القيم والمبادئ الاسلامية في الأربعينية الحسينية العالمية

القيم والمبادئ الاسلامية في الأربعينية الحسينية العالمية
الثلاثاء ٢٣ أكتوبر ٢٠١٨ - ٠٣:٢١ بتوقيت غرينتش

في كل عام ومع اقتراب ذكرى اربعينية الامام الحسين عليه السلام، يخرج اتباع اهل بيت النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من أنحاء العالم في مواكب مهيبة نحو كربلاء المقدسة في العراق لأداء زيارة الاربعين، حتى لا تخلو بقعة من الأرض من منبر وعلم وصرخة تنادي: "لبيك يا حسين".

العالم - تقارير 

إنها صرخة انطلقت من كربلاء العراق وتردّد صداها في شرق الأرض وغربها وطولها وعرضها، حيث لم تعد المسيرة الأربعينية مقتصرة على المشي إلى كربلاء المقدسة. في كل عام تزداد مسيرات الإمام الحسين (ع) في أنحاء المعمورة. مسيرة الأربعين أصبحت ظاهرة عالمية.

المراسم السنوية التي تقام في ذكرى مرور أربعينية الإمام الحسين (ع)؛ تعد ظاهرة إنسانية واجتماعية ودينية فريدة في شكلها ومضمونها، وحجمها ونوعها، وتشدّ انتباه المتخصص قبل المراقب العادي.

أنها أيام تعيشها الأمة تحت كنف سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام وفي محرابه وعلى مأدبته يتصالحون بعد خصام ويتواصلون بعد قطيعة ويتحابون بعد جفاء.

يتنافسون لعمل البر والإحسان فيما بينهم لا جدال ولا معصية لله تعالى.

إنها ثمار ذلك الفكر الذي صنعته الشعائر الحسينية في مجتمع مسلم يسمو في أيام عاشوراء مع شعائر خطت بالدم في أرض كربلاء المقدسة تسير بهم إلى درجة الكمال الروحي وتصل بهم إلى دولة العدل الإلهي متناسين ما تركه الماضي من تراكمات ومخلفات صنعتها الجاهلية التي لم تنتهي إلا بتلك الدولة الكريمة من خلال تمسكهم بتلك الشعائر المقدسة ومشاركتهم فيها جيلا بعد جيل.

أن مراسم الأربعينية الحسينية هي اجتماع تخلو فيه المعصية وتسمو فيه الفضيلة لأن الناس المشاركين جميعا قد خيم على نفوسهم الحزن متناسين بذلك كل الغرائز الحيوانية وحب الدنيا وملذاتها في نفوسهم الكسيرة متجهين نحو مدرسة كربلاء معلمهم الحقيقي هو الإمام الحسين عليه السلام ومنهاجهم فيها القرآن وعملهم العبادة .

أما المعيار الحقيقي لارتباط المجتمع مع الشعائر والنجاح في تلك المدرسة هو التقوى.

وأهمية هذا المبدأ تتمثل في كونه معيارا تختلف فاعليته تماما عن سائر المعايير الأخرى، فما دام هدف الإنسان عباديا هو توصيل المبادىء للآخرين وممارسة الأدوار فيه من خلال المنبر الحسيني أو من خلال العزاء بشكل جماعي حينئذ فإن القيمة الفردية تتجسد في مدى الألتزام بالمبادىء العبادية التي تحملها الشعائر الحسينية وهي مبادىء قائمة على أساس التعاون في المستوى الاجتماعي وعلى الالتزام بالأوامر والنواهي في المستوى الفردي والجماعي للمشاركين في تلك الشعائر الحسينية.

والأهم في ذلك هو أن المعيار متاح لجميع الأفراد مهما ضؤل مستواهم العقلي والفكري أو الثقافي أو الاجتماعي.. الخ أن يتمع بتلك الدرجة من التقوى. ومن خلال تلك الشعائر تبرز سمات وطاقات جليلة يحتاجها المجتمع حتى يتكامل.

ومن تلك السمات:

التنافس الذي يحصل بين الأفراد المشتركين في مواكب العزاء أو في خدمة المعزين من خلال توفير جميع المستلزمات التي يحتاجها المشارك، أو من خلال خدمة قضية الإمام الحسين عليه السلام في المشاركة في إلقاء المحاضرات أو القصائد الشعرية أو كتابتها أو أبذال الطعام والشراب أو المال وما شابه ذلك من أعمال تصب في خدمة القضية وصاحبها . 

والتنافس هو عمل فردي أو جماعي يقام به على أفضل وجه، أي كل فرد أو مجموعة تتنافس مع مجموعة أخرى لتقديم أفضل الخدمات للمشاركين.

ومثال ذلك ما يحصل بين خدمة المساجد والحسينيات والمواكب للمشاركين من أعلى درجات الخدمة أو ما يحصل من تفاعل بين المواكب أثناء اجتماعها بالساحات العامة أو الحسينيات والمساجد في تقديم أفضل ما عندها من أعمال أو مشاركات بين أفرادها أثناء المراسم أو من خلال أداء الخطباء أفضل ما عندهم للتأثير في المتلقين من الحضور حتى يتفاعلوا مع القضية.

الكل يبحث عن أفضل ما عنده حتى الذين يقومون على خدمة المشاركين في المواكب أو الجالسين في المآتم للاستماع تراهم يتنافسون في تقديم الأفضل للناس خدمة للإمام الحسين عليه السلام والحصول على أعلى الدرجات من الثواب الجزيل من عند الله تعالى.

لأن تلك الشعائر هي شعائر الله ونصرتها والعمل بها هو نصرة له سبحانه وطاعة لأوامره ما دام ذلك الفعل من أفعال الخير وتهدف إلى تحقيق العمل العبادي الذي أمر به. 

أما السمة الاجتماعية الأخرى التي تبرزها الشعائر الحسينية في أربعينيتها هي سمة التعاون. وهذه السمة تكون وفق التوجيه القرآني القائل "تعاونوا على البر والتقوى ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان". 

إن هذه التوصية تلخص مفهوم (التعاون) في معيار الخير والصلاح في بناء المجتمع.

ترسم الخط الصحيح للتعاون لذلك ترى هذا المفهوم وبصورة صحيحة متبلور في أيام عاشوراء من خلال العمل الجماعي المشترك أو في أنجاز الأعمال التي تحتاج إلى عمل مشترك وتقديم المساعدات المادية للمساجد أو الحسينيات أو لبعض الأشخاص أو المعوزين، معيارهم في كل الأعمال هو التقوى الذي اشترطته الآية الكريمة "إنما يتقبل الله من المتقين" في تحقيق مبدأ التعاون حيث لا يمكن أن يتم تعاون على البر دون أن تصحبه التقوى التي تعني الحرص على أداء الفعل وفق المبادىء التي حددتها الشريعة (كالمساعدة بلا منَّ).

ويقترن مفهوم التعاون بجملة من الممارسات التي تشدد التوصيات الإسلامية والتي أشرنا إليها سابقا مثل التعاون في قضاء حاجات الناس من خلال المساعدات التي تقدم إلى المساجد والحسينيات والمآتم والمواكب في أيام الأربعينية من استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. 

والسمة الاجتماعية الأخرى التي تتسم بها الشعائر الحسينية في هذه الأيام، هي ذوبان التفاوت الطبقي في ذلك المجتمع المشارك فيها أي انك عندما تجالس ذلك الجمع الكبير في أماكن العزاء والإطلاع على تفاصيل حياتهم العلمية والمادية والاجتماعية أو حتى المركز المتقدم في دوائر الدولة.

ترى أن المجلس يحظى بحضور كافة طبقات المجتمع العالمي بغض النظر عن قوميته ولون بشرته وحتى دينه ومذهبه، فلا يوجد ما يميز طبقة عن الأخرى كلها تذوب أمام القضية التي تجمعهم لأنها تخصّهم جميعا ويشتركون في إحيائها وكل فرد منهم يحس بالمسؤولية الفردية للمشاركة مع الجماعة في إحياء تلك الشعائر.

لذلك ترى الشيوخ والشباب وحتى الأطفال والنساء جميعا يشتركون فيها ويتركون أعمالهم الدنيوية التي تشغلهم عن تأدية ذلك الواجب المقدس وهذه درجة رفيعة المستوى في نكران الذات الإنسانية والملذات الدنيوية والإحساس بروح عالية بالعمل الجماعي المشترك مما يترك أثره في الشارع الإسلامي على كافة الأصعدة وبكل مجالات الحياة اليومية للأفراد وخاصة في بناء روح المساواة بينهم وعدم الشعور بالتفاوت الطبقي الذي تسبب بكثير من الأمراض الاجتماعية. 

وهكذا تتواصل النفحات القدسية من فيض بركات الرب العزيز على المشاركين في الأربعينية الحسينية واحدة تلو الأخرى لترسم مستقبل الأمة الوضاء وتطرزه بقناديل النور القرآني حتى تضيء دروب العالم من بعد ظلمة سادتها في العصور المظلمة التي حكمها الطغاة بقوانين الظلم والتعسف والاضطهاد والجهل حتى تصل إلى سمة أخرى لتستكمل المنهاج والتي تشترك مع مثيلاتها في بناء الإطار الاجتماعي العام لأفراد المجتمع المسلم الذي أراده الله تعالى ألا وهي سـمة (التكييف).

ويمكن تعريف بأنه تمرين الشخصية وترويضها على تقبل الآخر بشرا كان أو موقفا، أي إحداث العلاقة المرنة أو معايشة مفهوم (الألفة).

وإذا كان التعاون يشكل عملية اجتماعية خاصة بين المؤمنين في اشتراكهم في الشعائر الحسينية فإن التكيف يشكل الوجه الآخر من التفاعل. وذلك التكيف سوف يقضي على درجة التفاوت بين المسلمين المشتركين في تلك الشعائر مع بعضهم. حتى لو كان ذلك الاختلاف ثقافيا أو اجتماعيا أو أيدلوجيا. 

ويكون التكيف هو المحور الرئيسي لذوبان الطبقية في المجتمع حسب التوصيات الإسلامية القائلة (لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). 

مما جعل ذلك الطيف الاجتماعي الذي تختلف ألوانه أن يتعاشروا ويتجاملوا مع بعضهم وينسجموا مع بعضهم البعض ويعملوا من أجل تحقيق هدف عبادي واحد وهو إحياء الشعائر الحسينية مثل حضورهم في صلاة الجماعة والجمعة أو في الزيارات المخصوصة تراهم مجتمعين متحابين متسامحين متعاونين ساعين في رضى الله تعالى ورضى نبيه وآله (عليهم أفضل الصلاة والسلام). 

ويمكن في الواقع أن نجد ثلاثة أشكال من العلاقات الاجتماعية القائمة على التكييف في أيام الأربعينية: 

1ـ علاقة المؤمنين مع بعضهم في المجالس والمآتم والمساجد والمواكب أثناء العزاء وبدونه .

2ـ علاقة المؤمنين مع بعض الغير متدينين من الحضور أو أقل وعيا والتزاما بمبادىء الإسلام وهذا واضح جدا وفيه يتم كسب كثير من هذه النماذج في المواكب الحسينية ومحاولة رفع مستواهم الثقافي العام وحركتهم الاجتماعية الفاعلة. 

3ـ علاقة المؤمنين مع المخالفين لهم في الفكر أو العقيدة وهذا واضح من اشتراك كثير من المخالفين لمذهب التشيع أو الدين الإسلامي كالأخوة المسيح أو الصابئة أو السيك والهندوس وبعض القوميات والأديان التي لها إطلاع على تاريخ الطف وقضية الإمام الحسين عليه السلام وعن أحداث واقعة الطف وما دار فيها في مراسم أربعينية الإمام الحسين (ع).

وهذا إن دل فإنه يكشف عن قوة الرابطة الاجتماعية لما تحمله الشعائر الحسينية في بناء المجتمع الإنساني والجانب الاجتماعي من وحدة التلاحم بين تلك الأطياف. 

وبتلك السمات الرفيعة يرتقي الفرد المؤمن بالشعائر والممارس لها ويعرف فلسفتها وأثرها في بناء النفس الإنسانية في إشاعة مجتمع متآخ يحب الخير والسلام والأمان لكل البشر دون استثناء أحد أو فئة أو طائفة كلهم عيال الله ويعيشون تحت ظل خيره الوافر ويمكن أن ينتج من ذلك عدة أمور لها ارتباط على كافة الأصعدة الفردية والاجتماعية النفسية والسياسية والعقائدية تعمل ضمن منظومة واحدة تسمى القيم والمبادىء.