السعودية وقطر.. النزاع يحتدم ومجلس التعاون يتشظى

السعودية وقطر.. النزاع يحتدم ومجلس التعاون يتشظى
الأربعاء ١٢ مارس ٢٠١٤ - ٠٨:١٤ بتوقيت غرينتش

تجهد الحكومة السعودية حثيثا من اجل التصدي للتحديات والأخطار التي ترى أنها تهدد نظامها السياسي. تبدو كما لو أنها تصارع في كل الإتجاهات: ضبط شرائح من جمهورها الداخلي تتفلت من توجيهاتها السياسية و"بيعة ولي الأمر"، وإعادة نظم عقد مجلس التعاون الخليجي الذي بات منتدى دوريا بعيدا عما أريد له من وحدة خليجية، وترتيب الأوضاع الإقليمية بما يوافق المصالح السعودية التي تقوم على إيجاد ودعم أنظمة "حليفة" وإسقاط أو هز أنظمة "معادية".

تأتي قائمة "المنظمات الإرهابية" الصادرة عن وزارة الداخلية السعودية لترسم حدودا فاصلة مع منظمات واتجاهات وتيارات ترى النخبة السعودية الحاكمة أنها تمثل خطرا على النظام السياسي التقليدي، ولتذهب مذهبا بعيدا في التحذير من الخروج عن قواعده ولتطلب الإنضباط ضمن المعايير الرسمية، في زمن يتعذر فيه على أي نظام أن يحدد السلوك السياسي للناس عامة والنخب خاصة.

 حالة طوارئ داخلية

ما بين الأمر الملكي الذي أصدره الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 3 فبراير/ شباط الماضي وبيان وزارة الداخلية في السابع من الجاري أكثر من شهر واكثر من اختلاف بسيط. الأمر الملكي بدا وكأنه يركز على أولوية معالجة تورط قتال الشباب السعودي خارج البلاد، ثم الانتماء الى أو تأييد "التيارات أو الجماعات - وما في حكمها - الدينية أو الفكرية المتطرفة أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخليا أو إقليميا أو دوليا"، في حين أن بيان الداخلية السعودية وضع الشأن الثاني في أولوياته، وتعامل مع القتال خارج سوريا كموضوع ثانوي (بيان الداخلية وضعه في البند الثالث، ولم يتوقف عنده إلا بصورة عابرة).

لماذا هذا "الاختلاف"؟ يجب أن نفهم الأمر من زاوية عدم التعارض، ذلك ان وظيفة الأمر الملكي وضع حد فاصل لتغطية أو غض الطرف عن القتال في الخارج بدون إذن ولي الأمر، وهو أمر مفهوم في واقع السعودية التي شهدت ما يشبه نزوحا جماعيا لشباب يبحث عن أرض رحبة يعبر فيها عن تمرده وخططه بعيدا عن وصاية النظام. وضرورة "التصحيح" أملتها اعتبارات أمنية داخلية وسياسية ترتبط بتوثيق العلاقة مع واشنطن. لكن الملك فتح مع ذلك الباب أمام استهداف جماعات وتيارات أخرى ("ارهابية" او "متطرفة") في الداخل او الخارج.

وجاء بيان الداخلية ليشكل المرسوم التنفيذي لرؤية الملك، ويوسع نطاق المحظورات لتشمل اتجاهات فكرية معارضة خرجت من عهدة النظام، وهذا يؤشر الى ان الهدف الحقيقي ليس المقاتلين في الخارج بقدر الأفراد والتنظيمات والتيارات التي تحمل أفكارا معارضة. ومن هنا جاء حظر وتجريم كل شكل من أشكال الدعم او التعاطف او الترويج معها؛ حتى التغريدات او التعليقات على مواقع التوصل الاجتماعي أصبحت حقلا محفوفا بالمخاطر. واذا كان المقاتلون في الخارج مثار قلق أمني جدي ويسهل تبرير استهدافهم لدواع أمنية واضحة، فإن مكافحة المنظمات والاتجاهات السياسية او الفكرية المناهضة للنظام تبدو أكثر صعوبة وأشد كلفة من الناحية السياسية والمعنوية لأنها قد تمس أصالة مبدأ حرية الرأي، ما سيجلب ردة فعل يصعب تقديرها.

الصعوبات داخل المملكة وفي محيطها الأقرب تجعل القيادة السعودية في موقف يغلب عليه القلق وانعدام اليقين، لا سيما في ضوء التغيرات الدولية التي أفقدتها الشعور بتوافر السند المكين، كل ذلك يدفعها لاتخاذ احتياطات حمائية في غاية الشدة واعتماد خطاب خال من الديبلوماسية أحيانا، فتقرر مصادرة الحقوق السياسية في الداخل دفعة واحدة، وتحدد مصير وسياسات الأنظمة في الجوار القريب أو أبعد منه. إنه وضع لا تحسد القيادة السعودية عليه أن تكون مطالبة بملاقاة تطلعات النخب الاهلية في البلاد الى اجراء اصلاحات سياسية واجتماعية فتندفع الى اعلان ما يشبه حالة الطوارئ، ذلك ان لائحة "المنظمات الارهابية" المفتوحة على التحديث ترقى الى مستوى المحاسبة على الدعم والترويج والتعاطف لتشمل:

"كل من يقوم بتأييد التنظيمات، أو الجماعات، أو التيارات، أو التجمعات، أو الأحزاب، أو إظهار الانتماء لها، أو التعاطف معها، أو الترويج لها، أو عقد اجتماعات تحت مظلتها، سواء داخل المملكة أو خارجها، ويشمل ذلك المشاركة في جميع وسائل الإعلام المسموعة، أو المقروءة، أو المرئية، ووسائل التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها، المسموعة، أو المقروءة، أو المرئية، ومواقع الإنترنت، أو تداول مضامينها بأي صورة كانت، أو استخدام شعارات هذه الجماعات والتيارات، أو أي رموز تدل على تأييدها أو التعاطف معها"، وكذلك "السعي لزعزعة النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، أو الدعوة، أو المشاركة، أو الترويج، أو التحريض على الاعتصامات، أو المظاهرات، أو التجمعات، أو البيانات الجماعية بأي دعوى أو صورة كانت، أو كل ما يمس وحدة واستقرار المملكة بأي وسيلة كانت". باختصار، إنه عهد أمني جديد يلائم التحولات التي طرأت على ترتيب الأخطار: الداخل القريب، الجوار، ثم المحيط الأبعد.

 التضييق على الاخوان وعزل قطر

برغم ان بيان الداخلية السعودية حدد جماعات عدة في إطار الحظر والملاحقة، فليس ثمة شك في أن جماعة الاخوان المسلمين بامتداداتها المتشعبة تمثل الهدف الأول و"العدو" الحقيقي في الدائرة الاسلامية المذهبية الضيقة، فهي تعتبر بديلا محتملا للعديد من الأنظمة في العالم الإسلامي وتمتلك رؤية وكوادر كثيرة وتحوز الآن على تعاطف من البعض الذين يرون أنها تواجه انقلابا في مصر واستبعادا في دول أخرى.

ولجماعة "الاخوان" حضور ملموس في دول مجلس التعاون يعود إلى عقود عدة، وتحديدا في فترة صراعهم مع الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث احتضنت السعودية ودول خليجية كوادرهم الفارين من مصر، وتمت الاستعانة بهم في  المؤسسات التعليمية وغيرها، وكانت بداية تأثير متبادل بين فكر الاخوان والفكر السلفي التقليدي، الأمر الذي منح الجماعة فرصة للحضور التنظيمي في هذه الدول. ويقال ان المملكة العربية السعودية كانت الى عهد قريب تدعم جمعيات خيرية دولية مرتبطة بجماعة الإخوان.

وافتراق السعودية عن "الاخوان" بدأ بعد 11 ايلول/ سبتمبر 2001، حين وجدت السعودية نفسها أمام معضلة تورط العديد من رعاياها في العمليات الإرهابية على الساحة الدولية، مما وضعها في موقف حرج. وسبق لوزير الداخلية السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز أن حمل بشدة على جماعة "الإخوان المسلمين"، ووصفها بأنها "أصل البلاء"، قائلا: "من دون تردد أقولها ان مشكلاتنا وافرازاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين"، مشيرا الى انهم كانوا "يجندون الناس (في السعودية) وينشئون التيارات، وأصبحوا ضد المملكة".

ولقد حزم صاحب القرار السعودي أمره مبكرا في اعتبار "الاخوان" جهة غير موثوقة وقرر تحين الفرصة للتخلص منها، وكان الملك السعودي أول زعيم عربي يشيد سريعا بإطاحة الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي، واستكمل ذلك بحزمة قرارات دعم مالية بالتعاون مع دول خليجية أخرى. لكن ذلك لم ينه الأمر هنا، فكلفة الدعم تكبر، بسبب الاضطراب السياسي والأمني والاقتصادي الذي يلف مصر ودفع حكومة حازم الببلاوي للإستقالة، في وقت يجد الاخوان حضنا دافئا وملاذا آمنا في جوار السعودية.

من هنا جاءت خطوة سحب سفراء السعودية والبحرين والإمارات من قطر لتعبر عن غضب الرياض من استضافة الدوحة لعدد متزايد من "الاخوان" وتشكيلها قاعدة انطلاق للثورة المضادة ضد نظام الحكم الحالي في مصر الذي يستعد لاستحقاقات انتخابية ودستورية يعمل من اجل ان يتجاوزها بدون صعوبات كبيرة. وإنه لمن اللافت ان لا تكون الكويت، التي اضطلعت بدور مساعد على الصعيد المالي في دعم الحكم المصري الجديد، ضمن الدول التي تسحب سفيرها من الدوحة: هل هو مجرد اختلاف مع السعودية في تقدير الموقف، أم ان الكويت تحتفظ بهامش يتيح لها التحرك على خط الوساطة لتقريب المواقف بين ضفتي مجلس التعاون الخليجي؟ وبالمناسبة، هذا المجلس أصبح عمليا مفككا منذ أن أخفق في تحقيق العديد من طموحاته الكبرى مثل الوحدة النقدية، وأيضا بعد رفض سلطنة عمان علنا دعوة الملك عبد الله للوحدة بين دول هذا المجلس.

 كيف ستتطور علاقة قطر والسعودية؟

تتجه هذه العلاقة لمزيد من التجاذبات والضغوط، لا سيما بعد اعلان مصدر مقرب من الحكومة القطرية أن الدوحة "لن تغير سياستها الخارجية - بغض النظر عن ثمن هذا الموقف- ولن تتخلى عن استضافة أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين". وأفصح المصدر عن ان النزاع يتعلق "أكثر بخلافات حول السياسة الخارجية"، في اشارة إلى قضايا مثل مصر وسوريا.

ولقطر تاريخ من العلاقات الصعبة مع الجارة الكبرى السعودية، وهي اذ حصنت نفسها بمعاهدات عسكرية مع الولايات المتحدة، تسعى لمقاومة النفوذ السعودي عبر الإمساك بأدوات "ناعمة" مثل قناة "الجزيرة" وتوظيف رصيدها المالي واستثماراتها الدولية في محاولة لردم التفاوت الناجم عن اختلال التوازن في الحجم السكاني والجغرافي لكل من الدولتين.

 ما تأثير التوجه السعودي على الاوضاع في سوريا ؟

من المعروف أن للسعودية وقطر علاقات تمويل وتسليح وتوجيه مع العديد من المجموعات المسلحة في سوريا، وهذه العلاقات لم تكن تكاملية، بل إن الأوساط الأميركية اعتبرت انها تركت تبعات سلبية على تطوير أداء المعارضة التي تتنازعها ولاءات شتى. لقد وضع بيان الداخلية السعودية جبهة النصرة وداعش ضمن الفئات الارهابية، ولم يشمل فئات أخرى على صلة بالقاعدة مثل "أحرار الشام". ومن المؤكد أن هذا التوجه السعودي سيحدث شقاقا داخل "الجبهة الاسلامية" التي كان يرجى منها ان تواجه نفوذ داعش، والآن ربما عليها ان تحدد موقفها من تصنيف "النصرة".

وثمة ارتباط لجماعات مثل "جيش الاسلام" بقيادة زهران علوش بـ"النصرة" وبالسعودية في آن واحد، الامر الذي قد يعيد خلط الأوراق مجددا على صعيد التحالفات. ويعكس ذلك مجددا تضعضع الجبهة المقابلة لسوريا، والذي بدأ مع ابتعاد تركيا عن ملازمة الملف السوري، والآن مع اشتداد الخلاف السعودي- القطري.

ويلاحظ ان السلطات السعودية احتفظت لنفسها بحق إضافة أية أسماء الى القائمة المذكورة، آملة - كما يبدو- ان تستعيد كل من خرج عن الخط الرسمي.

 السياق الدولي للقرار السعودي

لا يمكن بصورة ما فصل القرار السعودي عن سعي الرياض لإعادة الحرارة الى العلاقات مع الادارة الاميركية.

وجاء توقيت الأمر الملكي ومن بعده بيان وزارة الداخلية قبل زيارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما الى السعودية هذا الشهر، في رسالة تهدف الى التأكيد للأميركيين ان السعودية اتخذت توجها لا رجعة فيه في توحيد خطابها الرسمي وسياساتها إزاء "الإرهاب"، وانه ليس هناك من تفاوت بين ما هو فوق الطاولة وما هو تحتها، وذلك في أعقاب تقارير أميركية أشارت الى رعاية سعودية لتنظيمات متطرفة عاملة في سوريا وغض طرف عن توجه مواطنين سعوديين للقتال في هذا البلد. ثم ان الرياض تستبق الزيارة بمحاولة وضع قطر في موقف صعب، موقف المنبوذ المتهم بدعم الارهاب، سواء "النصرة" او "الاخوان". وهي تأمل ان تجذب الادارة الاميركية الى مسايرتها في الضغط على الدوحة، لا سيما في ضوء ما يشاع عن علاقة تربط الأخيرة بجبهة النصرة التي تعتبر الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا.

وسابقا، نجحت السعودية مع حلفائها في تغيير وجهة نظر واشنطن بشأن التعامل مع التغيير الذي حدث في مصر، ويحدوها الأمل الآن في الحصول على دعم أميركي يدفع في اتجاه عزل قطر، بعدما تبين أن استبدال أمير قطر السابق ورئيس وزرائه لم يبدل من تعاطي هذه الدولة مع الأزمات الإقليمية ولا سيما مصر، ومع البيت الخليجي.

ولا بد أيضا من الإشارة الى ان السعودية -أقدمت من اجل تعزيز التقارب مع الولايات المتحدة- على تغيير هام من خلال تعيين وزير الداخلية محمد بن نايف منسقا للسياسة الأمنية مكان مدير الاستخبارات بندر بن سلطان.

وأبعد من البيت الخليجي الذي ينقسم على نفسه (السعودية والإمارات والبحرين في ناحية، وقطر في ناحية أخرى، والكويت وسلطنة عمان في ناحية ثالثة)، ثمة سؤال كبير عن مصير السياسة السعودية المتشددة حيال ايران. ما من شيء يدل على ان السعودية في وارد تغيير حساباتها في التعاطي مع الجار الكبير، بيد أن إنشغالها بتطويع الجار الصغير المشاكس وترتيب البيت الداخلي قد يجبرها مؤقتا على تخفيف حدة التعاطي مع إيران، برغم ظهور مؤشرات تشدد في البحرين. ويعزز هذا الإعتقاد تراجع رهان الرياض على حدوث تغيير كبير في سوريا لمصلحة فريقها في المعارضة.

 علي عبادي/ المنار