هدم البقيع ونصيحتي للإخوة السلفيين

الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٩ - ٠٩:٠٨ بتوقيت غرينتش

تمرُّ بنا بعد يومين الذكرى المؤلمة لهدم القباب الطاهرة في بقيع الغرقد، في تاريخ لا يمكن نسيانه، في الثامن من شهر شوال سنة 1344هـ، حيث عمدت فئة نشأت بعد اثني عشر قرناً من هجرة النبي إلى هدم الأضرحة والقباب التي أقيمت على قبور أربعة من الأئمة الطاهرين وقبور زوجات وبنات النبي والكثير من صحابته الأخيار والتابعين الأبرار، وأضيع بذلك من معالم الإسلام وآثار النبي ومدينته المنورة الشيء الكثير...

هذه الأبنية والقباب التي شيدت بأيدي المسلمين المحبين لرسول الله وأهل بيته كتجل عملي للمحبة التي فرضها الله تعالى بنص الكتاب والسنة قال تعالى: ? قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ?، والمودة هي: المحبة التي لها بروز وظهور في العمل؛ بالتأسي بهم واحترامهم وتكريمهم، وزيارة قبورهم والبناء عليها، وإعدادها للزائرين، وإقامة الاحتفالات في مواليدهم ووفياتهم.

وما قامت به هذه الفئة التي تشكل أقلية في المسلمين ونشأت في القرن الثاني عشر الهجري استندت فيه إلى رؤية ضيقة ونظرة خاطئة، خالفت بها سيرة المسلمين من السنة والشيعة الذين تنتشر في بلادهم أضرحة الأولياء والصالحين، فها هي مراقد أئمة الشيعة منتشرة في البلاد، وقبر أبي حنيفة في الأعظمية والشافعي في مصر، وعبدالقادر الجيلاني وغيرهم في طول البلاد الإسلامية وعرضها.

وقد ناقشنا في العام الماضي أدلتهم التي استدلوا بها على حرمة البناء على القبور وذكرنا بعض الأدلة التي تدل على الجواز، فلا نعيد.

أما في هذا العام؛ فنود توجيه دعوة لإخواننا السلفيين إلى التسامح وتصحيح منهج الحوار مع إخوانهم المسلمين، تأسياً بالمنهج النبوي في دعوته وحواراته مع المشركين وأهل الكتاب فضلاً عن المسلمين، ونضع أمامهم بعض الملامح لا كلها للمنهج الصحيح للدعوة والحوار:

1/ اعتماد حسن الظن بالمسلمين في موضوع التوحيد والمعتقدات الدينية، وعدم المسارعة إلى تكفير المسلمين أو تشريكهم أو تبديعهم، وهذا منهج نستقيه من الآيات القرآنية والنصوص النبوية وأقوال العلماء:

ـ قال الله تعالى: ? يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ? نلاحظ هنا أن التحية الإسلامية تكفي علامة على الإسلام ويحفظ بها الدم والمال.
ـ وفي البخاري ومسلم أن النبي قال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله». وفي الحديث دلالة صريحة على الاكتفاء بظاهر الإسلام، وترتب الأحكام بمقتضاه، وأما الدخائل والنوايا فالحساب فيها على الله.

قال ابن حجر في فتح الباري: «ويؤخذ منه - أي من هذا الحديث المتقدم ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره بدون تفضيل بين كفر ظاهر أو باطن».

ـ وأيضاً بناء على قاعدة أن من قال قولاً أو رأى رأياً له لازم كفري، وهو غير ملتفت إليه، فإنه لا يكفَّر بناء على هذا اللازم؛ باعتبار أنه لا يتبناه ولا يقول به، مثال ذلك: من قال إن لله يداً أو رجلاً، وهو يقول في نفس الوقت بأن الله ليس كمثله شيء وأنه ليس بجسم، فإن لازم قوله التجسيم وهو كفر، لأنه يؤول إلى أن الله تعالى مخلوق، ولكن بما أن هذا هو لازم قوله، وليس قولاً صريحاً له، وهو غير ملتفت إلى لازمه، بل يقول بعكسه كما ذكرنا، فلا يحمل مسؤولية هذا اللازم.

2/ بمجرد الإيمان بأن فئة ما من المسلمين؛ يلزم حينئذٍ مراعاة كافة حقوق الأخوة الإسلامية المفترضة على المسلم تجاه أخيه المسلم، وحقوق المسلم على المسلم هي وثيقة طويلة عريضة واسعة، ولا يبرر نقضها والخروج من عهدتها وجود الاختلافات المذهبية، مادام الآخر الديني جزء من الأمة الإسلامية.
3/ إفساح المجال أمام الحوار الديني، واستثمار المشتركات وتوسعة دائرتها، وتضييق دائرة الخلافيات ومحاولة التفاهم حولها، وتلمس المعذرات لها.

4/ وهو أمر هام عدم تحويل الفروع الفقهية إلى أصول، لأن ما يترتب على الخلاف في الأصول غير ما يترتب على الاختلاف في الفروع الفقهية، ومنها زيارة القبور والبناء عليها، وأمثال ذلك، فهذه كلها مسائل فرعية يقع الخلاف حولها بين الفقهاء، ومالأصل التوحيد والإسلام والكفر وهذه المسائل!

5/ إفساح المجال أمام أتباع المذاهب الإسلامية لتطبيق التمذهب بمذاهبهم، وعدم الزجر عن ذلك بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالتسالم على تحديد المنكر بأن يكون وفاقياً أو اعتقاد الفاعل له بأنه منكر.

إنني أنصح إخواننا السلفيين سواء فيما يرجع إلى إعادة إعمار البقيع أو غيرها من الأمور؛ أن يتعاطوا وفق المنهج الإسلامي الصحيح في التعامل مع الاختلافات المذهبية، ومنهج النبي في الدعوة والحوار فإن في ذلك الخير وتعميق الأخوة الإسلامية، وأن يسهموا بالنظر إلى