المقعد الصامت الجليل.. وزعماء النرد والشيش بيش

المقعد الصامت الجليل.. وزعماء النرد والشيش بيش
الجمعة ٣١ مارس ٢٠١٧ - ٠٥:٣٦ بتوقيت غرينتش

لايستحق مؤتمر القمة العربي أي كلمة تكتب عنه الا من سبيل التندر والفكاهة لأنه مؤتمر لايؤخذ على محمل الجد لا في العالم العربي ولا في خارجه.. وأراهن أن كل من حضر كان في سره يضحك على نفسه من هذه التمثيلية السمجة والمليئة بالنفاق والتمثيل ..

العالم - مقالات

وأعتقد ان أصعب شيء في الحياة أن يكون أحدنا رئيسا عربيا ويضطر لحضور نشاطات هذا المقهى وهو لايقدر أن ينظر في عيون الناس خجلا من هذا المصير المهين.. وانا على ثقة ان النقاشات التي تدور في اي مقهى عربي على انغام طاولة الزهر وقرقرة الاراكيل بجانب اي رصيف فيها ثراء وثقافة وجدوى أكثر من كل هذه الاجتماع لقادة العرب.. لأن لاأحد في العالم العربي يمكن ان يسمع باجتماع القمة العربي ويحس بالغضب بل أجزك أنه سيحس برغبة في الابتسام وأحيانا لايقدر على كتم ضحكة تهز أكتافه وتخرج من بين شفتيه اللتين تعجزان عن احتجاز موجات الضحك المتدفق ..

ولكن لااخفيكم بأن أجمل مافي مشهد الجامعة العربية هو تلك الصورة لمقعد سورية الفارغ.. وبرغم فراغ المقعد فان ضغط وهيبة الاسم والعلم جعلت الكرسي الفارغ أهم كرسي في كل ذلك المؤتمر.. فكل الكراسي الملأى بأجساد الزعماء والدشاديش الملكية كانت كمن تحمل أجساما محشوة بالريش.. بالكاد تستقر على الكرسي وبعضها لاشك انه ربط بالكرسي بالأثقال الحديدية والذهب لأنه لاشك سيطير الى السقف مثل البالون ليس بسبب انعدام جاذبية نيوتن، بل بسبب انعدام الجاذبية الوطنية والانسانية وأحيانا الخلقية.. الا الكرسي السوري الفارغ الذي كان صمته مهيبا ورهيبا وجليلا، مثل صمت الأنهار الهادئة التي تنساب دون ضجيج.. وكان بعبوسه الهادئ وجمود حركته يطغى على كل الاصوات.. ولعلي اقول بأن أعظم مامرّ في المؤتمرات العربية على الاطلاق منذ وجود العرب الحديث والجامعة العربية هو ذلك الكرسي الفارغ بهيبته الطاغية التي جعلت جميع العرب بوزن الريش أمام غياب الرئيس السوري .. فعرفنا اليوم أن العرب من غير سورية لاوزن لهم ولاثقل.. ولاحضور ولالون ولاطعم ولارائحة.. وان ماأعطاهم ثقلهم على الدوام كان ذلك الكرسي الذي كان الرئيس السوري يملؤه هيبة ووطنية وطموحا للأمم ..

ولعلي أعترف اليوم بأن أجمل ماوقعت عليه عيناي واكثر مرة احس فيها بالفخر هو ذلك الكرسي الفارغ الذي جعل الأمة العربية اليوم تقرّ في اللاوعي أنها من غير سورية لاتساوي شروى نقير وأنها أمة مجوفة.. لأن أي دولة عربية نافذة لاتستطيع أن تلعب دورا من غير سورية.. فمصر التي نحبها اتكأت بعظمتها على سورية في كل مراحلها الحديثة منذ عبد الناصر الى اليوم .. بل ان عظمة ناصر كانت من أنه تلاقى مع سورية في معركة بورسعيد والعدوان الثلاثي .. ثم أعاد اللقاء معها في الوحدة ثم تقاسم معها الهزيمة قبل أن يتقاسم معها السادات النصر .. فحتى نصر اكتوبر المصري اتكأ على سورية التي شاغلت العدو في الشمال لانجاز العبور .. ومنذ ان انفصلت مصر عن سورية في السياسة وتخلت عنها تراجع دور مصر الاقليمي وصارت مثل الجامعة العربية اليوم .. واليوم لايخشى العالم من الرئيس عبد الفتاح السيسي، الا بأن يقوم بمناورة مفاجئة تجمع مصر بسورية.. لأن هذه المناورة هي كابوس العالم .. ولذلك فان العالم يراقب السيسي بقلق ويحلل كلماته ليرى ان كانت ستعيد سورية الى مصر ومصر الى سورية .. ولذلك كلفت السعودية بأن تغدق العطايا والودائع لمصر من أجل ألا تجد مصر نفسها وجها لوجه مع قدرها الذي يجمعها بسورية ..

وذات القصة بالنسبة لسورية والعراق.. فالعراق منذ ان ابتعد عن سورية وهو تائه بين حروب القادسية وحروب القبائل العربية على القبائل العربية وحرب الشيعة والسنة والصفويين والفرس والعرب وحروب عبس وغطفان .. ولن يعيده من التيه الا عودته الى الانسجام مع سورية.. ولذلك فان كل جامعة العرب تعيش فراغا هائلا، لأن الحلقة الأساسية التي تجعل كيمياء العرب تتفاعل هي العنصر السوري المشع والحلقة السورية.. وبدونها سيبقى العرب من دون تفاعل الكيمياء ومن دون اشعاع ومن غير ذلك الكبريت الذي يشعل النار في بارودهم الذي ثار رطبا ببول البعير ..

اني اذ أفتخر اليوم فهو أن مقعد سورية فارغ وقد افرغ كل رؤوس العرب وكل خيلاء العرب وكبرياء العرب.. فراغ المقعد جعلني أحس بالكبرياء وأنني لأول مرة أشعر بالرضا لأنني أهنت الجامعة العربية بغيابي.. وانني بغيابي جعلتها أشبه بالمقاهي التي لاشيء فيها غير الشيشة والشيش بيش والدوشيش.. وأنني رفعت من مستوى الكبرياء السوري الذي قرر أن يعاقب العرب بغيابه وهم الذين ارادوا معاقبته بحرمانه من أن يكون بين العرب في جامعتهم ..

المقعد الفارغ كان أكثر المقاعد هيبة وكان أجمل المقاعد.. وأعظم المقاعد .. وأتمنى ألا نعود الى ذلك الزمن الذي نهب فيه العرب مجدا وعزا ونحن الذين تواضعنا الى مستوى ذلك المقهى الذي بالفعل لم يبق فيه الا الشيشة والشيش بيش والدوشيش والشيش طاووق .. وبالأمس سمعنا في قمة العرب قرقعة الشيشة وطقطقة طاولات الزهر وتشقبلات النرد وأوجاعه على طاولات زعماء العرب وهم يلعبون النرد في السياسة ويتلون علينا الحظوظ والنصيب في أصوات الزعماء العرب التي لم تشبه الا اصوات فناجين القهوة في المآتم والجنائز.. فيما كان صمتنا بليغا بليغا .. ووجومنا حكيما مهيبا رصينا ..

فيا لهيبة ذلك المقعد الصامت .. الذي قال الحقيقة دون أن ينطق بكلمة واحدة.. فقال بأن سورية استطاعت أن تعيش من دون العرب .. ولكن لن يعيش العرب من دون سورية .. فماذا يساوي العرب .. من دون سورية .. سوى مقعى ملئء بالضجيج الفارغ وصراخ لاعبي الورق وسحاب دخان الأراغيل الكثيف؟؟

* نارام سرجون - وكالة أوقات الشام الإخبارية

2-3