سوريا.. "سراب" زيادة الرواتب

سوريا..
الأحد ٢٧ مايو ٢٠١٨ - ٠٦:٥٥ بتوقيت غرينتش

بين وقت وآخر تسري شائعات عن زيادة وشيكة لرواتب الموظّفين، معطوفةً في بعض الأحيان على تصريحات لمسؤولين حكوميين. ثمّة شائعات لا تكتفي بزفّ بشرى الزيادة القريبة، بل تحدّد مقدارها بشطحات غريبة تزعم حيناً أنّها ستكون بنسبة 50%، وحيناً بنسبة 100%!

العالم-سوريا

الواقع أنّ زيادة بهذا الحجم على الرواتب ليست أمراً مستعصياً فحسب، بل هو أمر لم يُدرج يوماً في خطط هذا العام، ولا تضمّنته دراسات ولا نصّت عليه اقتراحات. وتبدو هذه الشائعات أشبه بترويج لحصاد لم تُزرَع بذاره أصلاً!

إنّ أكثر ما تضمّنته موازنة العام الجاري في هذا الإطار هامش يتيح زيادة مدروسة وممكنة للرواتب بنسبة 8 في المئة في حدٍّ أعظم. وبرغم زيادة حجم الموازنة بالليرة السوريّة، فإنّ قيمتها بالنسبة إلى الدولار الأميركي أقلّ بكثر من نظيرتها في عام 2010 مثلاً. بلغت موازنة 2010 ما يعادل 16 مليار دولار تقريباً (754 مليار ليرة)، مع رواتب لموظفي القطاع الحكومي تراوح بين ما يعادل 195 دولاراً و325 دولاراً تبعاً للقدم الوظيفي وطبيعة العمل. أما موازنة العام الحالي، فناهزت 6 مليارات دولار، مع أن قيمتها بالليرة السورية 3187 مليار ليرة (أكثر من 4 أضعاف موازنة 2010)، فيما انخفضت رواتب الموظفين لتراوح بين ما يعادل 60 و80 دولاراً فقط.

المشكلات لا تقتصر اليوم على تقلّص الموازنة، أو عدم القدرة على زيادة أصل الراتب بنحو يتناسب مع حجم التضخم السعري وانخفاض القوة الشرائية لليرة. ثمّة مشكلات أخرى تتعلّق بغياب الشفافيّة والغموض وتقديم أنصاف حقائق. وبسياسات اقتصاديّة أفرزت مع خواتيم الحرب خمولاً اقتصاديّاً، بدلاً من حركة تكنوقراط تسعى إلى خلق زيادات في الدخل الإجمالي (أصل الراتب مضافةً إليه المكافآت والحوافز).

حسابيّاً لا يمكن اليوم رفع الرواتب بنسبٍ تضاهي الوعود والشائعات. فحجم الإيرادات وفقاً للموازنة 2378 مليار ليرة، أما حجم الإنفاق فـ2362 مليار ليرة. ويبدو هذا كافياً لفهم أن باقي البنود (من استثمار ودعم اجتماعي ودعم محروقات وكهرباء وما شابه) ستكون تحت مظلّة العجز ما لم تحدث طفرة في التصدير تنقذ الوضع. إنّ بنوداً متواضعةً كالتي احتوتها الموازنة لا يمكنها النهوض بـإعادة إعمار بلد متضرر بما يزيد على 275 مليار دولار، فيما لا تتجاوز مخصّصات «لجنة إعادة الإعمار والتعويض عن الأضرار» 50 مليار ليرة فقط. ثمة حاجة إلى مضاعفة الرقم بمقدار 500 مرّة شريطة القدرة على تثبيت سعر الصرف!

لا يمكن اليوم رفع الرواتب بنسبٍ تضاهي الوعود والشائعات

لا خلاف على أنّ الاقتصاد الوطني يعيش ظروفاً بالغة السوء من جرّاء حرب اقتصاديّة ضارية، لكنّ المشكلة في الاستمرار ببيع الأوهام من دون العمل على رسم خططٍ إنقاذيّة تمتد على سنوات عدّة وتنشد الوصول إلى أكبر حدّ ممكن من التوازن (توازن الدخل مع القوة الشرائية، وتوازن العرض مع الطلب). لماذا مثلاً لا نلحظُ سعياً حكوميّاً إلى دعم الإنتاج الصناعي لخلق حركة تصدير، بدلاً من دعم استيراد 50 في المئة من المواد الأولية ونصف الأوليّة كما يحصل الآن؟ لماذا لا تحظى الزراعة بالقدر الكافي من الاهتمام والدعم؟ لماذا يخسر المزارع محصوله بسبب عدم قدرته على شحنه وتسويقه، ولا سيّما في ظل النفقات الهائلة للشحن البري؟ ولماذا أصلاً تحافظ تكاليف هذا الشحن على ارتفاعها رغم خلوّ معظم الطرقات من المحاذير الأمنيّة التي كانت قائمة قبل عام؟

نعم، لا تمكن زيادة الرواتب بنسبٍ كبيرة في ظل الضعف الإنتاجي الحالي. لكن ألا يمكن وضع خطط لترميم الدخل بمجمله؟ والدخل هو حاصل أصل الراتب + المكافآت + الحوافز + التعويضات. بلى، ثمة حلول تتيح زيادة هذا الدخل بدءاً بالموظفين، وهم في الوقت الراهن إلى جانب عناصر الجيش والمتضررين وذوي الشهداء والجرحى أكبر شرائح الشارع السوري.

ثمة الكثير مما يمكن عمله لتحسين دخل الشرائح الأفقر: فتح القروض للتعويض عن المدفوعات الشهرية؛ تبادل الخبرات؛ استجرار آخر الأبحاث العلمية لحل مشكلات الشركات والمصانع؛ دعم التصدير والصناعة؛ تحفيز الدافع المادي بالمكافآت المغرية، جميعها ممكنات في زمن الآمال. لا بدّ من نهج استراتيجي يحدد بنحو دوري ومستمر موجودات كل قطاع وما يمكن استثماره والاستفادة منه أو حتى المقايضة عليه. ليست البلدان التي قامت (وحقاً قامت) من حروبها ببعيدة عنّا، هناك الكثير من التجارب التي تمكن الاستفادة منها، والكثير من الأفكار الممكنة بل الواجبة التطبيق. لا بدّ من تبادل للخبرات، ودعوة الخبراء إلى ورشات عمل، وإنجاز دراسات وتسويقِها والإشراف على تطبيقها من قبل واضعيها. لماذا لا نشهد استحداث «مركز بحوث تسويقية» حقيقي مثلاً يعمل أوّلاً على تسويق كفاءات نُخبٍ منتقاة من القطاع الحكومي ودعم القطاع الخاص بها، بدلاً من استجرار عقود وخبراء أو اختصاصيين في مختلف الاختصاصات من الخارج لفك معضلة أصغر المسامير؟!

إنّ خطة «إطفاء الأنوار الوزارية» بدلاً من إطفاء الأنوار الطرقية هي أجدى الشعارات الاقتصادية الرمزية لخفض النفقات وتحرير النهوض. يستحقّ الانتصار الظهور بمظهر المنتصر: عمراناً وشعباً وشارعاً، علماً وعملاً وخططاً حقيقيّة.

نسرين زريق - الأخبار

HUS-2