كان سيف الإسلام على حق!

كان سيف الإسلام على حق!
الثلاثاء ٢٨ مارس ٢٠١٧ - ٠٥:٣٥ بتوقيت غرينتش

كان سيف الإسلام القذافي على حق عندما خرج في التلفزيون الحكومي (الذي ملكه هو ووالده في الحقيقة) في الأسبوع الأخير من شباط (فبراير) 2011 مهدداً ومتوعداً بسبابته اليمنى الذين خرجوا للمطالبة بوضع حد لحكم والده المستبد: «انسوا شي اسمه نفط.. وشي اسمه استقرار.. وشي اسمه تنمية».

العالم - مقالات

يومئذ، خاطبته في قرارة نفسي وأنا أتابع ذلك البث التلفزيوني: أيًّا كانت ليبيا بعدك، ستكون أفضل.
في ليبيا اليوم حرب أهلية تتغذى عقائديا ومناطقيا وعرقيا وقـَبَليًا، مع تدخلات خارجية، إقليمية ودولية، واضحة للعيان. الحرب الأهلية غير مفهومة وليس لها ما يبررها، لأنه لا يوجد في ليبيا ما يستحق التضحية من أجله. لكن التدخل الخارجي مفهوم بالنظر إلى الموقع الجغرافي للبلد والتداعيات المحتملة استراتيجيا وأمنيا للصراع إذا ما فلت من عقاله. الحرب في ليبيا، وعلى خلاف الكثير من الحروب الأهلية الأخرى، ليست شأنا داخليا صرفا.
كل الحروب قذرة، أهلية كانت أم بين دول وجيوش نظامية. وكلها فيها محطات من البشاعة الإنسانية يصعب تصديقها. قد يمكن تبرير الجنون عندما يتداخل أكثر من دافع في إشعال الحرب وضمان ديمومتها، كأن يلتقي العرقي والديني وإغراء الكرسي معا (حدث ذلك في البوسنة ورواندا مثلا، فارتُكبت الفظاعات). لكن حال ليبيا مختلف، إذ لا مبرر للحرب غير كرسي الحكم ودواعي النفوذ والاستيلاء على حقول وموانئ النفط.
هذا يجعل من الصعب تفهم كيف ومن أين جاء كل ذلك الحقد المستشري بين الأطراف المتقاتلة والذي بلغ ذروته الأسبوع الماضي، عندما شاهد العالم مَن يُعتقد أنه النقيب محمود الورفلي، من قوات الصاعقة في «جيش» اللواء خليفة حفتر يصفي ـ بالرصاص ـ وبدم بارد ثلاثة سجناء مكبلين ووجوههم نحو جدار مهترئ.
صحيح أن اللقطات المصورة التي شاهدها العالم دامت دقائق معدودة، لكن دلالتها تؤرخ لدهر من الأحقاد والأمراض النفسية. أول ما يستنتجه المرء أن الأمر يتعلق بقاتل محترف قد لا يكون أولئك القتلى أول وآخر ضحاياه. كما أن في إطلاق النار من المسافة صفر ومسدس تحمله اليد اليسرى دلالات على استسهال فعل القتل وتمييعه على يد من يملك السلاح.
قبل ذلك بلغ الحقد ذروته مع استخراج مقاتلين تابعين لقوات حفتر، يقودهم النقيب الورفلي، جثة جلال المخزوم من قبره بعد أسبوع من دفنه. المخزوم قـُتل في قصف لقوات حفتر، بيد أن الموت لم يشف غليل المنتمين إلى المعسكر الآخر فاستخرجوا الجثة وطافوا بها في الشوارع وسط هستيريا التهليل بإطلاق الرصاص في الهواء والصراخ والبصق والشتائم، ثم شنقوها أمام الملأ. كانت حالة تفوق الوصف من الوحشية واللاآدمية.
لم تكن جثة المخزوم وحدها، بل طالت الايادي قبور ضحايا آخرين، بينهم نساء، وفق تقارير ليبية، تعرضت للنبش والإهانة.
لا يوجد شيء يستحق كل هذا الحقد أو يبرره، حتى لو كان ما حدث رد فعل على أفعال سابقة من مثل الانتقام من المخزوم كونه مَن قاد الهجوم على معسكر الصاعقة التابع لحفتر في 2014 وقتل وأضرم النيران. الرجل توفي في معركة، والمروءة، لمن بقي فيه شيء منها، تمنع المساس بالقبور، وتمنع على صاحبها «إعادة قتل» الجثث.
لا يملك المرء إلا أن يهنئ الليبيين بهذا التفوق: بطولات ونياشين عسكرية وصاعقة وحفلات.. من حول قبور وجثث شبعت موتا.
آمنت منذ سنوات بأن ليبيا مهشمة وبدون معمر القذافي وأولاده، أفضل لليبيين من ليبيا مستقرة بالقذافي وأولاده.
أنطلق في تقديري القاسي هذا من عملية حسابية بسيطة: لو تُرك القذافي الأب يحكم ليبيا كان سيسود فيها 25 سنة أخرى (مستغبيًا العالم بلا انقطاع أنه لا يحكم)، ثم يوّرثها لسيف الإسلام أو واحد آخر من أبنائه ليحكمها أربعين سنة أخرى. النتيجة: 65 عاما من حكم رجل واحد وابنه. وإذا أضفنا لهذه السنين تلك المسيرة المظفرة التي بدأت في «الفاتح» من عام 1969، سيتجاوز عدد السنين المائة.
قرن من حكم عائلة استولى كبيرها على الحكم من عجوز لم يجد في بيته ديناراً بعد عزله، فكمّم الأفواه وأطلق أولاده يعيثون فساداً في الأرض.
في المقابل، يتقاتل الليبيون خمس أو عشر سنوات، ثم يتعبون ـ لأن التاريخ لا يحفظ حربا أهلية واحدة استمرت إلى ما لانهاية ـ ويتصالحون ويبدأون العيش مع بعضهم وإعمار بلادهم.
حتما ستكون الفاتورة ثقيلة ومحزنة على صعيد الفرد كما على صعيد المجتمع. لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بأن الفاتورة ستكون أسوأ منها في حكم القرن من حكم آل القذافي.
اليوم، وبعد أن شاهدت جزءا يسيرا من كل هذا الحقد المتفشي، أراجع قناعتي. وأحزن على حال الضحايا الذين قدموا أرواحهم قربانا لليبيا حرة وديمقراطية. لا أسف على القذافي وأولاده. كل الأسف على ليبيا المنكوبة وشعبها المسكين.. من هذا الورفلي وأشباهه.

* توفيق رباحي - القدس العربي

114-4