في ذكرى رحيل الرسول الاعظم..

"يا رسول الله، لقد أدّينا الأمانة"

الأحد ٢٧ نوفمبر ٢٠١٦ - ٠٨:٤٦ بتوقيت غرينتش

قال تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين".

ووقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بحيال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وهو يقول: سلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبرکاته اللهم إنا نشهد أنه قد بلَغ ما انزل اليه ونصح لامته وجاهد في سبيل الله حتی اعز الله دينه وتمت کلمته اللهم فاجعلنا من يتبع ما انزل الله اليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه..
عانى النبيّ محمد صلى الله عليه وآله، ما عاناه من ظلم وجهل وكفر وتعنّت المشركين، وامتدّت حياته حتّى تمكن من تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة، وركّز قواعد الرّسالة الّتي حاول المشركون أن يمنعوا امتدادها في العالم، ولكنّ الله تعالى أراد لهذه الرّسالة أن تمتد إلى كلّ زمان ومكان، لأنّ الرّسالة الإسلاميّة الّتي جعلها الله خاتمة الرّسالات، كما جعل رسولها خاتم الأنبياء، هي رسالة للحياة كلّها.
وکانت اولی مهمام الرسول الاکرم صلی الله عليه واله وسلم بعد عودته من حجة الوداع، ان يغزو الروم والذين يهددون دولته من الشمال، فبدأ يجهز جيشا ضخما لغزوهم ضمَ عليَه القوم وشيوخ المهاجرين والانصار کأبي بکر وعمر وعثمان وسواهم، وقد عين لقيادته الصحابي الشاب "أسامة ابن زيد بن حارثه".
أراد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في ظل تلك الظروف ان يخلو الجو السياسي من امور قد تعيق عملية انتقال السلطة إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، للقيام بمهام الخلافة من بعده، لانه كان اهلا لها بنص القرآن الكريم وتصريح الرسول العظيم، وذلك بعد ان لمس النبي (ص) تحسّسا وانزعاجا من بعص الاطرف بعد تاكيده المستمر على مرجعية الإمام علي (ع) وصلاحيته لاتمام مسيرة النبي (ص) خصوصا بعد بيعة الغدير، فاراد صلى الله عليه وآله ان يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام الإمام علي (ع) لزمام الدولة من بعده دون صدام وشجار، ولهذا عقد النبي (ص) لواء وسلمه إلى اُسامة بن زيد - القائد الشاب الذي نصبه الرسول (ص) في اشارة بليغة إلى أهمية الكفاءة في القيادة - وجعل تحت إمرته شيوخ الانصار والمهاجرين وقال له:"سر إلى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فاغز صباحا لى اهل اّبنى". ولكن روح التمرد والطمع في السلطان وقلة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسليم التام لامر النبي صلى الله عليه وآله ولعلها كانت عارفة بالاهداف التي قصدها الرسول (ص) ومن هنا حاولت ان تؤخر حركة الجيش المجتمع في معسكر "الجرف" وبلغ النبي (ص) ذلك والذي كان (ص) قد تعرض لمرض شديد اثناء تجهيز الجيش، فغضب وخرج الى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله واثنى عليه وقال: "اما بعد ايها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تاميري اُسامة، ولئن طعنتم في إمارتي اُسامة لقد طعنتم في امارتي أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة وان ابنه من بعده لخليق للامارة، وان كان لمن احب الناس اليّ وانهما لمخيلان لك خير، واستصوا به خيرا فانه من خياركم". اعلام الهداية عن -الطبقات الكبرى- .
أخذ المرض يشتد علی رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي تلك الساعة العصيبة کان يؤکد باستمرار علی وجوب تسيير جيش اسامة وعدم التخلَف عنه، لکن البعض تخلَف عن تنفيذ طلب النبي الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم بحجة انهم لايرغبون مفارقة الرسول، وفي آخر ساعاته خاطب صلى الله عليه وآله وسلم من حضر عنده من اصحابه بقوله: "ائتوني بدواة وکتف، لاکتب إليکم کتابا لاتضلَوا بعده أبدا". وکان في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال عمر إن الرجل ليهجر- قد غله الوجع - وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله. - صحيح بخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد وباب جوائزالوفد-.
فاختلفوا وکثر اللغط واختصموا، فمنهم من يقول قرَبوا يکتب لکم رسول الله (ص) ومنهم يقول ما قال عمر، فلما أکثروا اللغط والاختلاف وغمَ رسول الله وقال: قوموا عني ولاينبغي عندي التنازع.
وکان ابن عباس يعبَر عن أساء لما حدث بقوله: الرزية کل الرزية ماحال بيننا وبين کتاب رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم. صحيح البخاري کتاب العلم .
قد أغمی علی رسول الله (ص) من شدَة المرض وبعد ان أفاق (ص) قال القوم: الا نأتيك بدواة وکتف؟ فرفض الرسول (ص) قائلا: (أبعد الذي قلتم؟ ولکني أوصيکم بأهل بيتي خيرا) -بحار الانوار- .
ولما قرب اجله أوصی عليا بجميع وصاياه وفاضت نفسه الطاهرة في حجر علي عليه السلام. -مناقب الخوارمي عن عائشة والمحب الطبري في ذخائر العقبی والکنجي والشافعي في کفاية الطالب- .
وهکذا خسرت الانسانية أعظم هاد وأجل مرب عرفته الارض والسماء .
ولم يکن حول النبي صلى الله عليه وآله في اللحظات الاخيرة إلا علي بن أبي طالب وأهل بيته وبنو هاشم ونساؤه، وقد علم الناس بوفاته صلى الله عليه وآله من الضجيج والصراخ الذي علا من بيت الرسول (ص) حزنا علی فراق الحبيب وخفقت القلوب هلعة لرحيل اشرف خلق الله، وانتشر خبر الوفاة في المدينة انتشار النار في الهشيم ودخل الناس في حزن وذهول رغم انه (ص) کان قد مهد لذلك ونعی نفسه الشريفة عدة مرات واوصی الامة بما يلزمها من طاعة وليها وخليفته من بعده، علي بن ابي طالب. لقد کانت وفاته صدمة عنيفة هزت وجدان المسلمين فهاجت المدينة بسکانها  .
في ظل هذه الاجواء العصيبة والاليمة والحساسة، اسرع اصحابه الی سقيفة بني ساعدة لعقد اجتماعا طارئا فيما يخص الخلافة بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، متناسين عمدا نصب علي بن ابي طالب وکذلك بيعتهم إياه بالخلافة في غدير خم، وغير مدرکين ان تصرفهم هذا يعد استخفافا بحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وجسده المسجی.
أما الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام واهل بيته، فقد انشغلوا بتجهيز الرسول الأکرم (ص) ودفنه فقد غسَله الإمام عليَ من دون ان ينزع قميصه واعانه علی ذلك العباس بن عبدالمطلب والفضل وکان يقول عليه السلام: بابي انت وأمي ما أطيبك حيا وميتا.
وکان يسکب الماء علی ذلك الجثمان المطهر وهکذا يناجيه:"بأبي أنت و أمي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك وعممت حتى صار الناس فيك سواءً ولو لا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون ولكان الداء مماطلًا والكمد محالفاً قلا لك ولكنه ما لا يملك رده ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي أذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك."
ثم وضعوا جسد الرسول (ص) علی سرير وقال علي (ع) ان رسول الله (ص) امامنا حيا وميتا فليدخل عليه فوج بعد فوج فيلصون عليه بغير امام وينصرفون. واول من صلی علی النبي (ص) علي واهل بيته وبنو هاشم، ثم صلت الانصار من بعدهم. -الارشاد- .
ووقف علي عليه السلام، بحيال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "سلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبرکاته اللهم إنا نشهد أنه قد بلَغ ما انزل اليه ونصح لامته وجاهد في سبيل الله حتی اعز الله دينه ووتمت کلمته اللهم فاجعلنا من يتبع ما انزل الله اليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه"، فيقول الناس آمين حتی صلی عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان. الطبقات الکبری .
وحفر قبر النبيّ صلی الله عليه وآله وسلم في الحجرة التي توفي فيها وحين اراد الإمام علي عليه السلام ان ينزله في القبر، نادت الانصار من خلف الجدار: ياعلي نذکرك الله وحقنا اليوم من رسول  الله ان يذهب، أدخل منا رجلا يکون لنا به حظ من مواراة رسول الله (ص) فقال عليه السلام:"ليدخل أوس بن خولي"، وکان بدريا فاضلا من بني عوف. ونزل علي عليه السلام إلی القبر فکشف عن وجه رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، ووضع خده علی التراب ثم أهال عليه التراب .
ولم يحضر دفن النبيّ الاکرم (ص) والصلاة عليه، احد من الصحابة الذين انشغلوا في السقيفة، في الواقع انها كانت مصيبة كبرى اضيفت إلى اعظم مصيبة بقفد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وإننا عندما نستقبل ذكرى وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله، فإنَّ علينا أن نعرف أنّ النبي (ص) قد ترك الإسلام والقرآن وعترته من أهل البيت أمانة عندنا، وعلينا أن نحفظ أمانته (ص) في الإسلام والقرآن وأهل البيت(ع)، حتّى عندما نقدم عليه نقول له: يا رسول الله، لقد أدّينا الأمانة. وصلّى الله على محمد رسوله يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يُبعث حيّاً.

 

205