بين نور التسامح وظلمة التعصب

بين نور التسامح وظلمة التعصب
الإثنين ٣٠ مايو ٢٠١١ - ١٠:٢٢ بتوقيت غرينتش

التسامح أمر صعب، فالنفس البشرية التي جبلت على الصراع من الصعب ان تسلم به كحقيقة بديهية. فلا يمكن ان تكون متسامحاً وسط مجتمع لا يتسامح معك، أو في مواجهة بيئة طبيعية تناصبك العداء

يؤرقنا موضوع التعصب اليوم كما أرق آخرين من قبلنا منهم ابن منظور في لسان العرب الذي يشرح التعصب فيقول "وتعصب الرجل اي دعا قومه إلى نصرته والتآلب معه على من يناوئه سواء كان ظالما ومظلوما. والناقة العصوب هى التي لا تدر لبنا. والعصوب هو الجائع الذي كادت أمعاؤه ان تتيبس من شدة الجوع. وجاء في الحديث ان العصيب هو من يعين قومه على الظلم" ولا تنتهي معاني هذه الكلمة ومشتقاتها في صفحات هذا المعجم القديم.. كأن هذه الكلمة كانت تؤرقه قديما بنفس القدر الذي تؤرقنا الآن. وكأنها كانت تضرب في جذور عالمه المستقر كما تفعل في عالمنا المعاصر الذي لايكف عن التحولات ونحن في القرن الحادي والعشرين.
- مفكرون عرب.. ضد التعصب:
وعلى مستوى الفكر العربي الحديث شغلت هذه القضية بال المفكرين العرب على اختلاف البيئات التي جاءوا منها. وقد وقع في يدي أخيراً وأنا ابحث في هذه الظاهرة كتاب صغير ولكنه مهم في موضوعه تحت عنوان "أضواء على التعصب" يحتوي على نصوص كتبها مفكرون عرب عاشوا في احقاب مختلفة. بدءاً من أديب إسحق الذي عاش في النصف الثاني من القرن الماضي إلى فؤاد زكريا وحسن حنفي وناصيف نصار الذين مازالوا يمارسون دورهم التنويري حتى الآن.
عند قراءة هذه النصوص يتبين لنا كم كانت قضية التعصب والتسامح مهمة بالنسبة لهم كما هي بالنسبة لنا الآن. وكيف أن هذا الموضوع لايزال في حاجة إلى بحث ونقاش عميقين لفحص هذه الظاهرة الاجتماعية التي اصبحت تتخذ اشكالا عدوانية غاية في الخطورة. ولعل اختلاف المراحل الزمنية لهؤلاء الكتاب العشرة واختلاف مواقعهم الفكرية مع اتفاقهم على بحث ظاهرة التعصب يؤكد لنا مدى خطورتها كما تظهر من درة اهتمامهم. فأولهم هو أديب اسحق الذي ولد في لبنان وعاش في مصر يكتب من منتصف القرن التاسع عشر والعقول لم تتفتح بعد على التيارات الفكرية الحديثة ولم يتأكد للعالم – كما تأكد لنا بعد ذلك – مدى الخسائر التي يمكن ان يحدثها التعصب.
يقول أديب إسحق: "حد التعصب عند أهل الحكمة العصرية غلو المرء في اعتقاد الصحة بما يراه، وإغراقه في استنكار مايكون على ضد ذلك الرأي، حتى يحمله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة، ومنعهم من إظهار ما يعتقدون، ذهابا في الهوى في ادعاء الكمال لنفسه واثبات النقص لمخالفية من سائر الخلق"
إنه اذن عدم قبول "الرأي الآخر" كما نفهمه اليوم. ويدلل اديب اسحق على المضرة الناتجة من ذلك الموقف الفكري حيث يقع معتنقوه في اسار وهم من امتلاك الحقيقة الكاملة.
دليل اديب اسحق ان التشبث بالرأي الواحد وتأكيد صحته المطلقة هو خطأ كبير لان الإنسان ولكونه انساناً يعجز فهمه عن إدراك الكثير من اسرار هذا الوجود، وإنه ككائن بشري ممتنع عن الكمال، فقد كانت هناك (حقائق) في عصر ما تبين إنها (اوهام) في عصر آخر، ويدلل على ذلك بالقول بسكون الأرض أو بانقسام البسيطة إلى سبعة اقاليم، هذه كانت حقائق في وقتها، ظهر عدم صحتها في وقت لاحق.. ويقول في تعبير تشوبه السخرية: "ماذا تقول أمم الذين تعصبوا لهاته الاوهام على من كان في ريب منها فألزموه الصمت والخسف".
وفي التساهل أو التسامح يحدد اديب اسحق فهمه له بهذا المعنى: "ورضاء المرء اعتقاد الصحة فيه (الرأي) مع احترامه لرأي سواه" ان هذا المفهوم "ترشد الحكمة إليه ولسوء الحظ تغلب الشهوة عليه" ويلمح الكاتب إلى صعوبة الأخذ به عند بني البشر، فالتسامح "كالحرية يشتاقها الإنسان مرءوساً وينكرها رئيساً".
ولقد تنبه الكاتب إلى منعطف خطير في موضوع التعصب والتساهل، وكأنه يدعو إلى محاولة ضبطه والا أصبح الأمر سجالاً فهو يقول: "فلكم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون إليه بكل لسان ويثبتون له الوجوب من كل الوجوه، فلما أن قامت دولتهم وقويت شوكتهم وصار إليهم الأمر والقوة كانوا من الغلاة المتعصبين" ومخرجه من ذلك ان التسامح يجب الا يكون صادراً من اللسان أو من عاطفة مؤقتة ولكن من واجب يتم "تقييده بمبدأ متين من الحق وتأييده بعماد مكين من اليقين".
- بقعة ضوء للتسامح..:
وسط هذا الوباء من التعصب بكل أشكاله وأنواعه.. هل توجد بقعة ضوء "للتسامح"؟
يقول د. حسن حنفي في تفسيره للتسامح: "انه نقطة البداية للتعامل مع البشر. حين توجد اذهان متفتحة تمارس التسامح من تلقاء نفسها وتشعر بضرورة تجاوزه إلى درجة اعلى. وأكثر درجات التسامح إيجابية هو أن نترك للشخص حرية التعبير عن آرائه.."
ولكن التسامح أمر صعب، فالنفس البشرية التي جبلت على الصراع من الصعب ان تسلم به كحقيقة بديهية. فلا يمكن ان تكون متسامحاً وسط مجتمع لا يتسامح معك، أو في مواجهة بيئة طبيعية تناصبك العداء. ان محاولات الفلاسفة والمفكرين لإرساء قيم التسامح هي نفس المحاولات الدءوب لتحويل حياتنا خارج اطار الغابة البدائية التي لا تخضع الا لقانون البقاء للأقوى. ونحن في امس الحاجة إلى التسامح، ذلك التسامح القوي، ذلك التسامح الذي لا يتحول فيه قبولنا للرأي الآخر إلى عجز عن مواجهته، والتعايش مع العرقية إلى نوع من الإذعان ليسطرتها.
إن الدين الإسلامي من أكثر الأديان حضاًً على التسامح وهو الدين الوحيد الذي يعترف بالأديان التي تخالفه ويطلق على أهلها "أهل الكتاب" الا ان المجتمع الإسلامي قد شهد، ومازال يشهد، صوراً من أسوأ أنواع اللاتسامح التي اقترنت بالعنف الدموي. وكما يؤكد الدكتور جابر الانصاري ان المشكلة أساساً (ليست مشكلة العربي والمسلم في التسامح مع غيره بقدر ماهي مشكلته أولاً وقبل كل شيء في التسامح مع نفسه ومع ابناء جلدته وقومه ودينه، ومنذ القدم والعربي يتألم من "ظلم ذوي القربى الاشد مضاضة على النفس.").
ان البيئة تفرض ضرورتها على الناس وتشكل طباعهم.
في نظرتنا لمجتمعات التسامح يجب ان نفرق بين عربين – على حد تعبير د. الانصاري – عرب البيئة الصحراوية الذين تعودوا الصراع اليومي من أجل البقاء بحيث يصبح التسامح هنا شيئاً من التهاون في حق الذات وحق الجماعة. فهناك صراع دائم على الماء والكلأ ورغبة عارمة في الثأر حتى لا تضيع هيبة القبيلة وتهون على الناس. وقديماً سئل اعرابي: أيسرك ان تدخل الجنة وتتسامح مع من أساء اليك. فقال: بل آخذ ثأري وأدخل النار.
وطريق التسامح طويل. لايبدأ فقط من اعادة النظر إلى المسلمات التي تتحكم في سلوكنا كبالغين. ولكنها تبدأ أيضاً من مراقبة السلوكيات العسكرية التي نزرعها في نفوس أطفالنا وتزرعها مناهج الدراسة وكذا وسائل الاعلام. ان حب العرقية والاستعلاء قد يصيبهم بمشاعر من التفوق الزائف بحيث يتعاملون مع الآخرين كأنهم ينتمون إلى جنسيات أو اعراق أقل منهم.
أننا في حاجة ماسة إلى مراجعة مناهجنا الدراسية والى استئصال الخطابات الانشائية الوطنية الساذجة والا نشجع نمو مشاعر العزل العنصري بين الأطفال من جنسية وجنسية اخرى. كما اننا يجب ان نحثهم على تفهم الثقافات الأخرى وتذوق مافيها من قيم جمالية وأخلاقية. فالتسامح في حقيقته تربية مستمرة.
فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والادراك بأننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الاعراق والجنسيات جنبا إلى جنب هو نوع من التسامي فوق المطامع والمصالح الضيقة.. ان التسامح يقضي بأن نرى مصالحنا في اطار مصالح الآخرين.

* بقلم الدّكتور محمّد الرّميحي

تصنيف :
كلمات دليلية :