ثورة الامام الخميني.. نقد الذات (2)

ثورة الامام الخميني.. نقد الذات (2)
الأربعاء ٠٣ فبراير ٢٠١٦ - ٠٤:١٠ بتوقيت غرينتش

عندما انطلقت شرارة الثورة الاسلامية في سنة 1963، كانت المؤسسة الحوزوية مقسمة بين حاضرتين مهمتين، هما: النجف الاشرف وقم المقدسة، الى جانب حواضر علمية اخرى لا ترقى الى النجف وقم.. منتشرة بانتشار الجغرافيا الشيعية.

وبغض النظر عن بعض التأثيرات التي تركتها حوزة مشهد المقدسة على مسار الفكر الديني (سلبا او ايجاباً) الا ان كلمة الفصل كانت لحاضرتي النجف الاشرف وقم المقدسة.. فبعد وفاة المرجع السيد حسين البروجردي (رحمه الله) عام 1960 والانتكاسات المتكررة التي مني بها التحرك الاسلامي في ايران، من تغريب الحركة الدستورية وظهور الحكم الدكتاتوري البهلوي كأحد ثمارها، الى ضرب حركة تأميم النفط، حتى قمع واعدام حركة فدائيو الاسلام.. ومحاولة الشاه (محمد رضا) ابعاد الزعامة الدينية من قم الى النجف الاشرف من خلال الابراق الى المرجع السيد محسن الحكيم (رحمه الله) معزياً بوفاة السيد البروجردي.. عاشت الحوزة العلمية في قم المقدسة حالة من اللامركزية وتعدد الاقطاب فيها، بين من يمثلون الاتجاه التقليدي بشتى اطيافه وبين من استعادوا مجد الحوزة بالمشاركة في الحياة الاجتماعية ومواجهة السلطة وانحرافاتها وهؤلاء كانوا قلّة..

كانت الحوزة القميّة آنذاك مقسمة الى:

1. التيار التقليدي العام، الذي يشابه في اتجاهاته العلمية والمنهجية والاجتماعية وفي منطقه تيار النجف الاشرف من حيث فصل الدين عن السياسة، فصل المعرفة الدينية عن العلوم الفلسفية والتفسير والكلام واقتصارها على الفقه والاصول، عدم مواجهة السلطة تحت يافطة ضرورة المحافظة على الكيان الحوزوي وطبقة رجال الدين وليس المجتمع الاسلامي و...الخ.

2. التيار التقليدي المتطرف، وهؤلاء حولوا الكفاح الديني من مهمة بناء الانسان والمجتمع والحياة الى صراع ومعركة مع الآخرين (المسلمين) تحت عناوين طائفية مستخدمين في ذلك كل الاساليب غير العقلانية في حشد العاطفة الدينية ومشاعر الحب لأهل البيت (ع).. حتی ان بعضهم انساق الی افكار غریبة ومحاربة كل تحرك یرید استعادة الواقع الاسلامي، تحت شعار " التمهید لظهور الامام المنتظر ( عج ) " من خلال ترك الفساد ینتشر، بل یقولون ان اي دولة او جماعة ترفع رایة الاسلام قبل ظهور الامام الحجة هي رایة باطل.. لانها تتعارض مع مبدأ امتلاء الارض بالظلم والجور!!


وهنا یظهر تأثیر المدرسة المشهدیة التي انشرت الیه من قبل.. فالمدینة المقدسة كانت واحدة من اهم حواضن هذا الفكر ولا تزال بعض خیوطه موجودة فیها...

والحقیقة ان هذا التیار الذي كان یتمترس بالتیار الاول ویعیش تحت عباءته، كما یعشعش التیار الشیرازي الیوم تحت عباءة بعض المرجعیات التقلیدیة ویستغل سكوتها عن انحرافاته.. كان رأس الحربة في مواجهة التیار الثوري، خاصة وان موقفه لم یكن یقتصر علی مناهضة الرؤیة المجتمعیة والحركیة للتیار الثوري، بل تمیل الی الصدام المعرفي معه.. فهؤلاء التقلیدیون المتطرفون اصولیون فقهیا لكنهم اخباریون عقدیا، هذا اولا، ثانیا معارضون بشدة للفلسفة والتفسیر والعرفان (وهنا ایضا یظهر تاثیر المدرسة التفكیكیة في مشهد المقدسة)، بل كانوا یستخدمون هذا الاتجاه المعرفي لضرب قیادة الثورة.. وقد تحدث الامام الخميني (رض) عن اسالیبهم في محاربته في "منشور روحانيت" بوضوح وصراحة.. ولا یزال كثیر من هؤلاء یعتبرون من یدرس الفلسفة والعرفان زندیق نجس یجب ان یطهر الاناء الذي یاكل ویشرب به!!

نعم هذا التیار ومن اجل ان یعوض شلله واعاقته العلمیة وعدم امتلاكه ما يقدمه لحياة الناس والمجتمع والمشاركة في ركب الحضارة الانسانية، لابُدّ ان یلجأ الی تحریك الغرائز والمشاعر ولا یهم في ذلك ما هي الاسالیب التي یتبعها في عملیة الحشد والتعبئة.. واساسها وقوائمها الخرافة والشعائر المبتدعة والتخویف بالعذاب الالهي والخروج من الرحمة الالهية، حتى اضحى مؤخرا "من لا يتطبر يدخل النار"!!.. بالضبط عكس التیار الثوري (العقلاني) الذي یركز علی الحياة والحب والقرب والرحمة كمفاهیم اساسیة في بناء الشخصیة الدینیة والمجتمع الدیني...

والمعركة الحقیقیة والشرسة التي خاضها الامام الخمیني (رض) كانت مع هؤلاء، سواء قبل انتصار الثورة او بعدها.

3. التیار الثوري، الذي یحمل ارث المواقف والرؤی الجهادیة لائمة اهل البیت (ع) والعلماء الذین وقفوا امام الاستبداد والطغیان والاستعمار.. هذا التیار الذي بدأ قلیلا لكنه قویا، شرسا، مقاتلا امام جبروت الطغیان وخضوع بعض المتدینیین.. قدم وبذل الكثير من اجل دينه وعقيدته.

والحقیقة ان عملیة الاحیاء والبعث لهذا التیار كان ثمرة مرجعیة وقیادة الامام الخمیني (رض) رجل الفقه والفقاهة والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق والتفسیر.. ورجل اعادة فریضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن لیس بالقتل وسفك الدماء، بل في اقامة الحكومة الاسلامیة التي هي الوسیلة الاساسیة في نقل الخلق من تراب الناسوت الی عبق وانوار الملكوت.. رحلة من خلق الی الحق لیست سهلة وتحتاج الی منظومة متكاملة معرفیة واجتماعیة وسیاسیة لا تقوی علیها مؤسسة الا بحجم الدولة...

هذا في قم.. اما النجف الاشرف فلم یكن الوضع فیها یختلف كثیرا، بالعكس كانت الزعامة التقلیدیة موحدة واكثر سطوة واكثر نفوذا ومالا.. وكان التیار الثوري في الزاویة الحرجة محاصرا بین التقلیدیین من جهة والتيارات العلمانية والسلطة السیاسیة من جهة أخرى.. خاصة بعد وفاة المرجع السید محسن الحكیم (رحمه الله) الذي یتمیز عن علماء المدرسة التقلیدیة بتحركه الاجتماعي والذي استطاعت الحركة الاسلامیة في العراق الاستفادة من مرجعیته وتحركه فكان غطاءا للكثير من نشاطاتها، لكن ما بعد حقبة السید الحكیم واجه التحرك الاسلامي في العراق ضغوطا جمّة انتهت باعدام قائد التحرك الاسلامي، المرجع الشهید الامام محمد باقر الصدر (رضوان الله علیه)، وخيرة ابناء العراق، علی مرأی ومسمع من الحوزة والمرجعیة التقلیدیة!

ویبدو ان الصراع بین التیار الثوري في الحوزة العلمیة والتیار التقلیدي وخاصة المتطرف (الخرافي) منه لن ینتهي في زمن یحاول الغربیون واذنابهم فیه القضاء علی صوت الاعتدال والوسطیة في خطابات الاسلامیین والدفع نحو المواجهة الطائفیة تحت عناوین ویافطات مقدسة وبراقة ومخادعة، كالتوحید ومحاربة الشرك والبدع والدفاع عن اهل البیت (ع).. من اجل تفتیت الامة وتركها تتقاتل فیما بینها للقضاء علیها برمتها وبكل مذاهبها وفرقها وتیاراتها..

ان الغرب المتصهين يرى ضرورة افشال المشاریع التي تهدد مصالحه الاستعمارية وسياساته السلطوية وتقاومها، من خلال الضد النوعي الذي يختلقه او يدعمه او (يطوره) كالقاعدیة والداعشیة التي تعتبر آخر نتاجات الفكر الوهابي السلفي السني، والحجتية والطقوسیة التي هي آخر ما توصل الیه التیار التقلیدي الخرافي الشیعي.. وقبل ذلك قیل، "لا تشیع صفوي بدون تسنن اموي".. والعكس صحیح ایضا. (یتبع)


بقلم: علاء الرضائي