کیف تتسبب إصلاحات بن سلمان في تقسيم السعودية والمنطقة؟

کیف تتسبب إصلاحات بن سلمان في تقسيم السعودية والمنطقة؟
الثلاثاء ١٩ يونيو ٢٠١٨ - ٠٦:٠٩ بتوقيت غرينتش

أطلق السلطان العثماني عبد المجيد الأول، في العام 1839، إصلاحات قانونية وإدارية واجتماعية، عُرفت في ما بعد بالتنظيمات العثمانية، بهدف تحديث الدولة العثمانية، واللحاق بركب الدول الأوروبية التي كانت قد سبقتها إلى ذلك قبل قرون.

العالم - السعودية

ولكن أفضت الإصلاحات العثمانية، في النهاية، إلى سقوط الدولة العثمانية التي استمر حكمها ستة قرون، وإن كانت هناك أسباب متعدّدة لهذا السقوط، إلا أن أهم الأسباب الرئيسية هو التسلط والاستبداد السياسي وعدم مجاراة التحديث السياسي للتحديثات العسكرية والإدارية والقانونية. 

شيء مشابه لذلك يحدث الآن في السعودية، مع إطلاق عملية تحديث متعجلة وغير مدروسة، يقودها ولي العهد محمد بن سلمان. يحاول فيها حرق المراحل التاريخية، من أجل تحديث الدولة اقتصاديا وإدارياً واجتماعياً، وذلك في وقت يطبق فيه الاستبداد السياسي علي المجتمع السعودي الذي لا يستطيع أن يتنفس، أو أن يعبر عن نفسه بحرية.

وقد افضت التنظيمات والإصلاحات العثمانية، والتي لم يكن المجتمع شريكاً في وضعها، وتم فرضها عليه قسراً، إلى تفسّخ الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، وظهور حركات انفصالية في مناطق مختلفة من السلطنة، سواء في تركيا أو مصر أو جنوب أوروبا والبلقان. كما تجرأت أوروبا وروسيا على السلطنة، وبدأوا في تقسيم أراضيها بينها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حتى سُميت الدولة العثمانية وقتها "رجل أوروبا المريض" الذي فقد قوته شيئاً فشيئاً، حتي مات تماماً بإلغاء السلطنة عام 1924.

وكما يقول خليل العناني أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، لا يدرك بن سلمان، ومن خلفه، أن محاولة فرض الإصلاحات بالقوة علي مجتمع تقليدي تماماً كالسعودية قد تؤدي، في النهاية، إلى عكس ما يطمح إليه، ذلك أن المجتمع يحتاج وقتا طويلا كي يهضم هذه التغيرات والإصلاحات المتسارعة. كما لا يدرك أن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية سوف تفضي، في نهاية الأمر، إلى المطالبة بإصلاحات سياسية، نتيجة زيادة الوعي وارتفاع التوقعات لدى شرائح اجتماعية صاعدة، وهو ما قد يؤدي، في النهاية، لإطاحته وبعائلته من السلطة. ولا يعلم محمد بن سلمان أن القمع غير المسبوق الذي يمارسه الآن قد يمهد الأرض لظهور خلايا وشبكات راديكالية، قد تتخذ من إصلاحاته المتعجلة ذريعة لمعارضته وتعكير صفو إصلاحاته  وربما يحتاج بن سلمان، وحلفاؤه، أن يقرأوا تاريخ الدولة العثمانية أواخر عهدها، ليدركوا أن لكل إصلاح فاتورة وثمنا، لا بد أن يُدفع، وإن طال الزمن.

وتبدو التناقضات المتأصلة في السياسات السعودية لدعم الاستقرار المحلي والإقليمي واحدة من التحديات الرئيسية أمام النظام الخليجي المعاصر وقد يكون التحول الذي يقوده بن سلمان لدفع الإصلاح في الداخل قد يكون هو «صندوق باندورا» الإقليمي. وما زالت معظم المشاكل الهيكلية في المنطقة تتفاقم في خلفية المشهد، لذا، فإن الجهود السعودية للإصلاح قد تؤدي إلى موجة جديدة من عدم الاستقرار الإقليمي.

ويرجع ذلك بحسب ناشيونال انترست، إلى أن قدرة القيادة السعودية على امتلاك وإدامة الإصلاح تبدو مشكوك بها في أحسن الأحوال. ومع ذلك، يبدو السعوديون أكثر جرأة لاستمرار نشاط السياسة الخارجية الجديد، الذي يعتمد مرة أخرى على الركائز الهشة للقيادة الأمريكية، ومناهضة إيران، والتحالف مع الجهات الإقليمية المؤيدة للغرب، بما في ذلك الكيان الاسرائيلي وبدون توافق في الآراء، ولا سيما بين الدول الخليجية، حول النظام الإقليمي، فإن تكرار الأزمات أمر حتمي، ومن المرجح أن تكون قدرة الدول الخليجية على الابتعاد عن النزاعات الإقليمية مجرد وهم.

وتعد التصدعات في الوحدة الخليجية سببا كافيا لإعادة التفكير في النهج الحالي للقيادة السعودية، حيث تختلف البلدان الإقليمية والإسلامية حول الصراعات الجارية في المنطقة، من سوريا إلى اليمن. وقد تحول التنافس بين الإمارات وقطر على السيادة إلى نكسة كبيرة لاستقرار الدول الخليجية، وتؤكد الأزمة الخليجية في حد ذاتها على الحاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة بين دول مجلس التعاون. وحتى إمكانية «السلام البارد» القسري الذي تمارسه الولايات المتحدة لا يمكن أن يحقق العمل المشترك الذي تشتد الحاجة إليه بين الدول الخليجية. وسيكون للمواجهة التي تلوح في الأفق مع إيران عواقب وخيمة على أمن هذه الدول.

وتتعرض الدول الخليجية لضغوط من كل اتجاه، وقد أدت الشكوك المتزايدة بشأن الاقتصادات أحادية المورد، إلى جانب التضخم والحاجة الماسة إلى خلق فرص عمل، إلى فرض الكثير من الضغوط على الأنظمة الملكية في الدول الخليجية. وربما تكون دول مجلس التعاون قد نجت من الانتفاضات العربية بفضل الموارد المالية الضخمة، ومع ذلك، وكما أشارت تحركات ولي العهد السعودي الأخيرة، فإن التغيير يقترب من كونه خيار حتمي.

وعلى صعيد أوسع، تعد السعودية هي قوة الوضع الراهن التي تهدف إلى إدامة نظام ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط، الذي منح آل سعود النفوذ الاقتصادي والأمني ​​والديني. وبناء على هذه المزايا، تستند السياسة الخارجية السعودية إلى مظلة الأمن الأمريكية، وعائدات النفط، ودور العائلة المالكة كحارس أمين على المناطق الإسلامية المقدسة.

وكان الربيع العربي بمثابة ضربة أساسية لهذه الركائز التقليدية للسياسة الخارجية السعودية. أولا، أصبحت القدرة على الحفاظ على الدرع الأمني ​​الأمريكي هشة بعد تراجع التزام أوباما تجاه الشرق الأوسط. ولم يكن سقوط الرؤساء الأقوياء مؤشرا على نهاية تلك الحقبة فحسب، بل أيضا على حتمية التغيير، خاصة مع تزايد الشكوك حول دعم الولايات المتحدة. واستلزم هذا الأمر ترتيب البيت من الداخل أولا، وهو ما رأته القيادة السعودية على أنه ضرورة لتحدي البدائل السياسية والأيديولوجية وقد أدت هذه القراءة الوجودية للأحداث إلى مواجهة سعودية لا تتزعزع ضد الإخوان المسلمين وإيران.

وقد وضعت السعودية استراتيجية للحفاظ على توازن القوى لصالحها، من خلال تأمين أنظمة متشابهة التفكير مع الحلفاء التقليديين مثل مصر واليمن ومواجهة طموحات إيران للهيمنة الإقليمية في سوريا. ولهذه الغاية، أطلقت العنان لتأجيج الخطاب الطائفي، معتقدةً أن مواردها المالية الضخمة ستوقف موجة التغيير. وقد نجحت الرياض في الحفاظ على سلامة حدودها، والحفاظ على الحد من تأثير الربيع العربي بعيدا عن أراضيها، ومع ذلك، فقد كلف ذلك السعودية سياسة تدخلية جديدة ومزيد من المشاركة في المنطقة.

ولكن مقاومة السعودية لنداءات التغيير في المنطقة تسببت في زعزعة أمنها واستقرارها وقوضت تحركات الوحدة السنية. كما فقد مجلس التعاون مظهر الوحدة والترابط، والأسوأ من ذلك، انقلب على نفسه. وقد تسببت السياسة السعودية لإبقاء النار مشتعلة في المنطقة في خطر تحول تلك النار إلى تهديد هيكلي ضد الممالك العربية الموالية للغرب.

وأدت المحاولات التي قادتها السعودية لوقف انتشار الإسلام السياسي، والعمل ضد أنماط الحكم الانتخابية، إلى إضعاف الشرعية السياسية للأنظمة العربية. وكانت حركات الإخوان المسلمين، على الرغم من المآخذ عليها، قيد التطور إلى طريق ثالث بين الأنظمة البائدة للرؤساء المستبدين والدعوات الرجعية القائمة على التطرف الراديكالي. وبشكل عام، لا يزال الإسلاميون يمثلون التحدي الأول ضد الأنظمة السياسية الخليجية، وربما كان ظهور تنظيم داعش مرحب به في البداية من قبل بعض الأوساط السعودية، ولكن سرعان ما أصبح واضحا للإدارة السعودية أنه يشكل تهديدا أكثر إلحاحا من القاعدة.

وفي حين كانت تلك التحديات تتصاعد، كانت العلاقات السعودية مع بقية دول مجلس التعاون تتعقد أكثر فأكثر، ورغم أن حجم السعودية النسبي، وثرائها الاقتصادي، وشراكتها الرئيسية مع الولايات المتحدة، قد غذت دورها في القيادة الخليجية إلا أن هذا لم يمنع بلدانا مثل قطر وعمان وحتى الإمارات من السعي إلى الحصول على مسارها المستقل.

ومرة أخرى، كانت القضية الرئيسية التي أدت إلى دق إسفين بين دول مجلس التعاون هي التنافس حول النظام الإقليمي. وقد لعبت قطر دورا رائدا في احتضان الإسلام السياسي، حتى بعد سقوط «مرسي» في مصر، وكان يُنظر إلى مشكلة دعم قطر للحركات التابعة لجماعة «الإخوان المسلمين»، ودورها المتزايد في سوريا ومصر واليمن وليبيا وفلسطين وأفغانستان والسودان، من قبل السعوديين، وبشكل أشد من قبل الإماراتيين، على أنه دور أكبر من حجمها لا تستحقه. وبالنسبة للسعودية، كانت قطر بعيدة كل البعد عن كونها شريكا يجب استشارته حول التطورات الإقليمية، ولكن بدلا من ذلك يجب أن تصبح تابعا منضبط السلوك. وبالنسبة لقطر، كانت القضية الأساسية هي تبني سياسة خارجية مستقلة. ومن ناحية أخرى، كان لدى سلطنة عمان تقليديا خط أكثر تأييدا لإيران، في حين حاولت الكويت الحفاظ على دورها كوسيط نزيه.

ونشأ الدور المتصاعد لدولة الإمارات بهدف تحقيق لهدفها النهائي المتمثل في دحر الإسلام السياسي بشكل كبير لذا كان تحييد النفوذ القطري وقطع علاقات الدوحة مع الإخوان المسلمين من مصر إلى ليبيا وسوريا والسودان والصومال هو اهتمام أبوظبي الأكبر. ونتيجة لذلك، أطلقت الإمارات حملة شاملة ضد قطر في المحافل الإقليمية والعالمية. وترمز الأزمة الخليجية في حد ذاتها إلى انقلاب الإماراتيين على فكرة الوحدة الخليجية، وفي مقاربة أكثر إثارة للجدل، ادعت الإمارات أنها تقود جبهة علمانية وموالية للغرب ضد الجهود القطرية لاحتضان الإسلام السياسي، وعلاوة على ذلك، فإن القواعد العسكرية لدولة الإمارات من أرض الصومال إلى إريتريا واليمن، فضلا عن مشاركتها في العمليات العسكرية في ليبيا بالتعاون مع القوات المصرية، أبرزت سعيا أوسع للإمارة لقيادة التطورات الإقليمية.

وفي محاولة للتغلب على أزمة الانقسام، أسس الملك سلمان التحالف العسكري لمكافحة الإرهاب، بمشاركة 34 دولة إسلامية في البداية. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن كان محاربة الإرهاب والتنسيق بين الدول الإسلامية، إلا أن استبعاد إيران أكد على هدف السعودية بعزل خصومها الإقليميين. وكان الدافع الضمني هو تجنب الانتقادات المتزايدة بشأن عدم التزام القوى السنية بمقاومة صعود تنظيم داعش في سوريا والعراق، لكن ما يسمى بـ «التحالف» أظهر عدم قدرة السعوديين على توحيد الدول السنية أو توجيهها نحو العمل المشترك.

وتم تفسير زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى السعودية على أنها لدعم الأهداف السعودية في المنطقة. ونتيجة لذلك، تحرك السعوديون المنتشون مع الإماراتيين، لإخضاع قطر، وترمز الأزمة الخليجية إلى محاولة سعودية إماراتية لترسيخ التحالف المناهض لإيران ومعاقبة أي خروج عن هذا المسار. وقد مهدت هذه الأزمة الطريق لظهور بن سلمان باعتباره المحرك والدافع لتلك السياسة الإقليمية.

لكن استدامة العلاقات الأمريكية السعودية في عصر ترامب مشكوك فيها في أفضل الأحوال. فحتى لو لم يكن التفكير الأمريكي انعزاليا تماما، فإن المشاركة ستكون بالتأكيد محدودة وتستند إلى أهداف محددة، ولن تأتي بدون ثمن.

وبالنسبة لكيان الاحتلال قوض الارتباط الوثيق لـبن سلمان بالمصالح الإسرائيلية الدور السعودي المفترض كحامي للمصالح السنية. ونتيجة لذلك، خرج الملك سلمان مؤخرا ليؤكد مجددا التزام السعودية بالقضية الفلسطينية ووضع القدس. وعلى جبهة اليمن، لم تفلح العملية التي قادتها السعودية لدعم حكومة عبد ربه منصور هادي المستقيل في بلوغ هدف الانتقال السياسي، كما أدت أيضا إلى إدانة دولية كبيرة لمقتل المدنيين والكوارث الإنسانية التي تسببت بها الحملة العسكرية. وبعد 3 أعوام من الحرب، فإن امتداد الصراع إلى عمق الأراضي السعودية، مع الهجمات الصاروخية المستمرة من اليمن، فضلا عن الأنباء الأخيرة حول الاختلافات المتزايدة مع الإمارات حول الأهداف الانتقالية، تشير إلى المزيد من المشاكل للأهداف الأمنية السعودية في وقت تتزايد فيه التساؤلات حول مدى استدامة برنامج الإصلاح الذي دفع به بن سلمان، ونشاط السياسة الخارجية في واشنطن، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تشويه سمعة الولايات المتحدة في المنطقة.

106-104