اشعار آخر. اللعب على الشاشات لا أكثر ولا أقل...

 تريدون دليلاً ساطعاً على النأي بالنفس. القاذفات الاسرائيلية تضرب بالصواريخ، من أجواء كسروان، مراكز عسكرية قرب دمشق. النأي بالنفس أم النأي عن النفس؟.

نبيه البرجي / الديار 

109