انقلاب الانقلاب: أردوغان «يستولد» دولة جديدة

انقلاب الانقلاب: أردوغان «يستولد» دولة جديدة
الإثنين ٠٨ أغسطس ٢٠١٦ - ٠٦:٣٧ بتوقيت غرينتش

كان اردوغان قد بدأ حملته في تطهير بعض أسلاك القطاع العام، لا سيما القضاء والشرطة، منذ أكثر من ثلاث سنوات. لكنّ يديه في حينه كانتا مكبّلتين بضوابط المُعارضة الداخلية، والانتقادات الغربية الأميركية والأوروبية، وجمعيات الحريّات وحقوق الإنسان وغيرها. جاء الانقلاب الفاشل ليمنح أردوغان فرصة تاريخية ليس من أحد أبرع منه في اقتناصها، فكشّر عن أنيابه وشمّر عن ساعديه ورفع اصبعه في وجه كل مَن يتجرأ على انتقاده. عذره معه: الانقلابيون تمرّدوا على السلطة الشرعية وأطاحوا بالديموقراطية التي يتغنّى بها الغرب، وحاولوا قتله، وأخذوا رهائن، وقتلوا أكثر من مئتي شخص، وجرحوا آلافاً. فكلّ إجراء يتّخذه الآن مسوّغه جاهز وشرعي: الدفاع عن الديموقراطية والسلطة المُنتخبة من الشعب.

نجح أردوغان في إظهار نفاق أوروبا وأميركا، ووضعهما في موقف سياسي حرج. فهم مضطّرون لإدانة الانقلاب، ولكنّهم لا يحبّذون إظهار التأييد لأردوغان، فكان إخراج الإدانة المزدوجة: للانقلاب من جهة، وللمبالغة في إجراءات مكافحته وتطهير أنصاره من جهة ثانية (وهذا نتناوله بالتفصيل في تقرير ثالث حول تداعيات الانقلاب الخارجية).
الأوروبيون على حقّ باتهامهم اردوغان بإعداد لوائح جاهزة مُسبقاً قبل الانقلاب، فليس طبيعياً أن يُصار إلى التحقّق من ارتباط عشرات الآلاف بالانقلاب واتخاذ قرارات بصرفهم في غضون بضعة أيام فقط. وأردوغان، من ناحيته، على حقّ بدفاعه عن تلك الإجراءات وتبريرها بأن منظمة فتح الله غولن مُصنّفة تركياً منظمة إرهابية منذ كانون الأول 2015، ومن الطبيعي أن تقوم أجهزة الأمن التركية بتعقّب أعضائها ومُناصريها وإعداد لوائح بهم ومراقبتهم.

قطاع عام جديد
زعزع الانقلاب الأردوغاني المُضادّ مؤسسات الدولة التركية في قطاعاتها كافة وعلى جميع المستويات والاختصاصات: في الأمن والسياسة والاقتصاد والقضاء والإعلام والمال والأعمال والتشريع والتربية والتعليم، وحتى في مؤسسات القطاع الخاص. أكثر من ستين ألفاً صُرفوا من الخدمة (25000 مدرس، 3000 قاض ومدّعٍ عام، 9000 شرطي ورجل أمن وموظف في وزارة الداخلية، 3000 عنصر من الجيش بينهم حوالي 140 جنرالاً يُمثّلون ثلث جنرالات الجيش التركي الكبار في قطاعاته المختلفة، 30 محافظاً و60 قائمقاماً وموظّفين محليين كبار، وحوالي 20000 آخرين في سائر وزارات الدولة وإداراتها من دون استثناء أي واحدة منها، أكثر من 3000 موظف من مصارف حكومية وخاصة)، بالإضافة إلى عشرة آلاف مُعتقل.

كذلك أُغلق أكثر من 2250 مدرسة خاصة ومؤسسة وجمعية تربوية، و15 جامعة، و35 مركزاً طبياً، و19 اتحاداً، وصُودرت أملاكها جميعها لصالح الخزينة العامة للدولة.

في الإعلام، أُغلقت أربع وكالات أنباء كبرى، و45 جريدة، و15 مجلة، و28 دار نشر، و16 محطة تلفزيونية، و22 محطة إذاعية، وسُحبت تراخيص مئات المواقع الإلكترونية، وحُجبت مواقع عالمية كبرى.

إذن، هي حملة تطهير جذرية تستبدل إدارة عامة بإدارة أخرى، وكأنها تهدم مؤسسات حكومية قائمة وتستبدلها بمؤسسات جديدة، مع ما يستتبع ذلك من تغيير في نمط الإدارة الجديدة ونهجها وأهدافها... تركيا تتغيّر.

استكمال تطويع الجيش
أما الجائزة الكبرى التي نالها اردوغان نتيجة هذا الانقلاب، فكانت إعادة هيكلة الجيش والقوات المُسلّحة. منذ وصوله إلى السلطة، واردوغان في حالة كباش مُرهق مع الجيش التركي «المهيب». في بدايات حكمه تعاون مع غولن (يوم كانا حلفاء السلطة وخصوم العلمانية المتطرّفة التي يُمثّلها الجيش التركي) على تقليم أظافر الجيش رويداً رويداً. فاستغل بحنكة بعض شروط الديموقراطية الأوروبية التي لطالما نادت بها العلمانية، والتي من أهمها إبعاد الجيش عن السياسة وعن الحكم وإبقائه في ثكناته، ليُلزم بها جيشه.

ولما كان الغولنيين قد وصلوا بتغلغلهم إلى مناصب مُهمّة في القضاء، سعّروا حملات قضائية واسعة ضدّ كبار جنرالات الجيش عن طريق اتهامهم بالعمل على إشاعة الخوف والاضطرابات تمهيداً للقيام بانقلابات عسكرية؛ فكانت محاكمات تاريخية مُهمّة مثل «بليوز» (Balyoz المطرقة في العام 2003) و «إرغنكون» (Ergenekon في العام 2008)، التي أطاحت بكبار القادة العسكريين وزجّت بهم في السجون. تبيّن لاحقاً أن بعض هذه المحاكمات (وبالأخص إرغنكون) كانت مفبركة، وأنها كانت نتيجة مؤامرات ومكائد نصبتها شبكة غولن للإيقاع بكبار الضباط وطردهم من الجيش وإحلال ضباط مُوالين لها مكانهم.

وهكذا استفاد أردوغان استفادة مُضاعفة: أطاحت مؤامرات «الغولنيين» ببعض قادة الجيش وأضعفت سطوته وكسرت من هيبته؛ ومن ثم كشف مؤامرة غولن أمام الأتراك، فكسب ثقة بعض القوميين وأجّج مشاعر الحقد والانتقام ضدّ الداعية وحركته. وهكذا، فما إن أعلن أردوغان في معمعة ليلة الانقلاب أن الانقلابيين هم من أتباع غولن، حتى استفزّ الشارع التركي وتدفّق مناصروه وخصومه (لا سيما القوميين والعلمانيين الأتاتوركيين) على السواء إلى الشوارع وتصدّوا للانقلابيين، وراحوا يُطاردونهم ويصطادونهم ويهينونهم في سابقة تاريخية لم يذقها الجيش التركي، وستظلّ مطبوعة في ذاكرته.

جاء الانقلاب الفاشل، إذن، ليُطلق يد أردوغان في استكمال سيطرته على الجيش، فأصدر مجموعة قرارات هي عبارة عن خطة متكاملة تروّض الجيش وتضعه تحت السلطة التنفيذية المدنية. يُمكن إيجاز أهم بنود هذه الخطة كما يلي:

÷ وُضعت القوات البرية والبحرية والجوية تحت سلطة وزارة الدفاع المباشرة (كانت تحت سلطة قيادة الأركان العامة).
÷ أصبح لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حقّ الحصول على معلومات مباشرة من هذه القوات، ولهما كذلك الحق في أن يُصدرا إلى قادة هذه القوات أوامر مباشرة تُنفّذ فوراً من دون الحاجة إلى أخذ موافقة أي مرجع آخر (لم تكن الأوامر توجّه إلى الجيش إلا من قبل قيادته).
÷ وُضعت قوات «الجندرما» (الدرك) تحت سلطة وزارة الداخلية. و «الجندرما» هي قوات عسكرية خاصّة مُكلّفة حفظ الأمن الداخلي لا سيما في مناطق الاضطرابات (المناطق الكردية)؛ ولطالما اعتبرت عصا الجيش الغليظة في أيّ تحرّك داخلي، لا سيما أيام الانقلابات العسكرية القديمة. ومنها خرج المئات من أنصار الانقلاب الأخير.
÷ كذلك وُضعت قوات خفر السواحل تحت سلطة وزارة الداخلية.
÷ تغيّرت هيكلية المجلس العسكري الأعلى، وهو المسؤول عن تشكيلات جميع أفراد القوات المُسلّحة وترقياتهم وأوضاعهم الوظيفية، وعن رسم السياسة الاستراتيجية العسكرية، وهيكلية الجيش العامّة وعقيدته. بموجب التعديلات الأخيرة، طغى الطابع المدني على العسكري فيه، فأُضيف إلى عضويته - إلى جانب رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان العامة، وقادة القوات البرية والجوية والبحرية - نواب رئيس الوزراء جميعاً (عددهم أربعة)، ووزراء الداخلية، والخارجية، والعدل. وخرج منه عدد من الجنرالات والاميرالات وقادة القطع بمن فيهم قائدا «الجاندرما» وخفر السواحل بعد إلحاق هاتين القوتين بوزارة الداخلية. وأصبح وزير الدفاع هو مَن يتولّى منصب أمين عام المجلس بدلاً من نائب رئيس الأركان العامة.
÷ أُغلقت وألغيت جميع الكليات والمدارس الحربية بفروعها كافة (وهي المعروفة تاريخياً بطابعها الأتاتوركي العلماني المتشدّد، والتي اخترقت مؤخراً بالعناصر «الغولنية» بعد سيطرتها على دوائر الامتحانات فيها واتهامها بتسريب أسئلة الامتحانات لمناصريها على مدى 14 سنة الماضية)، وجُمّدت عضوية المنتسبين الحاليين ومُنعوا من التعيين. وقضت التعديلات بإنشاء جامعة الدفاع الوطنية لتحلّ محلّ جميع الكليات والمدارس الحربية المُلغاة وتُصبح المظلّة لجميع المؤسسات التعليمية العسكرية الجديدة، تحت إدارة رئيس جامعة يُمكن تعيينه من خارج السلك العسكري.
÷ وُضعت المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية العسكرية تحت سلطة وزارة الصحة وإدارتها.
÷ صدرت قرارات بإعفاء 3073 ضابطاً وجندياً، بينهم 140 جنرالاً كبيراً يُمثّلون ثلث جنرالات الجيش التركي. وكان لافتاً وجود جنرالات في مواقع حسّاسة جداً بين المطرودين، منهم: المعاون الشخصي (aide-de-camp) للرئيس اردوغان العقيد علي يازجي، والمعاون الشخصي للجنرال خلوصي آكار رئيس الأركان العامة المُقدّم ليفنت توركان، ومساعد وزير الدفاع فكري ايشيق وكاتب خطاباته المُقدّم توفيق غوك.

*باتر فخر الدين ــ السفير

109-4