صورة مصغّرة لما جرى في حلب.. غزوة جديدة على اقتصاد عفرين: "العثمانيون مرّوا من هنا"

صورة مصغّرة لما جرى في حلب.. غزوة جديدة على اقتصاد عفرين:
الإثنين ٢٦ مارس ٢٠١٨ - ٠٥:٥٢ بتوقيت غرينتش

في شهر رمضان عام 2012 غزا مئات المسلحين مدينة حلب من بوابتها الشمالية بدعم تركي، فاقتحموا مدينتها الصناعية في الشيخ نجار، والمنطقة الصناعية قرب مساكن هنانو ومنطقة الليرمون الصناعية، والشقيف والهلّك وبستان الباشا وريف حلب الغربي وسط عمليات تدمير وسرقة ونهب ممنهجة، ما نتج عنه انهيار كبير في المنظومة الاقتصادية لمحافظة حلب، التي تمثّل عاصمة سورية الاقتصادية، سجّلت حينها عمليات سرقة طالت أكثر من ألف معمل تم نقلها إلى تركيا، بينها معامل كانت تعتبر الأكبر في الشرق الأوسط.

العالم - مقالات وتحليلات

«غزوة حلب»، دفعت ما تبقى من صناعات صغيرة ومتوسطة إلى النزوح تدريجياً، بحثاً عن موطئ قدم آمنة تمكنها من الاستمرار، فاختار كثيرون الساحل السوري، واختار آخرون مناطق قريبة كانت آمنة حينها، الأمر الذي وفّر لعفرين التي كانت خاضعة لسيطرة الكرد مناخاً ملائماً جذب أكثر من 3000 ورشة ومعمل.

عمل الكرد بشكل مكثف طيلة السنوات الخمس الماضية على تقديم التسهيلات للصناعات والورشات الوافدة. وفرة في اليد العاملة مع وصول عدد سكانها إلى نحو مليون نسمة (قبل الحرب كان العدد التقريبي نحو 350 ألف نسمة)، ووجود خطوط تصريف مثالية للبضائع، سواء إلى مدينة حلب والمدن السورية الأخرى وصولاً إلى لبنان، أو عن طريق المناطق التي يسيطر عليها الكرد في سوريا وصولاً إلى العراق، حتى أن بعض البضائع وصلت إلى لبنان، بدا المشهد الاقتصادي للمدينة مريحاً ويمكن أن يبنى عليه أملاً بنهوض قد يكون كبيراً.

تنوعت الصناعات الوافدة والنامية على بعد 60 كيلو متر عن مدينة حلب، قرب الحدود مع تركيا، وأصبحت تمثّل صورة مصغّرة لما كانت عليه مدينة حلب قبل «الغزوة التركية»، الأمر الذي دُمّر بين يوم وليلة.

اقتصاد الجغرافيا

تمتد عفرين على مساحة تبلغ نحو أربعة آلاف كيلومتر مربع، ما يعادل نحو 2% من مساحة سوريا، وتتميز بمناخ معتدل ومرتفعات عديدة. تعتبر عفرين من أشهر المناطق السورية في زراعة الزيتون حيث يبلغ عدد أشجار الزيتون فيها نحو 13 مليون شجرة، ما يعادل خمس عدد أشجار الزيتون في سوريا.

تمثّل الزراعة عصب الحياة في عفرين وقراها البالغ عددها 366 قرية، فإضافة إلى الزيتون تشتهر المنطقة بزراعات عديدة كالدراق والسفرجل والرمّان، وساهمت وفرة المياه في المنطقة بنمو الزراعة بشكل كبير، حيث يغذي عفرين نهر يبلغ طوله نحو 150 كيلو متر، إضافة إلى عشرات الجداول.

خلال الحرب، شكّلت منطقة عفرين معبراً هاماً للمحروقات المهربة، أو المصدّرة، من مناطق سيطرة الكرد شرق سوريا إلى إدلب، كما تحولت إلى منطقة وسيطة في التعاملات التجارية بين المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين والمناطق الحكومية في سوريا، الأمر الذي ضاعف من نموها الاقتصادي بشكل كبير. ويمكن ملاحظة أثر عفرين من خلال الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات الذي شهدته إدلب خلال الهجوم التركي على عفرين، حيث تضاعفت أسعار المحروقات 5 أضعاف قبل أن تعود إلى طبيعتها مع سيطرة تركيا على المدينة وإعادة فتح خطوط تهريب المحروقات من المناطق التي يسيطر عليها الكرد شرق سورية.

تدمير التاريخ

توجد في عفرين عدة مناطق أثرية، أبرزها النبي هوري (قورش)، وقلعة سمعان التي تضم كنيسة مار سمعان وهي واحدة من أكبر كنائس العالم، ومدينة عين دارا الأثرية التي تحتوي على معبد يضم تماثيل متنوعة، وتم تسجيل ثلاث مناطق في عفرين ضمن لائحة التراث العالمي في «اليونيسكو».

الهجوم التركي على منطقة عفرين تضمنته عمليات تدمير متتالية لعدة مواقع أثرية، في سيناريو يشابه أيضاً ما تعرضت له مدينة حلب، التي دمرت الحرب الكثير من معالمها التاريخية، وتسببت بتصدّع قاعدة قلعة حلب واحتراق وتدمير أطول سوق مسقوف في العالم (سوق المدينة).

مدير الجانب السوري في البعثة الفرنسية إلى شمالي سوريا، والمدير العام السابق للآثار والمتاحف الدكتور مأمون عبد الكريم أوضح خلال حديثه إلى “الأيام” أن «المواقع الأثرية تضررت وتدمرت بشكل كبير، موضحاً أن منطقة براد تتعرض لتدمير ممنهج في الوقت الحالي، وتابع « قام العثمانيون بتدمير قسم كبير من معبد عين دارا التاريخي».

يؤكد عبد الكريم أن ما يجري في عفرين مشابه لما تعرضت له مدينة حلب «هو سلوك عثماني، يقول المؤرخون الأوربيون: إذا وجدت خراباً فهذا يعني أن العثمانيين مرّوا من هنا، قد تشرح هذه الجملة كل ما يجري، براد التي تمثّل واحدة من أجمل المعالم المسيحية في العالم، وعين دارا التي يعود تاريخها لأكثر من 3 آلاف عام تدمّر وتمحى بكل حقد».

خلال فترة سيطرة الكرد، وبعيداً عن المشاريع السياسية واختلافاتها ظلّ التواصل قائماً بين الكرد والآثار والمتاحف، وحظيت المناطق الأثرية بعناية وحماية، وفق الدكتور عبد الكريم، الذي يختم بحزن «هذه المناطق التي كنت شريكاً في ترسميها ووضعها على لائحة التراث العالمي تدمّر أمامنا، حتى لو استعدناها لاحقاً وقمنا بعمليات ترميم لن تعود كما كانت، فقدت الكثير من أصالتها».

ليلة السقوط و»التعفيش»

القصف التركي المتواصل على عفرين خلال عملية احتلالها التي استمرت قرابة شهرين، دفعت بقسم كبير من أهالي المدينة إلى الهرب والنزوح، فانخفض عدد سكانها إلى نحو 100 ألف نسمة، إلا أن القصف المستمر تسبب بدمار كبير في البنية التحتية للمدينة، وحوّل قسماً لابأس به من معاملها وورشاتها إلى رماد.

في الثامن عشر من شهر حزيران الحالي انسحب المقاتلون الكرد من المدينة تاركين وراءهم آلاف العائلات والأسر والمعامل والورشات، فدخلت إلى المدينة عشرات المجموعات المسلحة تقاسمت السيطرة على المدينة.

صور نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية لسلوك المسلحين الذين تقودهم أمريكا، أظهر بعض ما عاشته المدينة في ذلك اليوم. سيارات وشاحنات بدأت تتجول في شوارع عفرين بحثاً عن كل شيء يمكن سرقته. ورشات ومعامل فُككت وسرقت بالكامل. إحدى الصور أظهرت مسلحاً يقود جراراً بدولاب ممزق ورافعات تقوم بسحب جرارات وآليات ثقيلة، جميعها جرت سرقتها وإخراجها من عفرين.

المصور الذي التقط هذه الصور أحمد شفيع بلال، والذي حاول الهرب من عفرين لكنه فشل، ذكر عبر حسابه على وقع «فيسبوك»، أن الفصائل المسلحة اقتسمت المدينة، كل حارة استلمتها مجموعة، فتحولت عفرين إلى دويلات صغيرة، وهو مشهد يطابق تماماً ما شهدته مدينة حلب صيف عام 2012.

المصوّر الكردي شرح أن عمليات السرقة و»التعفيش» طالت كل شيء تقريباً، بين معامل ومنازل وسيارات وآليات زراعية وغيرها.

الناشط الكردي ريزان حدّو شرح في اتصال هاتفي مع “الأيام” أنه وإضافة إلى السرقات الكبيرة التي تعرضت لها عفرين، فقد تسبب الاحتلال التركي بدمار كبير في المدينة والمرافق الخدمية والبنية التحية، موضحاً أن حيّاً كاملاً (شارع البريد) تعرض للدمار بشكل شبه كلي.

لا إحصاءات دقيقة عن الضحايا والجرحى في عفرين، عن سبب غياب الاحصاءات، يشرح حدّو «مسؤولو الصحة في الإدارة الذاتية، ومسؤول الهلال الأحمر الكردي كلهم هربوا من عفرين قبل سقوطها بأيام، تاركين مسؤولياتهم الأساسية في إسعاف المصابين ومعالجتهم»، ويتابع «عدد الشهداء المدنيين يتجاوز الـ 400 شهيد، بينهم أشخاص فقدوا حياتهم خلال النزوح سواء بالقذائف التي أطلقها الجيش التركي، أو خلال رحلة الهروب في الأراضي الوعرة والبراري».

«أين ذهب النازحون؟»، يجيب حدّوا على هذا السؤال بعد برهة صمت «الشتات، الآلاف يجوبون القرى دون وجهة محددة، حوالي 30 ألف نسمة دخلوا نبّل والزهراء، لم يعد هناك متسع لأحد، البعض وصل القامشلي والآلاف مازالوا يجوبون»، وتابع «قوات الأسايش الكردية منعت الأهالي قبل سقوط عفرين بأيام من الخروج بسياراتهم، فتركوا أملاكهم وهاموا على وجوههم في الأراضي الزراعية، كل تلك السيارات والممتلكات استباحتها الفصائل المسلحة واستولت عليها، وخسر الآلاف أملاكهم، وخسروا إمكانية العثور على مكان يليق بالعيش الكريم خارج عفرين».

تغيير ديموغرافي: لواء جديد

تركيا وفور سيطرتها على عفرين، وأمام نزوح قسم كبير من السكان بدأت توزيع البيوت على الفصائل المسلحة، وعلى العائلات السورية الموالية لها من ريف حمص، وإدلب، وصولاً إلى بعض مناطق ريف حلب. في هذا السياق يشير ريزان حدّو إلى أن تركيا ومن خلال عمليات التدمير التي نفذتها، والتهجير والقتل والتشريد، الذي طال الأهالي وإعادة توطين عائلات جديدة تقوم بعمليات تغيير ديموغرافي كبير للمنطقة، وحتى ديني، موضحاً أن المسلحين التابعين لتركيا بدأوا فرض أيديولوجيا التطرف في المناطق التي دخلوها، وتابع «الأكراد من أهل عفرين الذين ظلّوا في بيوتهم قسم منهم موال لتركيا».

وقال حدّو «يوجد في عفرين عدة قرى يقطنها «أزيديون»، المسلحون التابعون لتركيا شنوا حملة اعتقالات وبدأوا إجبار السكان على تغيير دينهم، حتى أن بعض الفصائل قامت بتشكيل دوريات تقوم باختبار المارة عن عدد الركع خلال الصلاة، وعدد الصلوات وغيرها، ومن لا يعرف الإجابة يجري اعتقاله».

كذلك، جرى اعتقال عدد كبير من الأهالي وفق قائمتين أعدّها الموالون لتركيا من أهالي عفرين، الأولى تضم أسماء مواطنين موالين للحكومة السورية، والثانية لمواطنين موالين لأحزاب كردية تعادي تركيا، وجرى اقتياد المعتقلين إلى الحدود مع تركيا، ومصيرهم مجهول». وحذّر الناشط الكردي من أن المخطط التركي الذي يجري في عفرين يشابه ما تعرض له لواء اسكندرون، فتركيا تقوم بتهيئة البنية التحتية التابعة لها، وتقيم المشروعات الاقتصادية في الباب مثلاً بتمويل منها، وتقوم بتدمير كل النشاطات الاقتصادية الأخرى، وتغّير في التركيبة المجتمعية والدينية للمناطق التي تسيطر عليها، هذه المناطق وفي حال التوصل إلى أية اتفاقات سياسية ستطلب تركيا إجراء استفتاء للقاطنين فيها الذين سيصوتون للانضمام إلى تركيا».

ما حصل في عفرين من تدمير للاقتصاد والتراث والتاريخ والبيئة المجتمعية، يشابه ما تعرضت له مدينة حلب، وما تعرضت له جميع المناطق التي دخلها المسلحون التابعون لأنقرة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء عمليات السرقة والنهب، أو التدمير، أو القتل وإجبار الناس على تغيير معتقداتها. الدكتور مأمون عبد الكريم يلخص كل ذلك بقوله: «ما يجري يذكرنا بما فعله العثمانيون فينا على مدار أربعة قرون، ويشرح بشكل مفصّل ما عجز عن شرحه أهلنا لنا، أو ما غيّبه التاريخ عنا، فهل نتعظ؟».

علاء حلبي / اوقات الشام 

FAD-2