لا يخونك ذكاؤك .. متى تثق كمستثمر في حدسك الخاص؟!

لا يخونك ذكاؤك .. متى تثق كمستثمر في حدسك الخاص؟!
الأحد ١٤ أكتوبر ٢٠١٨ - ٠٦:٤٧ بتوقيت غرينتش

في سوق الأسهم، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات الكبرى، يوجد هناك معسكران كبيران: الأول يضم المستثمرين الذين يعتقدون أن الحدس أصدق من التحليل، بينما يضم الثاني أولئك الذين يرفضون الحدس لصالح عملية التحليل الدقيق للبيانات المتوفرة.

العالم -منوعات 

ولكن ما هو "الحدس" أصلاً؟

في الحقيقة لا يوجد تعريف محدد للحدس، حيث إنه أحد أشهر المصطلحات أو الظواهر التي لا يزال تعريفها مسار جدل بين العلماء.

ولكن ربما التعريف الأقرب هو ذلك الخاص بأستاذ علم النفس الألماني "تيلمان بيتش" والذي قال فيه: "الحدس هو عملية تفكير سريعة يتم خلالها معالجة المدخلات تلقائياً دون إدراك أو وعي".

وعلى الرغم من أن عملية اتخاذ القرار الاستثماري في سوق الأسهم تميل إلى كونها عملية عقلانية بحتة، إلا أن المستثمر في بعض الأحيان لا يمكنه أن يتخذ القرار بشكل عقلاني بحت بسبب عدم توافر بيانات ومعلومات مهمة من أجل التوصل إلى توقعات دقيقة.

ومن خلال هذه الفجوة يظهر دور الحدس في سوق الأسهم.

قوة البيانات .. 99% من الحالات

في فبراير/شباط 2015 وقف المستثمر الأمريكي الشهير "راي داليو" مؤسس صندوق "بريدج وتر" – أحد أكبر صناديق التحوط في العالم – أمام تجمع يضم مجموعة من كبار المستثمرين ليشارك معهم بعضاً من أكثر أفكاره إثارة للاهتمام، التي كونها خلال فترة رئاسته للصندوق الذي يدير حالياً أصولاً بقيمة 150 مليار دولار.

خلال ذلك الاجتماع نصح "داليو" المستثمرين" بضرورة تحديد وكتابة استراتيجيتهم الاستثمارية الخاصة، حتى يتثنى لهم اختبارها من آن لآخر، مشيراً إلى اعتقاده أن كل شيء يمكن تحليله وتحديده كمياً.

أما أكثر تعليقات "داليو" إثارة فهو قوله: "في 99% من الحالات أجد نفسي متفقاً مع الاستراتيجية المبنية على المعلومات والبيانات الكمية، ولكن حين أختلف معها في الـ1% المتبقية، يتضح لي لاحقاً أن الاستراتيجية كانت أصوب من حدسي الخاص في 66% من الحالات."

يعتبر "داليو" واحداً من أذكى المستثمرين الذين يعيشون بيننا الآن، ولكنه يخطئ في مرتين من بين كل ثلاث مرات يحاول خلالها اتخاذ قرار مخالف لذلك الذي تشير إليه الاستراتيجية أو النموذج الكمي المبني على المعلومات.

في كتابه الشهير "التفكير بسرعة وببطء" يوضح "دانييل كانيمان" كيف أن الدراسات أثبتت أن الخوارزميات البسيطة المستخدمة في اتخاذ القرارات تميل للتفوق على الخبراء الذين يحاولون استخدام حدسهم الخاص في مجموعة واسعة من المجالات، موضحاً أنه على عكس النماذج المبنية على المعلومات يميل الخبراء إلى المبالغة في تقديرهم لقدرتهم على الحكم، بسبب تجاهلهم للأخطاء المحتملة في طريقة تفكيرهم.

لذلك يشير العديد من الخبراء إلى أن الاستثمار ربما لا يجب أن يكون مختلفاً عن المجالات التي تعتمد بشكل أكبر الإحصاء مقارنة بالحدس والحكم الشخصي مثل الطب والعلوم الاجتماعية.

في عام 2012، استعرض كل من "توبياس كارلايل" و"ويز جراي" في كتابهما "القيمة الكمية" دراسة حالة مثيرة جداً للاهتمام، قاموا خلالها بالنظر في نتائج نظام لفحص الأسهم يسمى "ماجيك فورميلا" تم تطويره من قبل المستثمر الأمريكي "جول جرينبلات".

خلال الفترة ما بين عامي 2009 و2011 وفرت الشركة الخاصة بـ"جرينبلات" للعملاء خيارين أساسيين: الأول هو حساب مدار ذاتي يتحكم فيه المستثمر بشكل كامل، والثاني هو الحساب الاحترافي والذي يقوم باختيار الأسهم بشكل أوتوماتيكي وفقاً لمدخلات ومعادلة معينة يتبعها النظام.

في هذه الفترة كان أداء الحسابات المدارة من قبل المستثمرين أضعف من أداء السوق، حيث ارتفعت بنسبة 59.4%، في حين ارتفع مؤشر ستنادرد آند بورز 500 بنسبة 62.7%. وفي المقابل تجاوزت الحسابات ذاتية الإدارة والمبنية على استراتيجية محددة السوق، محققة عائداً قدره 84.1% بعد احتساب النفقات.

الشاهد هو أن الدراسة أوضحت أن إضافة عنصر التقدير الشخصي أضر بأداء الحسابات المدارة من قبل المستثمرين وذلك لعدة أسباب: الأول هو أن الحدس قاد المستثمرين إلى الابتعاد عن الأسهم الأفضل أداءً والتي عادة ما تكون أقل شعبية.

أما الثاني فهو أن المستثمرين سارعوا بسذاجة إلى بيع الأسهم بمجرد مرورها بفترات عصيبة، وشراء تلك التي شاهدوها تحقق أداءً جيداً وذلك في تحد واضح لاستراتيجية القيمة.

الحدس .. أقوى من كل بيانات العالم

البعض ربما فهم من الجزء الأول من هذا التقرير أننا نقول إن المستثمر يجب أن يتجاهل حدسه الخاص في المطلق، ولا يعتمد سوى على البيانات والمعلومات الصلبة حين يحاول اتخاذ أي قرار استثماري، غير أن هذا قطعاً غير صحيح. ليس هذا ما نقصده إطلاقاً.

لكن الفكرة هي أن أغلبنا يسيء فهم ماهية الحدس من الأساس. فكثيراً من الناس يعتقدون أن الحدس هو شيء فطري يولدون به. ولهذا من المثير للسخرية أن نرى أحياناً أناساً دخلوا السوق لتوهم يرددون عبارات من نوعية "حدسي يخبرني بكذا" أو "أنا أثق بحدسي الخاص".

غير أن الحدس في سياق الاستثمار هو نتاج خبرة الشخص على مدار السنوات التي قضاها بالمجال والتي حقق خلالها نجاحات وعانى من إخفاقات، ودقته تتناسب طردياً مع حجم ونوعية تلك الخبرة. كما أن عملية اتخاذ القرار بناء على الحدس تتعلق بقدرتك على التعرف على الأنماط والاتجاهات بسرعة.

أشارت دراسة نشرتها كلية سلوان للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سبتمبر/أيلول عام 2007 إلى أنه حين يتعلق الأمر بالقرارات المعقدة فإنه لا يمكن لجميع البيانات الموجودة في العالم أن تتفوق على خبرة العمر التي تغذي حدس الشخص أو إحساسه الغريزي.

في تجربة أجراها أستاذ الإدارة الاستراتيجية "كورت ماتزلر" في عام 2007، تم عرض رقعة شطرنج على مجموعة من المشاركين الذين طلب منهم إعادة وضع 25 من القطع المرتبة وفق نمط معين بنفس الترتيب بعد أن أتيح لهم النظر إليها لبضع ثوان. وتمكن لاعبو الشطرنج عديمو الخبرة من إعادة 6 قطع فقط إلى مكانها الصحيح، في حين تمكن أساتذة الشطرنج من إعادة القطع الـ25 جميعاً إلى مكانها السابق.

البعض هنا قد يقول إن هذه النتيجة ما هي إلا نتاج قدرة الأساتذة غير العادية على امتصاص وتخزين المعلومات البصرية، وهو الادعاء الذي يدحضه الجزء الثاني من هذه التجربة. فعندما تم وضع القطع الـ25 بشكل عشوائي على الرقعة لم يتمكن اللاعبون المبتدئون مرة أخرى من إعادة سوى 6 قطع إلى مكانها الصحيح.

ولكن المدهش هو أن الأساتذة أيضاً لم يتمكنوا من إعادة سوى 6 قطع إلى مكانها الصحيح. كيف حدث هذا؟ باختصار هذه المرة كانت القطع مرصوصة بشكل بعيد عن التشكيلات المعروفة لطرق اللعب. فوفقاً لأحد التقديرات يستطيع اللاعب المحترف التعرف على حوالي 50 ألفاً من التشكيلات المحتملة للقطع على الرقعة، ولكن إذا تم وضع القطع بطرق لا معنى لها وفقاً لقواعد اللعبة فلن يتمكن المحترف من اكتشاف أي نمط وبالتالي لن تختلف نتائجه عن نتائج المبتدئ.

تظهر هذه التجربة أن القرار المبني على الحدس هو في الحقيقة نتاج قدرة المرء على التعرف على الأنماط بسرعة البرق في عملية تتم غالباً دون وعي منه، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المعقدة.

حاسة سادسة

يشير عالم الأعصاب "جيرالد هوتر" الأستاذ بجامعة جونتجن الألمانية إلى أن الدماغ البشري يعمل كجهاز كمبيوتر فقط حين يتعلق الأمر بالقرارات التافهة. بينما تحتاج القرارات المعقدة إلى عملية مركبة يربط خلالها الشخص بين معرفته وخبراته وعواطفه، وهذه بالضبط هي طبيعة العملية التي يمر بها الناس الذين يستخدمون حدسهم.

أي أن الحدس باختصار ليس ظاهرة خارقة أو حاسة سادسة، بل هو شكل معقد ومتطور للغاية من التفكير الذي تدعمه سنوات من الخبرة والتعلم والقدرة على التعرف على الأنماط، وهي كلها عوامل مخزنة في الجزء اللاواعي من أدمغتنا.

عن هذه النقطة يقول الصحفي الإنجليزي الكندي " مالكوم جلادويل" عبارة لطيفة جداً: "علينا أن نحترم حقيقة أننا من الممكن أن نعرف دون أن نعرف لماذا نعرف، كما يجب أن نسلم بأن ذلك ربما أفضل لنا."

لكن مرة أخرى، نؤكد أنه من غير الحكمة الاعتماد على الحدس فقط. وربما أفضل طريقة هي الجمع بين النهجين معاً. أي أنه يجب علينا أن نتخذ قراراتنا الاستثمارية في ضوء التحليل الدقيق للبيانات ولكن دون أن نتجاهل حدسنا الخاص.

وحين نتحدث عن الحدس، فنحن نوجه الكلام بشكل أساسي إلى المستثمرين ذوي الخبرة، حيث إن الأصوات التي يسمعها حديثو العهد بالسوق تطرق آذانهم من آن لآخر هي مجرد أوهام وليست حدساً على الإطلاق.

أشارت دراسات في مجال علم النفس إلى أن الشخص يحتاج إلى ما لا يقل عن 10 سنوات من الخبرة في مجال معين لكي يكون قادراً على تطوير شعوره الغريزي اللازم لاتخاذ قرارات جيدة مبنية على الحدس.

احترم حدسك الخاص، ولكن لا تتبعه بشكل أعمى وأيضاً لا ترفضه بشكل مباشر، بل استمع إليه وأعد التحقق من الأدلة والمعلومات المتاحة في ضوئه واختبر ما يخبرك به بوعي. أي ثق فيه ولكن في نفس الوقت تحقق منه.

لكن البعض يسمحون لعواطفهم وتحيزاتهم النفسية أن تؤثر على حدسهم وهو ما يؤثر سلباً على قدرتهم على الحكم واتخاذ القرار. هل هناك ما تستطيع كمستثمر فعله لكي تمنع حدسك من أن يقودك إلى اتخاذ قرارات خاطئة؟ نعم، وهذا ما يمكن أن نتعلمه من قصة "عوليس".

"عوليس" .. الأغنية المميتة

قبل أن نسرد القصة والدروس المستفادة منها، يجب أن نوضح نقطة مهمة جداً. ببساطة يجب على المستثمر الذكي أن يضع لنفسه استراتيجية مبنية على مجموعة من القواعد العامة ويجبر نفسه على الالتزام بها بغض النظر عن اتجاه السوق، لأن هذا سيساعده على اتخاذ القرارات برأس مستقر.

أنت بالتأكيد ستجد نفسك مضطراً لاتخاذ بعض القرارات التي قد لا توافق النموذج أو النظام الذي وضعته لنفسك، وستضطر أيضاً لإجراء بعض التحديثات والتعديلات على خطتك الاستثمارية، ولكن الفكرة هي أن المقاربة المنهجية المستندة إلى القواعد تمنعك من الانجراف والاستسلام لخوفك أو تحيزاتك حين يمر السوق بظروف صعبة.

عندما نقول لك ضع قواعد لنفسك فنحن نقصد بذلك القواعد العامة والبسيطة. على سبيل المثال: عاهد نفسك ألا تشتري السهم إلا إذا كنت تعتقد أنه رخيص بالنسبة لقيمته الجوهرية وليس لأنك تستحسنه أو تعجبك الشركة. وأن تقوم ببيعه حين يتجاوز سعره ما تعتقد أنها قيمته الجوهرية.

لا حاجة طبعاً للتأكيد على أن هذا مجرد مثال، ولا يفترض أن تطبقه حرفياً. ولكن باختصار، مهما كانت القواعد التي ستضعها لنفسك فمن الأفضل أن تلتزم بها.

بمناسبة النصائح السابقة، بعض المشاركين في سوق الأسهم يبحثون دائماً عن من يوجههم ويخبرهم بما يجب أن يفعلوه بالضبط خطوة بخطوة، وهؤلاء غالباً هم أولئك الذين تروق لهم مواضيع من نوعية "كيف تحول ألف ريال إلى مليون في 6 خطوات؟"

ولكن المشكلة هي أن تلك العقلية لا تناسب أبداً سوقا مثل سوق الأسهم، ربما تناسب مجالات مثل المطاعم أو محلات السوبر ماركت ولكن بالتأكيد ليس الأسهم. ببساطة سوق الأسهم هو سوق المليون احتمال، ولا توجد وصفة معينة للنجاح به.

ولكننا كمستثمرين نحاول جاهدين معالجة وتحليل البيانات والمعلومات المتاحة لنتخذ قرارات نأمل بأن تكون موفقة. لا شيء مؤكدا.

قبل فترة نشرنا تقريرنا "فليبق كل في مكانه" وبعده تقرير "لا تجلس تراقب أموالك تضيع أمام ناظريك".

وفي هذين التقريرين تحدثنا حول كيفية تعامل المستثمر مع الأسهم الخاسرة، ولكن لسبب ما رأى البعض أن الموضوعين متناقضان أو متضاربان، وكان لسان حال البعض: "نتمسك بالسهم الخاسر كما نصحنا التقرير الأول أم نتخلى عنه كما أشار الثاني."

وفي الحقيقة إن سبب هذا اللبس هو تجاهل البعض لسياق ومحددات كل تقرير.

ولكن باختصار سنوضح الفكرة بشكل سريع هنا: أشار التقرير الأول إلى أنه من الأفضل عدم التخلي عن السهم الخاسر بسبب التقلبات المؤقتة للسوق ما دامت أساسيته صلبة. أما التقرير الثاني فأوضح أنه من عدم الحكمة أن يتمسك المستثمر بسهم تشير كل المؤشرات إلى كونه سهماً فاشلاً ويجلس بجانبه ينتظر انتعاشاً لن يأت غالباً.

لنعود الآن إلى قصة "عوليس" لنوضح أهمية إلزام الفرد لنفسه باتباع قواعد معينة.

"عوليس" هو بطل أوديسة هوميروس – واحدة من بين ملحمتين إغريقيتين مشهورتين منسوبتين إلى هوميروس – وهو محارب يوناني قديم كان يريد أن يسمع أغاني "سيرين" وهي حورية بحرية صورها الشاعر على أن لها رأس امرأة وجسد طير، تغوي البحارة بغنائها الساحر حتى توردهم التهلكة.

بحسب القصة لم ينج أبداً أي بحار سمع غناء "سيرين"، فكانوا حين يسمعونها تذهب عقولهم وتثير غضبهم وهو ما يدفعهم إلى تحطيم سفنهم أو القفز في البحر والموت غرقاً.

لكن في تصرف ماكر وذكي عقد "عوليس" اتفاقاً مع طاقم سفينته. حيث طلب منهم أن يبحروا إلى المكان الذي توجد به سيرين ولكن قبل أن يصلوا يجب أن يقوموا بسد آذانهم بالشمع حتى لا يسمعوا الغناء ويقعون تحت تأثيره المدمر، وفي نفس الوقت يقومون بربطه بالحبال على صاري السفينة.

وصلوا إلى هناك، وسدوا آذانهم ولم يسمعوا شيئاً من غناء سيرين بينما كان "عوليس" مربوطاً على الصاري يصرخ يطلب منهم أن يفكوا الحبال ويطلقوا سراحه ولكنهم تجاهلوا توسلاته طبقاً لأوامر مسبقة منه.

وانتهت سيرين من الغناء وهدأ "عوليس" وهكذا أصبح أول رجل ينجو بعد سماع أغانيها المميتة. وكان جوهر الاستراتيجية هو أنه وفق شروط محددة سلفاً تصرف الطاقم بطريقة معينة بموافقة مسبقة من قبطانهم.