أزمة الانتماء في السعودية

الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٩ - ٠٧:٠٥ بتوقيت غرينتش

كثير من الباحثين والعابثين في جداليات الهوية والانتماء يبدأون بالسؤال البعدي: لماذا أخفقت المؤسسات الصغرى والكبرى: الاسرة، المدرسة، الجامعة، الجامع، الجمعية، الشركة، الدولة في إنماء مشاعر الحب والولاء والإنتماء؟ ألم يحن، بالنسبة لهم، الوقت كيما يتخلوا عن سؤال استنكاري كهذا، برائحة مقرفة لشهادات إدانة الآخر. فالسؤال المدخلي هو كيف تتشكل مشاعر الانتماء، وكيف تتكوّن الهوية لدى جماعة ومجتمع وأمة؟ هنا المنطلق للمقاربات الحقيقية والعلمية والنزيهة لمسألة الانتماء، وليس ما بعدها.

في العدد السابق من (الحجاز) عرضنا جانباً من مشكلة الهوية وهي الذاكرة التاريخية للدولة السعودية التي تجعل من بناء هوية وطنية مستحيلاً. وقد نكون بحاجة الى مزيد من الإيضاح، في ظل تساهل ساذج في مقاربة مسألة الهوية انطلاقاً من عوارضها وأعراضها وليس انغماساً في جذورها وجوهرها.
ومع الاذعان الى الحقيقة العلمية والتاريخية بأن بنية الهوية غير ثابتة بل متغيّرة، من طور إلى طور ضمن عمليات تفاعل تاريخي وثقافي واجتماعي مع الآخر، فإن ثمة ما يؤثر فيها بشكل مباشر وصميمي.

فيض غزير من البحوث تعرّض لعلاقة الذاكرة والهوية، من جهة دور الذكريات في تشكيل وشحن وزخم الهوية. والذاكرة هي إعادة بناء للماضي، بحسب جويل كاندو، وهي مصدر الغذاء الأساسي للهوية. والذاكرة هي المسؤول المباشر عن بناء الهويات الجمعية، فما تحتفظ به الشعوب من ذكريات، قليلة كانت أم كثيرة، لكل عصر يعاد إنتاجها باستمرار، كما يقرر موريس هالبوكس في كتابه (الأطر الاجتماعية للذاكرة)، وتسهم في تخليد الشعور بالهوية الجمعية، ولذلك قيل بأن الفرد، كما الجماعات، تصبح عدماً بلا ذكريات، وتالياً تكون بلا هوية، فالذاكرة، كما يقال، قوة الهوية.

هل نقترب هنا من نقطة خطر حقيقية في الهوية المراد فرضها في السعودية على أنها وطنية؟ بلى بالتأكيد، فالهوية هنا يراد تشكيلها إما من ذكريات صادمة ومآسي وتاريخ تعسفي مصبوغ بالدم، أو ذكريات مجتزئة (إن كان ذلك ممكناً)، أو هوية ترتكز على وهم ذاكرة أو ذاكرة مستعارة. كل تلك الخيارات الهروبية تضمحل سريعاً وتفرض علينا مواجهة الحقيقة التالية: أن وظيفة الذاكرة بناء الهوية، وهذه الوظيفة لا تتحقق على أكمل وجه إلا من ذكريات أخذت مكانها في الميراث الإجتماعي والثقافة الشعبية الشفاهية والمكتوبة، فقد يحتل الوهم جزءً من الذاكرة الجمعية، ولكن لا يمكن له أن يبتلعها بصورة كاملة، وإلا بلغت مرحلة فقدان الذاكرة، أي مرحلة تكون فيها الهوية قد انفصلت عن مصدر غذائها.

وإذا كانت الذاكرة هي القابلة التي تولّد الهوية، فإن الفرد الحامل لها يكون على استعداد تام لدمج بعض جوانب الماضي في نفسه. فهل هذا واقع الحال في السعودية؟ وإذا كان التعليم الحكومي هو المصدر الرئيسي لبناء الذاكرة الجمعية، فإن ما يتلقاه الطلاّب في المدارس الحكومية يترك آثاراً متضاربة، تبعاً للذاكرات الفرعية التي يحتفظ بها كل طالب. وللمرء تخيّل كيف سيكون رد فعل طالب في الحجاز أو الجنوب أو الشرقية يقرأ عن ماضي القتل في قريته، وهدم البيوت، وتشريد النساء على يد أسلاف من يريد منه اليوم أن يبني ذاكرته كيما تولد هوية الدولة التي بنيت بعد قتل آبائه وأجداده، ومصادرة ممتلكاتهم، وسفك دماء شبابهم. فالذاكرة التي تنتمي الى الهوية، بحسب مصطلح جانين بونتي، هي بالدقّة العقدة غير قابلة للحل بالنسبة للدولة السعودية، ولأن هناك أزمة ذاكرة فلا بد أن تكون هناك أزمة هوية، وإلا كيف ستقنّع سكّان هذا البلد المتباينين إجتماعياً وسياسياً ومذهبياً بأن لهم ذاكرة جمعية واحدة وهي المسؤولة عن توليد الهوية المشتركة بالنسبة لهم. هذا الكلام يتداول قبل أن يدخل العنصر الجديد: السعوهابي كقوة تقسيمية أعادت تلك المكوّنات: المنطقة، القبيلة، المذهب، إلى زمن تشكّلها الأولي.

لاعلاقة للذاكرة بالوعي، كما يطمح المتورّطون في الماضي، فالذاكرة وإن كانت تبنى من خلال مستوى النشاط الذهني للمجتمعات، إلا أن الوعي بها يبقى مسؤولية الاجيال اللاحقة التي (تتذكّر)، ومن يراهن على العبث، أو لنختار مفردات ذات معان محايدة، تعديل الذاكرة سواء عن طريق إعادة شرحها وتفسير محتوياتها، فهي تبقى محاولات جارية على كل ما له علاقة بما (حدث)، أي كل ما قرّ في الذاكرة والوجدان والعقل، بكلمة أخرى يصبح كل مجال النشاط الذهني الانساني قابلاً للتعديل. ولكن ما لا نقدر على تعديله، أن الهوية تلحّ في إخبارنا بأن الذكريات وحدها المائدة التي تتغذى عليها، والمضادات الحيوية التي تعيشها وتحميها.

أزمة الهوية في السعودية نابعة من أزمة الذاكرة الجمعية. تعريف الذاكرة الجمعية بأنها مجموعة من الذكريات المشتركة بين جماعة من الجماعات. وما هو مشترك بين من يقعون ضمن مجال تأثيرها نادر للغاية، ففي الذكرى الواحدة هناك ضحايا وهناك جلادون، وخاسرون وفائزون، ومنتصرون ومهزومون..فكيف يمكن لذاكرة جمعية أن تبنى على قاعدة الإحساس بالفخر والمجد وكل ماف