أنفاق غزة: اقتصاد تحت الأرض ورمز للمقاومة

السبت ٢١ فبراير ٢٠٠٩ - ٠٢:٤٦ بتوقيت غرينتش

تأخذ المقاومة أشكالا عديدة وكثيرة حسب ما تمليه قساوة ظروف الحياة نفسها. والحياة في غزة، لا يمكن أن تكون أكثر صعوبة مما عليه الحال في هذه الأيام الأخيرة بعد المجزرة الإسرائيلية، التي مست كل نواحي الحياة وعلى جميع الأصعدة.

بل يمكن الجزم أن الحياة والبقاء معا فعلا يصبحا بالنسبة إلى شعوب أخرى أمر صعب التحقيق، إن لم نقل مستحيلا، لولا سياسة حفر الأنفاق، بما تمثله من بساطة وبدائية وفي نفس الوقت من عبقرية من أجل الاستمرار في الحياة والبقاء والصمود في وجه كل من يريد إزالة أو تركيع هذا الشعب البطل. ومن ثم، فإن "الأنفاق" في الإستراتيجية الفلسطينية، أصبحت رمزا من رموز المقاومة.

قبل ثلاث سنوات من الفوز الكاسح لحركة حماس في الانتخابات التشريعية (2006)، فرضت إسرائيل سياسة الحصار وإغلاق المعابر والمنافذ الحدودية على مجموع سكان غزة، لخنقهم اقتصاديا وإنسانيا عقابا لهم على خيارهم "الحر" و"الديمقراطي" النزيه.

لكن الأغلبية الساحقة من سكان غزة أكدت وأعربت عن تصميمها لمواصلة المقاومة. ووجدوا طريقة "خلاقة" للالتفاف على سياسة التجويع الصهيونية-الغربية، وبمساعدة من أزلام سلطة رام الله وبعض الأنظمة العربية المتخاذلة.

الحصار الإسرائيلي الغاشم أدى إلى إقامة بنية اقتصادية جديدة من نوع خاص، اقتصاد تحت سطح الأرض. فعلا الأزمة تلد الهمة، فالفلسطينيون المحاصرون، استطاعوا أن يحفروا أكثر من 1000 نفق تحت الحدود المغلقة إغلاقا تاما ومحكما.

عدة آلاف من الفلسطينيين يعملون الآن في الحفر، التهريب أو النقل، وإعادة بيع السلع الضرورية، حيث إن التهريب يشكل حاليا ما يقرب من 90% من النشاط الاقتصادي في غزة، كما يسهم في مص البطالة حسب ما نقلته صحيفة الجارديان في 22 أكتوبر 2008.

فالأنفاق تُظهر براعة كبيرة وهائلة في التخطيط، ودقة في المراوغة والسرية، رغم ما يملكه العدو من وسائل تكنولوجية ـ غير مسبوقة ـ للترصد واستشعار الأنفاق وبمساعدة ميدانية من العملاء والخونة، وهو دليل أيضا على تصميم جميع السكان وقيادتهم على الحياة والكرامة.

ولكون ملايين الفلسطينيين هم من اللاجئين خارج فلسطين التاريخية، فالأسر الكبيرة الممتدة على جانبي الحدود مع مصر، وحتى داخل أراضي فلسطين 48، تقوم بتقديم المساعدات من خلال ترتيب شراء وشحن البضائع أو إرسال الأموال لشراء اللوازم الأساسية.

الأنفاق التي تربط مدينة رفح المصرية مع مخيم اللاجئين الفلسطينيين في مدينة رفح داخل غزة، عنوانا للتواصل والتضامن بين المدينتين العربيتين ومواطنيها. وقد أصبحت هذه العلاقة أكثر من رائعة ومن أوجه عدة، للبقاء على قيد الحياة لحماية شبكة الممرات المتداخلة والمتواصلة فيما بينها على مسافات تصل إلى أكثر من ألف كيلومتر.

والأنفاق في العموم، لمن لا يدري، عادة ما يصل طولها إلى ثلاثة أعشار ميل، وحوالي 45 إلى 50 قدما عمقا. وكلفة كل نفق تقريبا يصل ما بين 50.000 دولار إلى 90.000 دولار، وتحتاج إلى عدة أشهر من العمل المكثف لإتمام الحفر وتقوية دعائمه.

وهي تمر تحت المنطقة العازلة في فيلادلفيا على الحدود الدولية، من خلال قطعة أرض وضعت تحت سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي في اتفاقات أوسلو عام 1993.

الحصار الإسرائيلي الطويل على غزة، والذي تلاه قصفا منتظما لمدة 23 يوما والغزو الجائر، فرض تدميرا واسع النطاق على كل فرص الحياة وخلق ندرة في جميع ضروريات الحياة العادية (غذاء، دواء، وقود...). مصانع تحويل الأغذية، مزارع الدواجن، مخازن الحبوب، المخازن الغذائية التابعة للأونروا، وتقريبا كل ما تبقى من البنية التحتية، و230 وحدة صناعية صغيرة تم تدميرها كلية. اليوم، المئات من الشاحنات المحملة باللوازم الأساسية من الوكالات الدولية والإنسانية تقبع خارج قطاع غزة، وتمنع من دخول القطاع من قبل حراس أمن الحدود في الجانب الإسرائيلي. وبمجرد أن انتهى القصف الإسرائيلي على غزة، استأنف العمل في الأنفاق.

من بعيد، قد تعتقد أنك في منطقة زراعية بحتة، تنتشر فيها مشاريع المزارع البلاستيكية. إلا أن تراكم آلاف الأطنان من التربة الحمراء المشبعة بالدم الفلسطيني، بالقرب من المنطقة الحدودية "المحرمة" في الجانب الفلسطيني بين غزة ومصر، تؤشر إلى أن هناك حركة كبيرة وجادة تحت الأرض لا تخفى على أحد. ففي كل 20 أو 30 مترا، يمكن ملاحظه نشاط غير عادي من الشباب الفلسطيني الذين يقومون بحفر الأنفاق أو رفع الستائر الترابية.

أنفاق رفح، والتي تقدر بأكثر من ألف نفق، هي الرهان الحقيقي في الحرب القائمة بين حماس وإسرائيل. إسرائيل تريد إغلاق الأنفاق؛ الفلسطينيون يرفضون سياسة الإغلاق والتجويع الإسرائيلية، فهذه الأخيرة فرضت خلال مدة 20 شهرا حصارا ظالما على القطاع. وعلى الرغم من ثلاثة أسابيع من القصف المكثف، فإن غالبية هذه الأنفاق مفتوحة ولم تتضرر في مجملها.

وتوصف هذه المنطقة، أنها كالجبن السويسري، ثقوب من كل جانب. أحيانا، تتقاطع الأنفاق مع بعضها البعض، وه