من "تفتناز" إلى "أبو الظهور": عندما يُسقط السوريون طائرة الطموحات الأردوغانية

من
الأحد ١٤ يناير ٢٠١٨ - ٠٦:٠٨ بتوقيت غرينتش

غالباً ما يكرِّر رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في أحاديثهِ عبارةَ «الميثاق الوطني التركي»، هو يستعيد نصاً سياسياً تم وضعه أواخر أيام دولة الإجرام العثمانية يعطي طغمتها الحاكمة حق المشاركة في تقريرِ المصير لمناطقَ حدودية لا تقع ضمن سيطرتها الجغرافية ولا تمتلك عليها أي سيادة، أي أنه يريد بنص قانوني داخلي محلي التدخل في شؤون جيرانه بذرائعَ واهيةٍ

العالم - مقالات وتحليلات

أهم هذه الذرائع أن بعض هذه المناطق الحدودية التي تشمل حتى اليونان وبلغاريا، يسكنها منتمون للقومية التركية، وهذه المغالطة المتنافية مع أبسط قواعد القانون الدولي واحترام سيادة الدول لا يشبههُ إلا القوانين التي يسنها الكيان الصهيوني تارةً تحت مسمى «منع التنازل عن الجولان» وتارةً «منع التفاوض على القدس».

أي أنهم يريدون بقوانينهم المحلية ضرب القوانين الدولية، هذه المغالطة لا تؤكد لنا فقط بأن كلا الطرفين الإسرائيلي والتركي يفكران بالعقلية الاستعدائية والمجرمة ذاتها، لكنه كذلك الأمر يعطينا إثباتاً بأن المعركة مع كليهما واحدة، لأن ما يريده التركي من إدلب السورية، لا يختلف عما أراده الإسرائيلي من الجولان السوري، فكيف ذلك؟

في منتصف تشرين الأول الماضي دخلت قواتٌ تركية مناطق الشمال السوري في ريف حلب الغربي المحاذي لريف إدلب وصولاً لمنطقة «دارة عزة»، كان التبرير التركي يومها بأن هذا الدخول نتيجة لشمول المنطقة اتفاق مناطق وقف التصعيد، لكن التركي الذي جوبهَ يومها برفضٍ رسمي سوري لهذا الدخول واعتبار القوات التركية «معادية»، كان يعي أن الهدف لا يرتبط فقط بعزلِ مدينة عفرين بالكامل لكنه كذلك الأمر يمكِّنه من السيطرة على أخطر تجمع للإرهابيين في العالم وما تعنيهِ هذه العبارة من ارتفاع أسهم التركي في بورصة الكعكة السورية كما يراها النظام التركي.

هذا الأمر دفع بالأتراك مباشرةً للطلب من إرهابيي جبهة النصرة تسليمه مطار «أبو الظهور» ليكون قاعدة نقل وإمداد وهجوم، وبمعنى آخر ليكون مسمار جحا الذي سيبني عليهِ مستقبلاً ما يريده من إدلب، تحديداً أن مطار تفتناز الأقرب للحدود التركية لا يبدو أنه يفي بالغرض لسببين أساسيين الأول أنه مخصص للمروحيات، والثاني أن الجغرافيا التي تحتضن مطار «أبو الظهور تجعل من المساحة التي تتحكم بها تركيا تصل حتى ريفي حمص وحماة» في عمق الأراضي السورية، لكن السعي التركي يومها قابله قرار سوري بأن هذا الأمر لا يمكن أن يتم، حتى ما حُكي عن ضغوطٍ روسية على الأتراك للتخلي عن الفكرة لم تنجح لأن أردوغان كان يرى بالخطوة تطبيقاً لفرضية المناطق العازلة التي لطالما حلم بها، بل إن أردوغان كان واثقاً من نجاح مساعيه انطلاقاً من ثابتة أساسية وهي حرص الجانبين الروسي والإيراني على العلاقةِ معه، كما أن السعي الروسي لتعويم محادثات سوتشي كفيصلٍ في الحل السياسي سيجعلهم بالمطلق يغضّون الطرَف عن فكرة الصدام مع الأتراك حالياً، لكن يبدو أن حسابات حقل أردوغان لم تطابق البيدر السوري، وبمعنى آخر فإن قرار القيادة السورية المتعلق بالعملية العسكرية في إدلب اتخذ من اللحظة التي ظهرت فيها نيّات أردوغان بالسيطرة على مطار «أبو الظهور» الذي تلا دخول عصابات الجيش التركي لمناطق الريف الإدلبي فما الذي يثبت ذلك؟

منذ انطلاق العملية العسكرية في الريف الإدلبي هناك من حاول ربط العملية بثلاثة احتمالات:

الأول وهو ما حاولت الأذرع الإعلامية التركية بما فيها تنسيقيات الإرهابيين تعويمهُ بأن السرعة التي تمكن فيها ما يسمونه «جيش النظام» من استعادة كل هذه المناطق والقرى خلال أيام، ما هي إلا تطبيق لاتفاقات أستانا أو ما يسمونه اتفاق «سكة الحديد»، وبمعنى آخر فإن الفصائل الإرهابية ستنسحب إلى غربي الخط الحديدي الواصل بين دمشق وحلب، لكن هذا التبرير لسقوطهم السريع كذَّبته الوقائع وبمعنى آخر، إذا كان هناك من اتفاق فلماذا كانت تنسيقياتهم ليل نهار تنشر أخبار قتلاهم من إرهابيين معظمهم يحملون جنسيات ليست سورية؟ وفي الجهة المقابلة إذا كان هناك من اتفاق فلماذا خسر الجيش العربي السوري وحلفاؤه شهداء، علماً أن الجيش العربي السوري لم يتجاوز بعد الحد الذي يتحدثون عنه؟

الاحتمال الثاني وهو الكلام الذي حاولَ الإعلام الخليجي المعادي لتركيا تعويمهُ بأن أردوغان باع مرتزقته في إدلب للحصول على جائزة ترضية وهي عفرين، طبعاً هذا الكلام يبدو في سياق تصفية الحسابات الإعلامية بين المجرمين ذات أنفسهم دولاً كانوا أم تنظيمات، كما أن هدفه أن يُظهر القيادة السورية وكأنها تفتح بازاراً للمتاجرة بمصير مدنها وقراها مقابل الاستمرار في الحكم، وإلا لما استنفر أردوغان ونظامه للطلب من الروس بوقف العملية وصولاً إلى مد التنظيمات الإرهابية ومن بينها جبهة النصرة، المصنفة إرهابية وفق مجلس الأمن، بالسلاح والعتاد وأهمه العربات المضادة للدروع.

الاحتمال الثالث وهو مرتبط بالاعتداء على قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين بطائراتٍ من دون طيار، بمعنى قد يكون الروس قد امتلكوا معلومات مسبقة عن اعتداءٍ ما قادم وتحديد الحيز الجغرافي الذي قد تنطلق منه دون تحديد المنطقة بالضبط، على هذا الأساس شارك الطيران الروسي بغارات استباقية على مواقع الإرهابيين، لكن هذا الاحتمال قد يكون لازماً لكنه بالنهاية غير كاف لربط عملية بهذا الحجم بمجرد معلومات، تحديداً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سارع لتبرئة الأتراك من العملية وهو كلام يبدو منطقياً إذ إن ما جرى لم يكن في مصلحتهم، أي أنه ببساطة اختار الحكمة التي تقول «درء المفاسد أَولى من جلب المقاصد»، وعليه جرى التعاطي مع الأمر بهذه الحكمة، لكن هذا الاعتداء لا علاقةَ له من قريب ولا من بعيد بسير العملية العسكرية في إدلب، بل يمكننا القول إن هذا العدوان ثبَّت وجهةَ النظر السورية من الخطورة التي يشكلها احتلال المدينة وتهجير معظم سكانها من الإرهابيين، مضافاً للتواطؤ والتخاذل الرسمي التركي معهم، لكن ما الأهداف الحقيقية لهذه العملية؟

منطقياً يبدو الهدف من أي عملية عسكرية مزدوج، وبمعنى آخر أي نجاح عسكري باستعادة وتحرير أي منطقة سورية هو بالنهاية ورقة قوة تضاف في المجال السياسي، لكن في الحال الذي وصلت إليه مدينة إدلب فإن الأهداف تبدو متعددة الجوانب وعابرة للحدود، الأمر لا يبدو فقط مرتبطاً بتفكيك وتشتيت المنطقة الأخطر في العالم من حيث مكان الإرهابيين، لكنها في الوقت ذاته مرتبطة بما بُني على هذه المنطقة من طموحات يدركها أردوغان ذات نفسه، وبحدٍّ أقل تدركها الولايات المتحدة التي حذرها بعض مراكز الأبحاث فيها من خطورةِ استعادةِ «النظام» لإدلب، أي أن الهدف من هذه العملية على الأرض يبدو واضحاً أي الوصول فعلياً للجهة الشمالية للطريق الدولي الذي يربط دمشق بالشمال السوري، وحلب بالساحل عند «أريحا»، ليصبح الطريق إلى «جسر الشغور» معبداً في المرحلة القادمة، وهذا النجاح إن تم فهو لا يعني فقط حصر الإرهابيين في مناطق ضيقة ودفعهم إما للاستسلام وإما الهروب، فالأهم هو استعادة ربط أطراف الوطن عبر الطرق الأساسية التي تساهم بإعادة شريان الحياة الاقتصادية من جديد والأهم من هذا كله يصبح «العثمانيون الجدد» خارج اللعبة نهائياً، فماذا ينتظرنا؟

في قراءةٍ بسيطة للاهتمام الذي توليه القيادة الروسية لمؤتمر الحوار في سوتشي نعرف أن الروس يعولون فعلياً على نجاحه، لكنهم في الوقت ذاته لن يسمحوا لأن يكون هذا المؤتمر ورقةَ ضغطٍ عليهم، تحديداً أن الروس يرون في العملية العسكرية في إدلب التزاماً باتفاقيات وقف التصعيد لكون جبهة النصرةومن يقاتل معها ليسوا مشمولين بهذا الاتفاق، لكن مسار العملية والموقف التركي منها في الأيام القليلة القادمة هي من ستحدد مصير الحل السياسي وبمعنى آخر:
العملية ستكتمل حتى تحقيق الأهداف، فإما أن يخرج أحفاد الإجرام العثماني كما خرج أجدادهم يوماً صاغرين، وإما أن يختاروا المواجهة، عندها ربما سنتأكد مما كنا نكرره دائماً: وحده الميدان من سينجز الحل السياسي وليذهب المتآمرون إلى الجحيم.

فراس عزيز ديب -الوطن

2-4