معركة جرود القاع: الجيش الثالث عربياً يقف على قدميه

معركة جرود القاع: الجيش الثالث عربياً يقف على قدميه
الإثنين ٠٧ أغسطس ٢٠١٧ - ٠٣:٥٧ بتوقيت غرينتش

يعيش لبنان تجربة قد تكون الأولى في تاريخه. إذ لم يسبق أن دعمت غالبية لبنانية واضحة قيام الجيش اللبناني بعملية عسكرية تستهدف حماية حدود البلاد وأمنها. وفي كل مرة، كان الجيش طرفاً في مواجهة عسكرية، كانت جماعة لبنانية تعتبره خصماً مباشراً أو غير مباشر لها. والحديث عن غالبية لا يتصل بثقة لبنانية شاملة وعمياء بالمؤسسة العسكرية، بقدر ما يتعلق بكون غالبية لبنانية كبيرة جداً مقتنعة بأن تنظيم «داعش» إنما يشكل عدواً حقيقياً للبلاد وأهلها.

العالم - لبنان

ولهذه المعركة أسرارها وحساباتها وتعقيداتها. وإلى أجل قد لا يكون بعيداً جداً، سوف تظل بعض المعطيات بشأن القرار مكتومة، لأسباب تتعلق بصورة المؤسسة العسكرية أولاً، وحساسية السلطة السياسية ثانياً، وطبيعة المعركة ثالثاً. لكن الثابت من المعطيات يمكن إيجازه بالآتي:

أولاً: إصرار خاص من الرئيس العماد ميشال عون على تولي الجيش مهماته الوطنية بأسرع وقت ممكن، وعدم إبقائه مقيد اليدين نتيجة الحسابات الخارجية المنعكسة على القوى الداخلية.

وترجم رئيس الجمهورية إصراره باختياره الضابط جوزيف عون قائداً للجيش، ورفض التسويات التي عرضت سابقاً عليه، وإبلاغه قائد الجيش الجديد أن مهمته واضحة في إعادة ترميم المؤسسة العسكرية، وعدم الاقتراب من السياسة مطلقاً، لا على صعيد قائد الجيش نفسه ولا على صعيد الهيئات الأركانية فيه. كما أن الرئيس أكّد لقائد الجيش ولحشد من الضباط المعروفين بتأييدهم للرئيس عون، أن المهمة الأساس هي في توفير حصانة داخل المؤسسة العسكرية تساعده على إبعاد التدخلات السياسية فيه سريعاً.

ثانياً: تفهم رئيس الجمهورية وتأييده المطلق وغير المشروط لدور المقاومة في مواجهة الإرهاب التكفيري، سواء في سوريا نفسها، أو على صعيد العمل الدفاعي والوقائي والاستباقي، وثقة الرئيس عون بقدرات المقاومة التي تعرّف إلى جانب كبير منها من خلال محادثاته الطويلة مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وكقائد سابق للجيش، ينظر عون ناحية الخصوصية التي تتمتع بها المقاومة.

وهو في هذا المجال، كان مشجعاً على خوض معركة جرود عرسال، وكان يرغب لو أن الجيش اللبناني يقوم بها، لكن واقعية الرئيس جعلته يعرف أن دور الجيش في هذه المعركة سيكون معقداً بسبب الحاجة الى التقدم من الجهة السورية صوب الجهة اللبنانية، ثم لكونه أدرك أن نجاح المقاومة في تنظيف جرود عرسال من إرهابيي جبهة النصرة سوف يساعد الجيش على تولي معركة بقية الجرود. وموقفه هذا كان على طاولة قيادة المقاومة منذ اليوم الأول، وهو الذي يسخر من مواقف قوى محلية تعترض على التنسيق مع الحكومة السورية وجيشها.

ثالثاً: خضوع الولايات المتحدة، ومن خلفها حلفاؤها في المنطقة، ثم في لبنان، للقرار المحسوم بتولي الجيش المهمة، وهو ما ترجمه موقف الرئيس سعد الحريري من جهة، ثم ما تبعه من تواصل تولته قيادة القوات الأميركية العاملة في منطقة الشرق الأوسط، والتي أدركت أن الأمر حاصل حكماً، فسارعت الى التشاور والتنسيق بهدف فرض قواعد معينة على خلفية سعيها الى عدم حصول اندماج عملياتي بين المقاومة والجيش، ورغبة منها في عدم توسيع باب التنسيق مع الجيش السوري.

لكن الخشية الأميركية تكمن أنه في ظل تسارع التطورات العسكرية والسياسية في المنطقة، قد تجد نفسها خارج التأثير على الجيش اللبناني إن هي تجاهلت المعطيات الجديدة. لذلك، فإن ردود الفعل الأميركية السياسية والعسكرية على دور الجيش في معركة تحرير جرود عرسال من «النصرة» أتت عكس التوجه الأميركي، وخصوصاً أن قيادة المنطقة الوسطى كانت تتابع بدقة تفاصيل معركة حزب الله في الجرود، وهي على اطلاع على شكل التنسيق ونوعه بين المقاومة والجيش، من إخلاء الجيش نقاطاً عسكرية احتاجت إليها المقاومة في عملية الاقتحام، إلى عمليات الإسناد الناري التي قام بها الجيش في أكثر من محطة خلال أيام المواجهات الثلاثة، حتى وصل الأمر بمسؤولين أميركيين الى سؤال الجيش عن سبب إطلاقه كمية كبيرة من القذائف خلال دعم معركة المقاومة (نحو 300 قذيفة مدفعية).

وفيما حاول الجانب السياسي الأميركي تقديم ملاحظات ذات طابع احتجاجي، كان الجانب العسكري الأميركي يسأل قيادة الجيش عن حجم مخزونها من الصواريخ والقذائف بغية تغذيته متى تطلب الأمر، في خطوة كانت تشير بوضوح الى إقرار الأميركيين بالوقائع الميدانية.

رابعاً: حاجة الجيش اللبناني الملحة الى القيام بعمل يستعيد فيه أصل مهمته، واستثمار الأمر في تطوير بنى المؤسسة، وإعادتها الى سكة العمل المهني بعد طول انقطاع، ورفع المعنويات والثقة بالمؤسسة من العاملين فيها قبل الجمهور، والسعي الى تعزيز الخبرات لمجاراة التطورات الهائلة على العقائد العسكرية لكامل جيوش المنطقة. وأكثر من ذلك، فإن قيادة الجيش تنظر باهتمام الى عدم انهيار الجيش السوري، وإلى استعادة الجيش العراقي زمام المبادرة، ذلك أن في هذه الخطوات ما يحدّ من موجة انهيار الجيوش.

لكن قيادة الجيش هنا، تعرف أن الجيش السوري كما الجيش العراقي، احتاجا الى عناصر دعم لنجاح عملياتهما في مواجهة الإرهابيين، والأساس هنا هو عنصر الدعم المحلي الذي تمثل بالحشد الشعبي عراقياً، وبحزب الله وقوات الدفاع الوطني سورياً، ما يقود الجيش الى عدم الخوف من تعميم النموذج في لبنان مع قوة مثل حزب الله وهي التي تملك خبرات تتجاوز الآخرين على جميع المستويات. وحاجة الجيش الى انتصار حاسم وواضح وأكيد تتطلب تصرفاً علمياً وعقلانياً في توفير موجبات النصر. ولذلك، فإن الجيش يفتح باب التنسيق بما يخدم هدفه. وسوف يقوم بكل ما يلزم لتأمين النجاح، عير آبه بكل الملاحظات الكيدية.

خامساً: للمرة الأولى، تختفي خشية جهة مثل حزب الله من الجيش كقوة عسكرية يجب حمايتها وتعزيز قوتها من دون الخوف من انقلابها على المقاومة أو على الثوابت الوطنية. هذا لا يعني أن المقاومة لم تكن تثق بالجيش في فترات سابقة، لكن الدور السوري في السابق كان عاملاً مسانداً وبقوة، أما اليوم، فإن ثبات موقف الجيش ومن خلفه قوى وازنة في البلاد، وسط الصراعات الإقليمية والدولية على قرار الجيش، يجعل حزب الله أكثر اطمئناناً.

حتى إن الحزب يعرف أكثر من أي أحد آخر طبيعة العلاقة التي تربطه بالجيش على الأرض في أكثر من منطقة من لبنان، وخصوصاً في منطقة الحدود الشرقية للبنان. إضافة الى ملف ستظل أسراره مكتومة أيضاً، يتصل بالحرب القاسية التي تخوضها المقاومة واستخبارات الجيش اللبناني ضد الجماعات الإرهابية وعملاء "إسرائيل" في لبنان، وحيث يبلغ مستوى التنسيق حدوداً غير مسبوقة.

ولذلك، فإن حزب الله الذي يعرف حجمه وقدراته وقوته ونفوذه، يجد من المصلحة الواضحة له تولي الجيش المهمات التي تتيح له دوراً وطنياً يقوم على عقيدة تتطابق مع عقيدة الحزب في مجال الصراع مع إسرائيل ومع المجموعات الإرهابية. والحزب الذي يعرف حجم الضغوط على الجيش، ولا يريد أن يحرجه في أي حال، لن يكون خارج المعركة. ليس لرغبته في تسجيل نقاط جديدة في رصيده الفائض أصلاً، بل لكونه يعرف مسؤوليته في دعم الجيش لمنع جره الى حرب استنزاف طويلة، ولمنع المجموعات الإرهابية من تحقيق أي نجاح على هذا الصعيد.

وستكون معطيات أجهزة الاستخبارات في المقاومة وقواها العاملة على الأرض في خدمة الجيش، غير آبه هو الآخر بالملاحظات الكيدية.

إن ما يجري الإعداد له سوف يمثل نقطة تحول هائلة على مستوى القرار الاستراتيجي في لبنان، وهو ما سينعكس على كل الأمور الأخرى في البلاد، وعلى صعيد علاقته بالإقليم والعالم... لننتظر ونرَ!.

ابراهيم الامين / الاخبار

109-2