نارام سرجون : من اتفاق اضنة الى اتفاق ادلب ..

نارام سرجون : من اتفاق اضنة الى اتفاق ادلب ..
الإثنين ١٨ ديسمبر ٢٠١٧ - ٠٤:٣٣ بتوقيت غرينتش

تشبه السياسة أحيانا في تداولها للهزائم والانتصارات شعار الفلسفة الطاوية الصيني الشهير (الين يانغ) .. وهو تكامل الابيض والأسود المتناقضين ليشكلا دائرة كاملة هي الحياة .. فالحياة نقيض الموت .. والشتاء نقيض الصيف .. والماء نقيض النار .. والليل نقيض النهار .. والخيانة نقيض الاخلاص .. والجبن نقيض الشجاعة .. ولكي تموت لابد ان تحيا ..

العالم - مقالات
وماحدث بين سورية وتركيا هو تطبيق مثالي للين يانغ .. ونقاط التلاقي والتماس بين اللونين الأبيض والأسود هم الأكراد .. فعندما كانت تركيا متوترة بسبب قضية عبدالله أوجلان اللاجئ في سورية جلس الطرفان السوري والتركي على شفير الحرب وجرى تبادل آراء حول الهواجس الأمنية وطلبت تركيا ابعاد أوجلان الى خارجها لانهاء المعارضة الكردية المسلحة مقابل انهاء التوتر على الحدود .. وكان الأتراك مسبقا قد عقدوا اتفاقا استخباراتيا مع الأميريكيين والموساد لاصطياد أوجلان خارج سورية حيث ضغطت اميريكا على كل دول اوروبة لمنع اوجلان من حق اللجوء وذلك لارغامه الى الذهاب في ممر اجباري الى كينيا حيث معقل الموساد الكبير في افريقيا لأن تنفيذ العملية في اوروبة سيكون محرجا للحكومات الاوروبية .. وتم في كينيا استضافة المخابرات التركية وتسليمها الطريدة أو “الصيدة” حسب مصطلحات قاموس بن جاسم السياسية .. القاموس الغني بمصطلحات الرعاة وخاصة مصطلح “نحن نعاج” الشهير ..

الاكراد كانوا يومها هاجس تركيا .. وكانت مستعدة لفعل أي شيء للسيطرة على نشاطهم .. وحصلت على الثمن بأنها أقرت للسوريين باحترام اتفاقية تقاسم مياه الفرات وتفكيك الالغام على الحدود مقابل أن تمنع سورية دعم النشاط الكردي وتفكك معسكرات التدريب التي قيل انها كانت في سهل البقاع اللبناني .. اضافة الى اغلاق مكاتب نشاطات كردية مقنعة باسماء جمعيات انسانية وخيرية او تجارية تابعة لحزب العمال الكردستاني .. والقصة بعد ذلك صارت معروفة .. ومنذ تلك اللحظة بدأت دائرة الين يانغ في تبادل الأدوار فقد انضمت تركيا لى مخطط تدمير الدولة السورية حيث تولت تركيا لاحقا فكرة دعم المعارضة السورية المسلحة الارهابية وأطلقت عليها اسم مقاتلي الحرية لاسقاط الدولة السورية والتي كان من أهم اهدافها اعادة السلطنة الى الشرق والسطو على كل سورية باسم الاسلام .. وهذا السطو سيعني أيضا احكام السيطرة على كل احتمالات قيام سورية يوما ما بمحاولة تكرار الدعم للأكراد الاتراك .. خاصة ان مشروع التقسيم او الاستيلاء على شمال سورية سيعطي تركيا فرص التحكم في السكان وتغيير الديموغرافيا .. وحتى لو لم تتمكن تركيا من ضم الشمال السوري فان الدويلة الوليدة شمال (دولة حلب) ستكون مثل منطقة عازلة تتحكم بالاكراد وتحرم اي نظام قادم في سورية من الاحتكاك او التماس مع الاكراد واستخدامهم ضد تركيا كما حدث في التسعينات عندما دعمت سورية عبدالله اوجلان للضغط على تركيا التي أقامت مشاريع سدود وكان في نيتها تطبيق مبدأ تورغوت اوزال في تبادل المياه والنفط مع الجنوب العربي .. حيث تبيع تركيا مياه الفرات ودجلة لسورية والعراق ودول الخليج مقابل النفط العربي ..

واليوم دارت دائرة الين يانغ من جديد وانقلب كل شيء تماما .. فقد جلس الأتراك مع الروس والايرانيين والسوريين في أستانة التي في معظمها مفاوضات عسكرية وليس فيها كثير من السياسة .. فبعد ان كانت تركيا تحرك الارهابيين في الشمال وتملي شروطها فانها اليوم تعرض مقايضتهم في ادلب في بروتوكول شبيه ببروتوكول أضنة .. فلايزال هناك غموض كبير حول مدينة ادلب السورية وكأن الحرب توقفت هناك .. ولكن من غير المعقول أن يتم ترك المدينة لفترة طويلة دون اعادة سلطة الدولة السورية اليها .. وليس هناك مايمنع ذلك عسكريا لأن أكبر معركة في الحرب كانت في حلب ومنطقة غرب الفرات .. والروس لايمكن أن يعلنوا انهاء او تخفيف وجودهم دون ضمانة بالحصول على اتفاق نهائي مع الأتراك بشان ادلب .. لأن تركها سيعني نصرا منقوصا وتأسيسا لفصل ادلب أو اقامة كيان غير شرعي سيبقى يلعب دور الدمل المتقيح في سورية ينفجر كلما قررت تركيا أو الغرب مشاغلتنا أو ابتزازنا وكأنه اقليم كشمير .. ولذلك هناك انطباع أقرب الى اليقين أن ادلب قد عادت الى الدولة باتفاق تم في أستانة .. أما كيف سيتم تنفيذ الاتفاق ومتى فان ذلك ليس واضحا ولكنه لايبدو بعيدا على الاطلاق ..

وفي حديث هادئ استمعت اليه بين أحد الفضوليين وأحد المطلعين على تفاصيل المفاوضات كان الفضولي يدور بأسئلته حول خزانة الاسرار الجالسة أمامه .. يحاول أن يتسلق أسوارها وأن يتلصص على مافيها .. وبعد عدة مناورات فاشلة .. اكتفى الضيف المطلع بالقول للفضولي: (تذكر اتفاق أضنة واقلب الصورة) .. فهل نجح الروس بذكاء نادر في وضع السوريين في مقعد الأتراك في اتفاق أضنة ووضعوا الأتراك في مقعد السوريين؟؟ .. انه اتفاق أضنة المعكوس .. والمعارضة يتم التفاوض على مصيرها وفق مقايضة واضحة ..

وهذا يعني أن السوريين في أستانة كانوا يطلبون رأس التنظيمات المسلحة الارهابية في ادلب بينما كان الأتراك يطلبون رأس الأكراد ليكون في السلة التركية دوما .. فالسيناريو الذي يتم تداوله كمشروع مفاوضات هو ان الأتراك سيسلمون كل المعلومات الحساسة العسكرية والاستخباراتية الخاصة بتجمعات المسلحين الذين ستتخلى عنهم تركيا وليست في وارد استيعابهم والذين وضع المئات منهم في قوائم على انهم عناصر غير مرغوب بها وسيتم القضاء عليهم في معركة مع الجيش السوري لأن المسلحين صاروا أمامه في حقل اعدام مكشوف بعد المعلومات والخرائط التي سيتم تبادلها .. أما بعض فصائل المسلحين فستجليهم تركيا الى داخل حدودها وتحل تنظماتهم وتحيلهم الى قوى معارضة في المنفى تموت بهدوء في تركيا بعد احالتهم على المعاش .. والجزء الثالث من المسلحين سيتم ارغاهم على تسليم السلاح والقبول بالانضواء تحت مصالحة من المصالحات الكبرى والانضمام بشكل ما الى مظلة الدولة السورية .. وأثناء ذلك تضمن سورية وروسيا اجراءات عملية (متفق عليها) في الشمال السوري قدمتها تركيا لجعل الكيان الكردي مستقبلا مستحيلا .. أما كيف سيتم حل الاشكال الكردي الذي يقلق تركيا فلايبدو واضحا في التفاصيل .. ولكن ربما سيكون ذلك أن يبدأ بطلب روسيا وسورية في الامم المتحدة بخروج القوات الاميريكية حتى آخر جندي من شرق الفرات خلال فترة محددة والتي سيطلق عليها منذ اليوم الاحتلال الاميريكي للشرق السوري .. وعدم الاذعان لذلك سيعني اعلان المنطقة خاضعة للاحتلال .. واطلاق عمليات عسكرية تستهدف القوات الاميركية وربما سيكون للمخابرات التركية دور في ذلك من خلال مسلحين اسلاميين ينسحبون من ادلب .. وهو ماسيؤدي حتما الى انسحاب الاميريكيين ..لأن أي خسائر كبيرة اميريكية ستعيد الى الاذهان كابوس العراق الى معسكر ترامب .. ويدرك الاتراك ان الاميركييين قد يعاندون في البداية ولكن حالة عدم الاستقرار في المنطقة الشرقية ستعني استحالة قيام كيان كردي الا اذا عاد 200 ألف عسكري اميركي الى المنطقة كما حدث عام 2003 .. وهذا مستحيل ..

أنا أتحدى المعارضة أن تفاتح الاتراك بنصوص مفاوضات اتفاقية ادلب (أو اتفاقية اضنة المعكوسة) التي تجري الآن وتقترب من وضع اللمسات الأخيرة .. بل المستغرب ان المعارضة مشغولة بقضم أخبار من الهواء والهراء .. تطمئن نفسها بها من مثل أن بوتين قد اتفق مع الامريكان والاتراك على تسليم البلاد الى مرحلة انتقالية يقودها فاروق الشرع .. ولاتسأل المعارضة نفسها لم تأخر بوتين بهذا العرض .. ولم تركه لما بعد حلب وبعد تحطيم المعارضة بأنواعها وخاصة "داعش" والنصرة ؟؟ ألم يكن من الاجدر ان تتم الصفقة دون حرب ؟؟ أما اليوم فما الحاجة لهذه الصفقة؟؟.

ادلب سيرفرف فيها العلم السوري قريبا .. وفي يد بوتين سلة فيها أوراق كثيرة سلمتها له تركيا وقد قدمها بنفسه للجانب السوري كراع وضامن للاتفاق .. وكما كان الأكراد في قلب اتفاق أضنة القديم فانهم اليوم في قلب اتفاق ادلب أو بروتوكول ادلب ..

مع احتقاري الكامل الذي ليس فيه نقصان ولايخضع لقانون الين يانغ للمعارضين .. فان نصيحتي الخالصة لمعارضة الين يانغ التي تتشقلب بين الين واليانغ .. وتنطحن بين أسنان روسيا وتركيا وسورية وايران والسعودية .. تذكروا نه في الأوطان العزيزة لاتوجد فلسفة الين يانغ .. بل فيها ين يانغ واحد هو: كي نحيا يجب أن ننتصر .. وكي نموت يجب أن نهزم .. ونحن نحيا لأننا ننتصر ..

نارام سرجون / شام تايمز 

109-1