الصراع الاستخباري بين حماس و "إسرائيل"

الصراع الاستخباري بين حماس و
السبت ٢٢ أبريل ٢٠١٧ - ١٢:٤٥ بتوقيت غرينتش

يخطئ من يظن أن الصراع الدائر بين حماس و "إسرائيل" هو صراع حربي يتصل بأشكال الحرب والعدوان المعروفة ميدانيا فحسب، بل إن الصراع الحربي الذي يلتهب به الميدان يشكل نتاجا للصراع الاستخباري القائم بين الطرفين، والذي تعمل فيه العقول والأدمغة وما تسخره من وسائل وأدوات، بشكل خفي للغاية لا يمكن إدراك خطورته وتحسس قيمته إلا لأصحاب الشأن وأهل الوعي الأمني الرفيع.

العالم - فلسطين

من هنا يمكن الجزم بأن الصراع بين حماس و "إسرائيل" هو صراع استخباري شرس وخفي في المقام الأول، رغم فارق القدرة والإمكانيات بين الطرفين.

تطور حماس الاستخباري

اجتهدت حماس في الجانب الاستخباري فترة طويلة، لكن ضعف الخبرات المطلوبة جعلها مسرحا للفعل الإسرائيلي في معظم الأحيان، رغم تمكن الحركة من إيلام الاحتلال وتحقيقها أحيانا إنجازات مهمة.

لم تنشئ حماس جهازا استخباريا متخصصا في السابق، وتركز جلّ نشاطها المعلوماتي على ما توفره أجهزتها الأمنية من معلومات ومعطيات لا ترقى إلى المستوى المهني الاحترافي.

وفي الأعوام الأولى لانتفاضة الأقصى (اندلعت عام 2000) أدركت حماس حاجتها الماسة إلى بناء جهاز استخبارات قوي يعمل وفق قواعد مهنية ومعايير احترافية، وشرعت في بنائه من الصفر بإمكانيات متواضعة.

وأخذت في تطوير جهازها تدريجيا وتزويده بالكوادر المؤهلة والاستفادة من العبر والدروس الميدانية (وأهمها حرب 2008 و2009)، إلى أن أصبح لديها جهاز استخباري جيد يمكن الوثوق به والاعتماد على تقديراته الإستراتيجية في بناء المواقف وصناعة القرار السياسي والأمني والإستراتيجي.

وتجسدت قدرات الجهاز الاستخباري التابع لحماس أوضح ما يكون في حربي عام 2012 و2014، إذ فوجئت المستويات السياسية والعسكرية والأمنية في "إسرائيل" بالتطور الاستخباري لدى حماس الذي أسهم في إرباك بعض المخططات العسكرية الإسرائيلية، ومنح حماس القدرة على ضرب أهداف مختلفة داخل "إسرائيل" أثناء المعارك القتالية بين الطرفين.

تحيط حماس جهاز استخباراتها بسرية ملحوظة، إلا أن ما يرشح من معلومات ينم عن اهتمام شديد لدى الحركة بتطوير قدراتها الاستخبارية في ظل إدراكها أن مدى نجاحها في عملها الاستخباري ينعكس تلقائيا على قدرتها في التصدي للمخططات الإسرائيلية التي تستهدفها، ويتيح لها هامشا واسعا لمواجهة أي حرب قد تشنها "إسرائيل" مستقبلا.

ومع اقتراب الذكرى الثالثة لحرب عام 2014 تزايدت المؤشرات على تطور استخباري لافت لدى حماس، إلا أن اغتيال الشهيد مازن فقها في مارس/آذار الماضي وضع الحركة وأجهزتها الأمنية -وفي مقدمتها جهازها الاستخباري- في موقف بالغ الصعوبة والحرج والحساسية.

صراع استخباري شرس

لا يبدو الصراع الاستخباري بين حماس و "إسرائيل" سهلا أبدا، فالطرفان -مع فارق إمكانياتهما وقدراتهما- يعملان ليل نهار ضد بعضهما البعض، وهنا يرتفع الثمن ويصبح الخطأ أحيانا ذا قيمة فادحة.

لم يتوقف الصراع الاستخباري بين حماس و "إسرائيل" في يوم من الأيام، إلا أنه عاد أكثر شراسة إلى واجهة الأحداث مجددا عقب اغتيال الشهيد مازن فقها، وهو أحد الأسرى المحررين في صفقة جلعاد شاليط عام 2011، وتتهمه "إسرائيل" بالوقوف والإشراف على النشاط العسكري لكتائب القسام الجناح المسلح لحماس في الضفة الغربية.

شكل اغتيال فقها ضربة أمنية واستخباراتية موجعة تحت الحزام لحركة حماس قد تكون الأصعب والأقسى منذ تأسيسها، إذ إن سياقات ردود الفعل على حادثة الاغتيال أظهرت صدمة مدوية لدى كافة المستويات داخل حماس.

وبدا أن قيادة الحركة والمتنفذين فيها قد أسقطوا تماما من حساباتهم إمكانية حدوث هذا الاختراق الأمني الخطير، وتعاملوا مع غزة وكأنها ساحة آمنة بكل المقاييس، مما أورثهم حالة غير مسبوقة من الذهول الممتزج بالألم والغضب الشديدين.

 وفي إطار تحليل عملية الاغتيال؛ يتضح من تفاصيل وحيثيات التنفيذ أن العملية لم تتقصّد اغتيال قائد عسكري كبير لحماس فحسب، بل إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أرادت إرسال بعض الرسائل الخطرة والحساسة إلى قيادة حماس السياسية والعسكرية والأمنية، ومن بينها رسالة استخبارية بالغة الأهمية.

في الحالة المتعلقة باغتيال الشهيد فقها جنت "إسرائيل" ثمنا باهظا من حماس لم يكن مفترضا أن تدفعه بأي حال من الأحوال، وسجلت هدفا استخباريا بالغ الدقة في مرمى الحركة. ورغم أن عملية الاغتيال لم تعبر عن ذكاء واحتراف إسرائيلي خارق؛ فإنها عبرت عن تقصير خطير في إجراءات الأمن واحتياطات السلامة الشخصية لبعض كوادر الحركة العسكريين.

استخبارياً انطوت صفحة العملية بحد ذاتها، لكن تداعياتها بدأت فعليا ولن تنتهي قريبا، مما يعني أن المرحلة الراهنة ستشهد صراعا استخباريا خفيا وعميقا تحاول فيه حماس رد الاعتبار إثر ما لحق بها من أذى أمني واستخباري وسياسي وإعلامي، فيما تعمد "إسرائيل" إلى تفريغ أي جهد استخباري أو أمني -قد يترتب عليه عمل عسكري تبتدره حماس- من أي مضمون حقيقي.

ما يميز استخبارات حماس هو تحلّيها بمنظومة واضحة من الإرادة والعزم، والإصرار المتواصل على تطوير الذات والأدوات والارتقاء بالعمل والأداء، وهو ما يجعل تخوف "إسرائيل" من ردة فعل حماس على عملية الاغتيال أمرا مشروعا وفي محله تماما.

تدرك "إسرائيل" أن حماس لن تنجح في الرد على عملية اغتيال فقها بمعزل عن المعلومات والجهد الاستخباري الدقيق، وتبعا لذلك فهي تتابع بدقة كل شاردة وواردة، وتراجع باستمرار منظومة الأمن والاحتياطات المتخذة، وترصد كل حرف يصدر عن حماس بكل مستوياتها.

وتأخذ على محمل الجِدّ أي سلوك أو تصرف أو حركة تصدر عن الحركة في مواقع وجودها الجغرافية المختلفة، وتعمل على تحليل كل صغيرة وكبيرة، وتتوقع السيناريوهات والبدائل المختلفة كي لا تأتيها ضربة حماس من حيث لا تحتسب.

ومن جهة حماس، من الواضح أنها قد استوعبت الدرس جيدا، فقد دفعتها شدة وقسوة الضربة الإسرائيلية باغتيال فقها إلى اليقظة من وهم تصوير غزة مكانا آمنا لا يمكن استباحته أو المساس به على هذه الشاكلة، والتنبه لحجم الترهل والضعف في منظومتها الأمنية الداخلية، وإعادة ضبط العلاقة مع تقديرات وتوجيهات جهازها الاستخباري، وضمان الالتزام بالمحددات والتعليقات والإرشادات الصادرة عنه.

وعلى أية حال، فإن أفق الصراع الممتد بين حماس و "إسرائيل" هو أفق استخباري بكل معنى الكلمة، ولربما تشهد المرحلة القادمة بعض تجليات هذا الصراع الخفي في الميدان، عبر تسريبات إعلامية مقصودة أو عبر تصريحات صادرة عن بعض القادة والمسؤولين الإسرائيليين.

قدرات حماس الاستخبارية

من الصعوبة بمكان وضع الإمكانيات والقدرات الاستخبارية لحماس في مقابل الإمكانيات والقدرات الاستخبارية الإسرائيلية، فالدولة العبرية تملك أدوات وخبرات استخبارية عالية على مستوى الإقليم والعالم، ولا يمكن لحركة بحجم حماس أن تضاهيها قوة وتأثيرا، سواء على المستوى المعلوماتي أو العملياتي.

ويمكن تبيان أهم مظاهر القدرة الاستخبارية لدى حماس فيما يلي:

أولا: جمع وتحليل المعلومات: فقد أثبت الجهاز الاستخباري لحماس قدرة هامة حين تولى جمع معلومات دقيقة ومركزة عن الجيش الإسرائيلي وتحركاته ونشاطاته، وامتلك قاعدة بيانات حساسة عن المراكز السياسية والعسكرية والأمنية والمنشآت الحيوية داخل "إسرائيل".

وذلك بفعل متابعة حثيثة وجهد فائق عبر أشكال الرصد الميداني والاستخباري والمعلوماتي، وتجنيد متعاونين فلسطينيين من أبناء فلسطين المحتلة عام 1948، وهو ما كان له أثره الفاعل في فهم تضاريس الاحتلال عسكريا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا.

ولعل الدقة التي مكنت حماس من إصابة الكثير من أهدافها في حرب عام 2012 وحرب عام 2014، ترجع إلى حجم الرصيد المعلوماتي وقاعدة البيانات الهامة التي امتلكتها حماس عن المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية في "إسرائيل".

وفي مرحلة ما بعد حرب 2014 أطلقت حماس منطادا ذا مهام استخبارية قرب حدود قطاع غزة مع "إسرائيل"، وهو ما يعد تطورا لافتا في إطار المعركة الاستخبارية بين حماس و "إسرائيل".

ثانيا: اختراق أجهزة الاتصالات الإسرائيلية: بلغت القدرات الاستخبارية لحماس حد اختراق منظومة الاتصالات التابعة للجيش الإسرائيلي في المناطق الحدودية على تخوم قطاع غزة، وتجلى ذلك أوضح ما يكون إبان حرب 2014 التي استطاعت فيها حماس استهداف قوات النخبة والوحدات العسكرية الأكثر قوة وتأهيلا في الجيش الإسرائيلي والإثخان فيها بشكل غير مسبوق.

فقد تمكنت حماس -عبر التنصت على الاتصالات الخاصة بالجيش الإسرائيلي ووحداته العسكرية العاملة في المناطق الحدودية وعلى تخوم القطاع- من معرفة آليات السلوك العسكري الإسرائيلي، وفهم طرق العمل والانتشار، وتحديد أماكن التجمع والانطلاق، مما منحها أفضلية في العمل والحركة لمواجهة القوات الإسرائيلية التي اقتحمت القطاع، ويسّر لها نصب الفِخاخ والكمائن المختلفة التي أصابت الاحتلال في مقتل في كثير من الأحيان.

بل إن القدرات الاستخبارية لحماس بلغت حد رصد الزيارات والجولات السرية التي قام بها كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لمناطق التماس مع قطاع غزة أثناء حرب عام 2014، وهو ما تجسد بوضوح في شريط الفيديو الذي وزعته حماس، ووثقت به زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي يعلون للمنطقة الحدودية المتاخمة لغزة.   

ثالثا: استخدام طائرات بدون طيار: في إطار تطور عملها الاستخباري؛ تمكنت حماس من تصنيع طائرات بدون طيار أسمتها "أبابيل" نسبة إلى الطيور الأبابيل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهذه الطائرات تستطيع التحليق على ارتفاعات محدودة لكن يمكنها اختراق الحدود والطيران لمسافات طويلة.

وتمتلك حماس ثلاثة أنواع من طائرة "أبابيل"، الأولى ذات مهام استخبارية لجمع المعلومات، والثانية ذات مهام هجومية بحيث تحمل صواريخ وتلقي بها على أهداف محددة، والثالثة ذات مهام انتحارية بحيث تحمل كمية من المتفجرات وتهوي بها انتحاريا على الهدف المحدد.

ويُنسب الفضل في تصنيع وتطوير هذا النوع من الطائرات إلى المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتاله الموساد الصهيوني في محافظة صفاقس بتونس نهاية العام الماضي، بسبب دوره الهام في تصنيع هذه الطائرات، وعزمه الشروع في تصنيع غواصات صغيرة قادرة على ضرب البوارج الحربية الإسرائيلية في عرض البحر، مما يشكل قلبا للمعادلة وتغييرا في قواعد اللعبة بين حماس و "إسرائيل".

ورغم أن الجيش الإسرائيلي أعلن مرارا إسقاط طائرات "أبابيل" لدى اقترابها من المناطق الحدودية مع "إسرائيل"، فإن عددا منها تجاوز الحدود في مرات عديدة وتمكن من التقاط صور وجمع معلومات داخل "إسرائيل".

وتؤكد المعطيات أن هذه الطائرة صورت أماكن تجمعات خاصة بالجيش الإسرائيلي قرب الحدود مع غزة إبان حرب عام 2014، كما شوهدت تخترق الحدود لتصل إلى مناطق داخل "إسرائيل"، مما يعني فعاليتها النسبية التي استثمرتها حماس بشكل كبير في غمار المعركة الدامية آنذاك.

وعلى أية حال، فإن الصراع الاستخباري بين حماس و "إسرائيل" لن يضع أوزاره ما دامت عقيدة حماس القتالية غالبة على خطاب وأدبيات الحركة، ولو كان ذلك في الإطار الدفاعي المحض كما هو الحال اليوم، وستظهر تجلياته الميدانية -بشكل أو بآخر- خلال المرحلة المقبلة.

لكن الخلاصة الأهم -التي ينبغي استيعابها دون التقليل من شأن العمل الاستخباري لحماس- تكمن في أن الجهد الاستخباري الإسرائيلي لاحتواء الجهد الاستخباري لحماس أكبر من قدرة الحركة على مواجهته.

وهو ما تجسد عمليا أحد جوانبه في الاختراق الكبير باغتيال الشهيد فقها، ويضع ذلك حماس أمام تحديات صعبة خلال المرحلة المقبلة، في ظل التطورات والأحداث السلبية التي تعصف بالقضية الفلسطينية على وجه خاص والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام.

مؤمن بسيسو / المركز الفلسطيني للاعلام

109-3