إلى متى يبقى العرب فئران تجارب؟

الإثنين ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٩ - ٠٣:٠٣ بتوقيت غرينتش

تتخبط المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج (الفارسي) في بحر من المتغيرات والزلازل الاجتماعية المخيفة بحيث لا تستطيع أن ترسو على بر. لماذا؟ لأنها أولاً محكومة بأنظمة سياسية تابعة وغير مستقلة ولا مستقرة، وتنفذ سياسات وضعها الغير لها، وثانياً لأنها ليست أكثر من مختبرات تجارب إن لم نقل فئران تجارب. فهي مطلوب منها أن تغير نمط حياتها وثقافتها وحتى معتقداتها بين عقد وآخر كي تتماشى مع المتحكمين بها خارجياً.

قبل أقل من نصف قرن من الزمان - وهي فترة قصيرة جداً في عمر الشعوب - سنّت أميركا ومعها بعض القوى الغربية المتحكمة بمنطقتنا جغرافياً وديموغرافياً وثقافياً وإعلامياً ما يشبه الفرمانات والمراسيم الملزمة لبعض دولنا كي تتبع نظاماً إسلامياً متزمتاً ومناهج تعليمية متحجرة لأنها وجدت في مثل هذا النظام الوسيلة الأنجع للوقوف في وجه بعض النظم السياسية العربية الناشئة التي قد تهدد مصالحها في المنطقة كالنظم القومية والاشتراكية التي كانت تابعة بدورها للمعسكر السوفياتي. بعبارة أخرى فإن المجتمعات العربية ذات التوجه الإسلامي أو الاشتراكي أو القومي كانت بمجملها ضرورات أملتها العوامل الخارجية أكثر منها المتطلبات الداخلية. فهذا النظام أقام دولة "إسلامية" كي يرضي أسياده الأميركيين والأوروبيين، ويحارب إلى جانبهم، وذاك أنشأ نظاماً اشتراكياً نزولاً عند رغبة أسياده السوفيات بما ينطوي عليه ذلك من فرض وقهر وتوجهات قسرية مخالفة لطبيعة المجتمع وميوله الإنسانية.

وبعد أن تغيرت التحالفات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور أميركا كقطب أوحد، كان لا بد للمجتمعات العربية أن تتغير مائة وثمانين درجة كي تواكب سادتها الأميركيين الجدد الذين لم تعد تناسبهم النظم الاجتماعية التي أمروا بقيامها ودعموها في النصف الثاني من القرن العشرين. لهذا السبب تحديداً نرى أن المجتمعات العربية تتخبط هذه الأيام في بحر من الفوضى والاضطرابات والهزات الاجتماعية والسياسية الرهيبة من المحيط إلى الخليج (الفارسي).

لقد دأبت بعض الأنظمة العربية منذ أكثر من خمسين عاماً على بناء ما تزعم أنه مجتمعات إسلامية الطابع، وجندت لها ميزانيات هائلة كي تكرسها وتقويها وتثبت أسسها من خلال وسائل إعلام ونظم تعليمية "متأسلمة". وقد كان الهدف من كل ذلك في واقع الأمر ليس إقامة مجتمعات إسلامية بل من أجل صد التغول الشيوعي في المنطقة العربية الذي كان ينافس الهيمنة الأميركية.

وقد تطور هذا المجتمع الإسلامي المزعوم في ذروة الصراع السوفياتي الأميركي في أفغانستان كي يزود من يسمون بالمجاهدين الأفغان بمزيد من المقاتلين العرب العقائديين من أجل طرد "الغازي السوفياتي". وقد تبين فيما بعد أن الاستخبارات الأميركية ومعها بعض الأجهزة العربية كانت وراء هذه اللعبة القذرة التي راح ضحيتها الألوف من المضحوك عليهم من السذج العرب الذين يتعذبون الآن في غوانتانامو وغيرها من المعتقلات العربية "الغراء" بعد أن انتهت مهمتهم "الجهادية".

وقد كان الهدف الأول والرئيس من تلك الحملة "الإيمانية" الملعوبة جيداً طرد المحتل السوفياتي من أفغانستان كي يحل محله الأميركيون فيما بعد بطريقة منظمة وملعوبة كالشطرنج في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

لم يعد الإسلام الجهادي مطلوباً بعد أن تخلصت أميركا من عدوها التقليدي (الشيوعية)، وبالتالي لا بد من تفكيك المجتمعات التي عاشت على الأصولية الجهادية لعقود. ومطلوب الآن تفصيل إسلام "ليبرالي" جديد يناسب المجتمعات التي يريدها الغرب.

لا عجب إذن أن قام معهد "راند" الشهير للبحوث والدراسات ووضع السياسات بتعيين السيدة شيرلي بينار زوجة المبعوث الأميركي إلى أفغانستان خليل زلماي لتكوين إسلام جديد يتواءم مع المخططات الأميركية الجديدة في العالم العربي. وقد قدم المعهد فعلاً تصوراً جديداً لهذا الطراز "الحديث" من الإسلام الذي من المفترض أن ينقلب مائة وثمانين درجة على الإسلام الذي كان مطلوباً أيام الحرب الباردة. إنه "الإسلام الليبرالي" الذي يقبل بكل الأطروحات والمفاهيم والقيم الغربية، ويساعد على نشرها وترسيخها في المنطقة.

لا عجب أن رأينا بعض "الإسلاميين العرب الجدد" يقودون الحملة الجديدة لتطهير العالمين العربي والإسلامي من الفيروس الأصولي القديم، ويبشرون بـ"التسامح والمحبة والديموقراطية". لا بل إن أحد المتطوعين الإسلاميين اعتبر أن الجهاد الحقيقي ليس مقاتلة الأعداء والدفاع عن الأوطان، بل "جهاد التنمية" وهو مصطلح مزيف جديد ابتكروه كي يتماشى مع عملية التفكيك المجتمعية المطلوبة والمشاريع الإصلاحية المزعومة، وكي يبعد الشعوب عن المقاومة والتصدي للغزاة الجدد. ولعلنا رأينا كيف يوصمون كل من يحمل السلاح في وجه مغول العصر في العراق بأنه إرهابي.

من هو المخول والقادر إذن على القيام بهذه المهمة التفكيكية للمجتمعات العربية المطلوب إعادة تركيبها؟ إنه الإعلام، وليس أي إعلام، بل الإعلام الترفيهي التجهيلي الهابط المعتم