إلى متى تبقى مصر في موقع التبرير ورد الفعل؟!

الثلاثاء ١١ يناير ٢٠١١ - ٠٩:١٢ بتوقيت غرينتش

منذ أعوام وربما عقود لم تكن مصر مرتبكة وواهنة كما هي عليه الآن. ففي نهاية الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كانت مصر جمال عبد الناصر رائدة على صعيد المحيط العربي والإقليمي والعالمي. وكان لها دور في دعم حركات المقاومة والتحرر وامتد حضورها ليكون فاعلاً في تشكيل منظومة دول عدم الانحياز ولتترك بصماتها في العديد من القضايا والمسائل الدولية الجوهرية.

منذ أعوام وربما عقود لم تكن مصر مرتبكة وواهنة كما هي عليه الآن. ففي نهاية الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كانت مصر جمال عبد الناصر رائدة على صعيد المحيط العربي والإقليمي والعالمي. وكان لها دور في دعم حركات المقاومة والتحرر وامتد حضورها ليكون فاعلاً في تشكيل منظومة دول عدم الانحياز ولتترك بصماتها في العديد من القضايا والمسائل الدولية الجوهرية.

 

لكن هذا الحضور الكبير وهذا الدور الفاعل بدأ يتراجع عملياً منذ نهاية السبعينات عندما وقّعت مصر أنور السادات معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، وانكفأت إلى داخل حدودها منسحبة من دورها الفاعل في الوسط العربي وفي إفريقيا وأسيا وخارجهما. وقد انعكس ذلك وما يزال، على حجم حضورها وموقعها وأهميتها وسيغري هذا التراجع العديد من الدول الأخرى ـ الإفريقية أولاًـ "للتمرد" على الدور والحضور المصري.

 

أولاً، مصر التي لطالما وصفت بأنها هبة النيل، بدأت تخشى على حصتها من مياه النيل بعدما استفاقت دول المنبع على ناقوس خارجي يحرّضها على المطالبة بتغيير الحصص المائية التي كفلتها المعاهدات الدولية الموقعة منذ عقود. فدول المنبع السبع، تسعى في إطار اتفاق جديد لإقامة عدد من مشاريع الري والسدود لتوليد الكهرباء في الدول التي ينبع ويمر فيها النهر، فيما تؤكد جهات عدّة تورط إسرائيل في خلق أزمة المياه بين دول حوض النيل، وأن انفصال جنوب السودان قد يعقد موقف دولة شمال السودان ومصر بالكامل نسبة إلى أن دولة الجنوب الجديدة تملك جزءا كبيرا من المياه.

 

وعلى صعيد تأثير انفصال جنوب السودان، أكد ممثل وزارة الخارجية المصرية السفير محمد مرسى، في كلمة له أمام مجلس الشعب المصري (يو بي آي ـ 28/12/2010) "أن مصر تدرس كافة السيناريوهات بعد انفصال جنوب السودان المتوقع، وأن هذه الدراسات تجري بالتعاون مع جهات عدة في مصر وتتناول بشكل خاص ما يتعلق بالأمن القومي المصري في هذا الشأن". وهذا القلق المصري من الحضور الإفريقي بوجه مصر لم يكن لولا تراجع القاهرة عن ممارسة دورها في القارة السمراء.

 

ثانياً، دأبت مصر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني عام 1978، على العمل بهذه الاتفاقية والالتزام بها وتطبيق بنودها، ولكن الجانب الإسرائيلي، خرقها مرات عديدة وبشكل فاضح قولاً وعملاً، سواء عبر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المعادية، ومنها تهديد وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي أفيغدور ليبرمان بتدمير السد العالي وإساءته للرئيس المصري، أو عبر خرق الأمن القومي المصري. وأحدث الانتهاكات الإسرائيلية، وليس آخرها ربما، كان شبكة التجسس التي اكتشفت العام الماضي، وهي واحدة من شبكات تعمل على خرق شبكة الاتصالات المصرية وتتجسس على المسؤولين والوزراء المصريين وتلعب دوراً كبيراً في توتير العلاقات المصرية مع بعض الدول العربية. وتبين أنه وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على اتفاقية السلام بينهما، ما تزال إسرائيل تتعامل مع مصر بحذر وعلى أساس أنها عدو محتمل، وتتوقع تراجعها عن الاتفاقيات الموقعة معها إن تغيّرت الأوضاع الداخلية في مصر.

 

 

ثالثاً، وفيما اعتاد العرب والمسلمون أن تكون مصر تاريخياً، في مقدمة الدول الداعمة لحركات التحرر ضد الاستعمار وحركات المقاومة ـ كما دعمت حركات التحرر في الجزائر وليبيا وبقية القارة الإفريقيةـ لقي الموقف المصري السلبي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل عامين استغراباً واستهجاناً كبيرين. وبدل أن تساعد مصر الفلسطينيين تحت القصف، بادرت إلى إغلاق المعابر مع القطاع مما ولّد شعوراً عربياً وإسلامياً واسعاً بأن مصر لم تكن إلى جانب المقاومة بقدر ما كانت إلى جانب المحتل الغازي. وقد ترك الموقف المصري علامات استفهام كبيرة عن الحرية التي تتمتع بها مصر في مواقفها وعلاقاتها الخارجية بعد كامب ديفيد، والتوجهات المصرية الحقيقية.

 

رابعاً، يكتمل هذا التساؤل ويجد مبرراً لطرحه، بعدما عانت وما زالت تعاني العلاقات المصرية العربية ومنذ سنوات.. الكثير من الجمود والبرود؛ مثل العلاقات المصرية الجزائرية والمصرية السورية والمصرية مع بعض الأطراف اللبنانية، والمصرية المغربية...الخ. وبدت مصر وكأنها لا تعطي اهتماماً كبيراً لهذه العلاقات وتحسينها مقابل حرصها على علاقاتها الجيدة والممتازة مع كيان العدو الإسرائيلي رغم النتائج السلبية لهذه العلاقات ورغم السلوك الإسرائيلي الاستفزازي، وكأن مصر تريد الابتعاد عن تاريخها النضالي السابق الذي اقترن بعلاقات مميزة مع هذه الأطراف العربية، ولاسيما سورية والجزائر.

 

داخلياً، عانت مصر خلال السنوات والأشهر الماضية من أزمات متلاحقة، اجتماعية ومعيشية وشهدت مصر عددا من حوادث القطارات وغرق العبارات وغيرها من الحوادث التي ترقى "نسبياً" إلى مصاف الكوارث الوطنية والناجمة عن الإهمال والفوضى وترهل البنى التحتية المصرية وتخلف الدولة وضعفها وعجزها عن مواكبة المتطلبات السكانية المتزايدة والحاجات الضرورية الملحّة.

 

ولكن الخطر الأهم الذي تواجهه مصر حالياً، هو التوترات المتتالية بين المسلمين والأقباط، والتي يبدو أن جهة خارجية ما’ تغذيها وتعمل على تزكيتها. وقد انتهى العام الماضي بمأساة تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، مما قاد إلى تصعيد في الأوضاع الداخلية بين المسلمين والأقباط وهو ما يشكل نوعاً آخر من الضغوط التي أظهرت وهن الدولة المصرية وتراجعها بشكل كبير.

 

وفي كلّ الأحداث التي ذكِرت وغيرها عديدة أخرى، كان موقف الحكومة المصرية هو اللجوء إلى الدفاع و التبرير ورد الفعل أمام الجهات العربية والأوروبية والدولية، ولم تكن في موقع المبادرة والقيام بالفعل. وأصبح الموقف المصري في السنوات الأخيرة خلف الحدث وتابعاً له ومنفعلاً به، وليس مشاركاً في صياغته أو في التأثير عليه أو إدارته وتوجيهه بما يتناسب مع حجم مصر وموقعها الجيوسياسي العربي والإقليمي والدولي. وهذه نتيجة شبه حتمية لسياسة الانكفاء التي مارستها مصر منذ عدة سنوات.

 

وتواجه مصر لاحقاً، هذا العام مسألة مهمة وهي الانتخابات الرئاسية وسط غموض حول الخليفة المحتمل للرئيس حسني مبارك الذي تخطى الثمانين من العمر. هل سيكون حسني مبارك نفسه أم نجله جمال مبارك، أم شخص آخر يظهر لاحقاً؟! فمن المؤكد أن العديد من توجهات السياسة الخارجية المصرية يتوقف على الرئيس المقبل الذي عليه مواجهة تحديات عديدة وكبيرة داخلية وخارجية لإعادة مصر إلى ممارسة دورها الحيوي الفعال لاسيما في وسطها العربي أولاً، والذي تبدأ أولى مؤشراته بإعادة التنسيق المصري ـ السعودي ـ السوري....

 

أحد المعلقين المصريين، قال إن "مصر دولة تكاد أن تسقط الآن في الفجوة بين صورتها المثالية وواقعها المخيف. والنظام لا يملك قدرة على حل الملفات الخطرة، والمستقبل رهن انفجارات فوضى، تتصارع فيها رغبات متعارضة، لا يملك أي منها مشروعاً ولا قدرة على الحل، لكنه يملك قدرات على الشحن. إنها شحنات نهاية لا تنجح الأنظمة في تفاديها، بل في تأجيلها"..... نأمل ألا يكون هذا الكلام صحيحاً، وأن تعود مصر إلى دورها العربي الريادي القوي والبنّاء. حفظ الله مصر وأهلها من كل سوء....

* بديع عفيف