تركيا تدفع ثمن الفاتورة السورية!

تركيا تدفع ثمن الفاتورة السورية!
الخميس ١٦ أغسطس ٢٠١٨ - ٠٣:٤٤ بتوقيت غرينتش

ما الذي يجري بين تركيا والولايات المتحدة؟ ولماذا توترت العلاقات بين الحليفين بهذا الشكل؟ وما الخلفيات الحقيقية؟ وأين تكمن التناقضات؟ وهل هي فعلية أم مفتعلة؟ كل هذه الأسئلة تشغل الأوساط السياسية والإعلامية في المنطقة بما فيها بلدنا سورية على اعتبار أننا مركز الحدث العالمي، وعلى اعتبار أن إسقاط المشاريع التي استهدفت وطننا كانت أحد الأسباب الرئيسية للأزمات التي تعاني منها الدول التي انغمست في مشروع الحرب الفاشية علينا.

العالم - مقالات وتحليلات

الإشكالية الجوهرية في فهم حقيقة ما يجري بين تركيا والولايات المتحدة، تكمن بأن هناك اتجاهاً تحليلياً يقوم على التبسيط ونظرية المؤامرة، أي إن ما يجري بين تركيا والولايات المتحدة هو مسرحية جديدة مثل مسرحية دافوس أو مرمرة، والهدف منها إعادة تعويم أردوغان مرة أخرى.

الحقيقة أن هذا النهج في التحليل مازال يعيش في مرحلة الحرب الباردة التي كان تصنيف الدول وعلاقاتها يقوم على أساس إيديولوجي، وكان من السهل الفرز والتحليل على أساس ذلك، لكن منذ انتهاء مرحلة الحرب الباردة، ودخول العالم مرحلة العولمة والتشابك المعقد في المصالح بين الدول، فإن منهج التحليل التقليدي لم يعد يصلح لفهم التحولات الجديدة في العالم، وإلا بماذا تسوغ العلاقات الروسية التركية مثلاً، على الرغم من وجود خلافات بين الطرفين في أوكرانيا والقرم وغيرها؟ وكذلك كيف نسوغ العلاقات الإيرانية التركية النامية اقتصادياً على الرغم من وجود تناقضات وخلافات في العديد من المقاربات السياسية؟ أو مقاربة بعض الدول الأوربية للملف النووي الإيراني خلاف الموقف الأميركي؟ أو انضمام الهند وباكستان مثلاً لمنظمة شنغهاي على الرغم من العداء التاريخي بينهما؟ أو إيداع فنزويلا لمخزون من الذهب في تركيا لدعمها، وهي الدولة اليسارية البوليفارية المعادية للسياسات الأميركية؟ هل يمكن من خلال هذه الأمثلة أن نطبق منهج تحليل من أيام الحرب الباردة لتفسير ما يحصل من تطورات وتحولات في العلاقات الدولية؟ بالطبع لا، ولذلك هذه نقطة مهمة لا بد من إيضاحها قبل البدء بتحليل ما يجري بين تركيا والولايات المتحدة بعقل بارد قليلاً، ومن دون إقحام لعواطفنا التي هي من حقنا، ولكنها لن تساعدنا في فهم ما يجري.

كانت تركيا جزءاً أساسياً من مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد لاحقاً، وحزب العدالة والتنمية هو حصان طروادة في هذا المشروع منذ أن وقع عبد الله غُل، الذي كان وزيراً سابقاً للخارجية، مع وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق كولن باول آنذاك وثيقة الشراكة لتنفيذ المشروع الأميركي في المنطقة في البحرين عام 2004.

كان المشروع الذي سمي بـ«مشروع أحمد داوود أوغلو» أي «العثمانية الجديدة» يقوم على انخراط تركيا في تقسيم سورية والعراق وإقامة كانتونات كردية تتصل مع تركيا اقتصادياً، وتتبع لها، مع اتجاه نحو تفكيك القومية العربية، أي العرب، إلى طوائف ومذاهب عبر استخدام مصطلح «العرب السُنة»، مقابل الحفاظ على القوميتين التركية والكردية، أي أن يكون الكرد وما يسمى السُنة العرب برعاية تركية، وتصبح تركيا مرجعية هؤلاء جميعاً على اعتبار أن القوى التي ستتولى القيادة هي تنظيمات الإخوان المسلمين.

قاد حزب العدالة والتنمية في تركيا وحكوماته هذا المشروع، وانخرط في الحرب على سورية، وكان يتفاوض مع حزب العمال الكردستاني وعبد الله أوجلان شخصياً، في سجنه بجزيرة إيمرالي، كما تم التنسيق مع رئيس إقليم كردستان العراق سابقا مسعود بارزاني لإدخال مقاتلين وقوات بشمركة إلى شمال سورية، وكذلك إعطاء كرد تركيا تمثيلاً سياسياً في البرلمان والحياة العامة، وإيجاد تفاهمات داخل تركيا معهم، وكان أردوغان آنذاك بنظر، فتح الله غولين والليبراليين واليساريين القريبين من الغرب، بطلاً قومياً، يمجدون ويسبحون بحمده صباح مساء، على اعتباره الديمقراطي الأول والنموذج الذي يجب أن يسير خلفه الجميع في المنطقة!.

على الرغم من هذا الانخراط التركي في المشروع ضد سورية، فإن أنقرة اكتشفت أن المشروع الكردي يبنى على حساب سورية والعراق وكذلك تركيا، وأن تركيا لم تحقق ما كان متفقاً عليه مع الولايات المتحدة بموجب «وثيقة غُل – باول»، أي لم تنفذ الولايات المتحدة ما تعهدت به، ولهذا بدأت بالانقلاب على ما كانت قد نفذت جزءاً منه، فتم اعتقال النواب الأكراد وسجنهم، وتم عزل أوجلان بشكل كامل، ودخل الجيش التركي مدن جنوب شرق تركيا، وقام بتدمير واسع لبنى تحتية أنشئت لمصلحة حزب العمال الكردستاني هناك في فترة شهر العسل.
العامل الحاسم في هذه التحولات هو صمود سورية الأسطوري الذي أسقط هذا المشروع، ولذلك كُنا نلاحظ خلال سنوات العدوان الفاشي على سورية كيف كان أردوغان يتوتر ويُصعد ضد سورية والرئيس بشار الأسد، لأنه يعكس مأزقه ومأزق مشروعه العثماني «الإخواني»، والحقيقة أنه بعد انخراط روسيا في سورية دخل عامل جديد لم يكن في حسبان أحد، ومن ثم أصبحت طريقة التعاطي التركي مختلفة.

نتيجة هذا الفشل كان لابد لأردوغان من أن يدفع الثمن، وظهر ذلك في الدعم الخارجي لأحداث جيزي بارك عام 2013 في إسطنبول، ثم كُشف ملف فساده مع وزرائه في كانون الأول من العام نفسه، وبعد ذلك حادثة إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الأول 2015، ومحاولة ضرب العلاقة الروسية التركية، واغتيال السفير الروسي في أنقرة في كانون الثاني 2016 لنسف اللقاء الثلاثي في موسكو بين روسيا وإيران وتركيا تمهيداً لمسار أستانا الذي وافقت تركيا على الانخراط فيه، بعد أن دفعت الفاتورة في شرق حلب وتخلت عن مسلحيها.

أما الانفجار الكبير فقد كان في محاولة الانقلاب التي جرت ضد أردوغان في 15 تموز 2016، وكانت بصمة حلفائه، أميركا والسعودية والإمارات وبعض الأوربيين، واضحة فيه.

الحقيقة هنا أن أردوغان كما القطريين، أراد أن يقول إننا جميعاً غارقون في الدم السوري، وكنا في غرفة عمليات واحدة فلماذا علينا أن ندفع الفاتورة عن الفشل في سورية؟ وهو مضمون ما كان قد قاله حمد بن جاسم في ثلاث مقابلات صحفية.

عندما انخرطت تركيا في التعاون مع روسيا عبر مسار أستانا، كانت تعتقد أنه إذا لم يتحقق ما وعدنا به الأميركون، فيمكن عبر دخولنا في سورية بالتنسيق مع موسكو، وعبر اللعب على التناقضات الروسية الأميركية تارة، والروسية الإيرانية تارة أخرى، أخذ جزء من الجغرافيا السورية لجماعاتها المتأسلمة الذين رفضوا التسويات، وبهذا يقول لهم أردوغان صحيح أننا فشلنا في أخذ سورية، ولكن أمّنا لكم هذه المنطقة، وفي الوقت نفسه يقول للتجار الأتراك في المناطق الحدودية: هذه مناطق للتجارة الحدودية يمكنكم الاستفادة منها!

لكن الواقع تغير جذرياً بعد انتصارات الجيش العربي السوري في الغوطة الشرقية والجنوب وتنظيف البادية، وإصرار القيادة السورية على تنظيف الأرض السورية من الإرهاب، وتحرير آخر شبر منها مهما كلف ذلك، وهو ما كان الرئيس الأسد قد أكده أكثر من مرة عبر خطاباته أو لقاءاته الصحفية، ما ضيق هامش المناورة أمام أنقرة، أي إنه إذا كانت تركيا تريد تأمين الحدود مع سورية، فإن الطريق الصحيح ليس عبر تسليم المعابر لعصابات إرهابية، بل عبر التنسيق مع الدولة السورية المنتصرة، إضافة إلى أن موسكو لن تسمح ببقاء تنظيمات إرهابية قريبة من قواعدها على المتوسط، وكلام أوغلو حول فصل جبهة النصرة عن التنظيمات المعتدلة يذكرنا بكلام وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري في شرق حلب، والذي تبين أنه مجرد إضاعة للوقت؟

الآن: أميركا تريد من تركيا تسديد الفاتورة السورية، من خلال الضغط والعقوبات الاقتصادية، ووقف تسليم طائرات أف 35 وغيرها من الإجراءات الأخرى؟ وهو ما سيدفع تركيا أكثر باتجاه روسيا وإيران والصين، مع تصاعد العداء للولايات المتحدة في الشارع التركي، حيث أظهر آخر استطلاع للرأي العام أن 92 بالمئة من الأتراك يرون في أميركا عدواً إستراتيجياً! والخلاصة أن تركيا اكتشفت أنها مجرد أداة استخدمت في مشروع، وتم الانقلاب عليها، ولكن ما ساعدها في موقفها الجديد الدعم الروسي الإيراني الصيني ومن دول أخرى إضافة إلى الرأي العام المساند.

يبقى سؤال أخير: هل أردوغان وحزبه قادران على تجاوز هذه الأزمة الاقتصادية العميقة وحدهما؟ يجيب خبير تركي تناقشت معه في هذه المسألة أنه لن يستطيع وحده، ويحتاج لضم قوى سياسية وطنية لحكومته أي تشكيل حكومة وحدة وطنية، لأن الإشكالية أن حزب العدالة والتنمية تنقصه الرؤية الإستراتيجية والقدرة على اتخاذ القرارات الشجاعة والحاسمة التي تحتاجها المرحلة.

أما نحن في سورية فإن كل ما يجري هو لمصلحتنا، ولكن يبقى السؤال كيف سنتعاطى مع تركيا في المرحلة القادمة؟ والحقيقة هناك طريقان عندما يكون خصمك في ورطة:
الأول: انتقامي، أي أن نتحالف مع كل من يعادي أردوغان وتركيا، والمثير للانتباه هنا أن الأطراف التي تعاديه الآن، هي تعادينا بالوقت نفسه أميركا والسعودية والإمارات… الخ، ولا أعتقد أن عقل الدولة يفكر في هذه الطريقة.
الثاني: أن تقول له لقد ارتكبت أخطاء فادحة، ومع ذلك سنمد لك يد العون، ونفتح صفحة جديدة على أسس مختلفة بالتأكيد، لكننا لن ننسى ما ارتكبته بحقنا، ولن نعمق الجراحات، شرط الانسحاب والتخلي عن المشاريع وعصاباتها وكذلك العجرفة والتعالي لأنك مهزوم! وهو ما سوف يظهرنا بمظهر المنتصر المتواضع، ويقوينا أمام العالم وأمام الداخل التركي وينسجم مع توجهات حلفائنا وطبعاً بشروط وقواعد جديدة للعلاقات، وبحذر وذكاء وفطنة بعيداً عن العواطف.

إذاً: ما يجري هو دفع ثمن الفاتورة السورية الباهظة التي سيسددها كل من تورط في مخطط الحرب الفاشية على سورية.

بسام أبو عبد الله - الوطن