الفلسطينيون.. أسرى فوق الأرض وأسرى تحتها!

الفلسطينيون.. أسرى فوق الأرض وأسرى تحتها!
الأحد ١٩ يونيو ٢٠١١ - ٠٩:٤٨ بتوقيت غرينتش

19/6/2011 غزة- ديمة اللبابيدي press-mh@hotmail.com

 

 

منذ فجر الثورة الفلسطينية، تميز الفلسطينيون بنضالهم، وتميزوا أيضاً بطريقة عقابهم من محتلهم الصهيوني. فدولة الاحتلال ربما تكون الدويلة الوحيدة في العالم الآن التي تحتجز جثامين الأسرى والشهداء لفترات فاقت 40 عاما، وتصر على ضرورة أن يكمل الشهيد مدة محكوميته التي تصل في حالات عدة إلى عشرات المؤبدات. ومنذ احتلالها لفلسطين، لا تزال دولة الاحتلال تحتجز المئات من جثامين الأسرى والشهداء الفلسطينيين والعرب في مقابر غير إنسانية، تسميها "مقابر الأرقام" كنوع من الاستهانة بإنسانية من دفنوا فيها، وحرمان عائلاتهم من دفنهم وفقا للتقاليد الدينية.

 

"كل الشهداء لهم قبور.. إلا ابني"

بشير الهسي، عضو الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، يتحدث في صلقاء مع برنامج "مشاعل الحرية" الذي يبث عبر أثير إذاعة الإيمان من غزة، عن تجربته الخاصة بعد استشهاد ابنه "حسني" عام 2004 خلال اشتباك مسلح مع القوات الصهيونية، حيث لا تزال جثة ابنه محتجزة حتى الآن، ولا تعرف عائلته في أي مقبرة من مقابر الأرقام هو أو حتى إن كان لا يزال في ثلاجات الموت.

ويتذكر الوالد الذي حفر الزمان آثاره على وجهه لحظة استشهاد ابنه، فيقول: "حاولنا تقبل فكرة رحيل ابننا، إلا أن خبر احتجاز جثمان "حسني" شكل صدمة لنا جميعاً، فقد حرمت من حقي في أن أزور قبر ابني الذي لا اعرف أين هو، فابني ما زال أسيراً حتى بعد استشهاده". ويؤكد "الهسي" أن قضية الشهداء في مقابر الأرقام" منسية من الفصائل الوطنية ومؤسسات حقوق الإنسان، إلا أن تشكيل الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء أعاد الأضواء من جديد إليها بإصدار كتاب "لنا أسماء ولنا وطن" الذي يوثق أسماء وصور الشهداء المفقودين باللغتين العربية والإنجليزية.

معاناة أهالي الشهداء المفقودين لا تتوقف هنا، فقد بدا الخوف جلياً في صوت "الهسي" وهو يتحدث عن احتمالية سرقة أعضاء الشهداء كما حصل في كارثة "هاييتي"، حين كشف صحفي سويدي أن طائرات صهيونية كانت تنقل جثثاً من هناك لسرقة أعضائهم.

 

"لا يسمح لأحد بزيارة مقابر الأرقام التي تختلط فيها عظام المناضلين"

على الجانب الوثائقي لمقابر الأرقام، يقول "سالم خلة" منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، إن الجثامين المحتجزة في دولة الاحتلال هي لفلسطينيين وعرب، دفعوا حياتهم ثمناً لحرية فلسطين، إما خلال معارك مع قوات الاحتلال، أو أولئك المناضلين الذين كانوا يعبرون الحدود من دول مختلفة واستشهدوا في الطريق. وقد كانت دولة الاحتلال تتعامل مع الجثامين وفق قانون الطوارئ البريطاني لعام 1945 الذي كان يعطي الحرية للضابط الذي يخوض معركة ترك أو احتجاز الجثمان.

ويضيف "خلة": "مطلع سبتمبر 1976 أصدرت قيادة الاركان الصهيونية قانوناً ينظم هذه العملية حاولت من خلاله أن تراعي القوانين الدولية من حيث معرفة اسم الشهيد ومكان دفنه والأغراض الشخصية التي بحوزته".

ويوضح "خلة" أن الحديث يدور الآن عن 334 شهيد في عداد المفقودين، منهم 7 شهيدات، وهناك المئات من العرب والفلسطينيين الذين لم تتمكن الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء التي أطلقها مركز القدس للمساعدة القانونية منتصف آب 2008، من توثيق حالاتهم حتى الان لأن عائلاتهم في الخارج.

ويصف منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ظروف مقابر الأرقام، فيقول: "دولة الاحتلال تحتجز الشهداء في قبور لا يتجاوز عمقها 50 سنتميتر، بشكل متلاصق، وهذا ما كشفه الدكتور "يهودا هيتس" في التقرير الذي أصدره بشهادته حول تحليل الحمض النووي للشهيد "مشهور العاروري" الذي احتجز جثمانه لــ34 عاماً، حيث بين التقرير أن "مقابر الأرقام" تنكشف بفعل العوامل الطبيعية من أمطار ورياح وتختلط عظام الموتى مع بعضها البعض. فعندما أجري فحص الحمض النووي للشهيد "العاروري" جاءت النتيجة سلبية، أي أن العظام كانت لشهيد آخر، واليوم تتكرر الجريمة مع الشهيد "حافظ أبو زنط" من نابلس الذي احتجز جثمانه 35 عاماً، وتبين أن عظامه مختلطة بعظام شهيد آخر. هذه الخدعة تكررت خلال صفقة حزب الله اللبناني، فقد أظهرت نتائج فحص الحمض النووي لحوالي 200 شهيد، أن العظام ليست لأصحابها الأصليين".

ويقدم "خلة" الشكر لكل من ساهم في الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، لأن الاهتمام بهذه القضية لم يكن يتعدّى عائلات الشهداء المفقودين، لكنها تحولت الآن إلى قضية رأي عام ضاغط استجابت له الحكومة الفلسطيني في 3/8/2009 وقررت تبني هذه الحملة.

 

"رأيتُ الطائرة الصهيونية تنقل جثة ابني.. ولا أعرف أين أخفته"

وإذا كانت الأمهات تتمنى رؤية أبنائهم في أحسن حال، فإن "أم علي فروانة" تتمنى رؤية جثة ولدها "محمد"، الذي غاب عنها دون وداع. فـــ"محمد" الذي رحل في صباح 25/6/2006، خلال معركة أسرت خلالها المقاومة الفلسطينية الجندي الصهيوني "جلعاد شاليط"، لا تعرف عنه عائلته أي شيء حتى الآن، رغم متابعتها الموضوع مع منظمة الصليب الأحمر الدولية. فتقول "أم علي" بصوت خافت:" رأيت جثة ابني عبر التلفاز، وعرفته من هيئته العامة لأنه كان مغطى حين نقلته الطائرة الصهيونية إلى مكان لا أعرفه حتى الآن".

"جهاد أبو سليم"، الشاب العشريني يعرف أيضاً معنى أن تنتظر جثة عزيز عليك لتحظى بشرف زراعة وردة على قبره لتبعث بأهله الحياة من جديد، فيتحدث عن عمه المفقود "محمد"، موضحاً أنه استشهد في إبريل 1969، حين كان في دورية فدائية في منطقة الغور على الحدود الفلسطينية الأردنية، واشتبك مع دورية صهيونية أدت إلى استشهاده ورفاقه، ومنذ تلك اللحظة لم يستعيدوا جثمانه. ويضيف:" استعادة جثمان شهيد من مدينة نابلس، فتح لنا الباب من جديد لمتابعة القضية، حيث توجهنا لمركز القدس للمساعدة القانونية، إلا أن الجانب الصهيوني متعنت جداً بهذه القضية خاصة الشهداء الذين ارتقوا في بداية العمل الفدائي في فترة الستينات.

 

"المحاكم الصهيونية قضت بالإفراج عن الجثامين.. والقرار السياسي يحول دون ذلك"

رئيس مركز القدس للمساعدة القانونية، المحامي "عصام العاروري"، قال إن دولة الاحتلال تتعامل باستهتار شديد مع هذا الموضوع، ويوضح أن القانون الذي يجب أن يطبق في هذه الحالة هو القانون الدولي الذي ينص على معاملة جثة الطرف الاخر باحترام، وبناء على ذلك قضت المحاكم الصهيونية بوجوب إرجاع الجثامين، إلا أن القرار السياسي في دولة الاحتلال يحول دون ذلك. ويضيف أنهم يعملون الآن في اتجاه توثيق القضايا، واتجاه ثاني يختص بالتوعية والتعبئة المحلية والدولية بالقضية، إضافة إلى الاتجاه القانوني، حيث تمكن المركز من تحقيق بعض النجاحات على هذا الصعيد.

 

وفي الوقت الذي يتوجه فيه أحرار العالم إلى نوافذ النور والحرية، لا تزال دولة الاحتلال –وحدها- تعيش في العصور المظلمة من إهانة الإنسان فوق الأرض أو تحتها.

كلمات دليلية :