"إسرائيل" والجماعات المسلحة في سوريا .. البداية والنهاية

الثلاثاء ٢٩ مايو ٢٠١٨ - ٠٣:٢٧ بتوقيت غرينتش

منذ بداية الحرب في سوريا، انتقلت "إسرائيل" سريعاً من الموقع (المعلن) بالمراقبة عن كثب، إلى موقع المتورّط بشكل فعلي. حالياً لم يعد التورّط الإسرائيلي بحاجة إلى وثائق مكتوبة أو مصورة، بعد أن بات التباهي بالعمليات داخل الأراضي السورية محل جدل على مستوى المؤسستين الإسرائيليتين السياسية والعسكرية.

العالم-سوريا

دأبت بعض القيادات الميدانية من الفصائل المسلّحة في الغوطة الغربية على تلبية دعوات إسرائيلية على الإفطار في شهر رمضان!

حتى حزيران/ يونيو 2017، كانت مثل هذه "الزيارات" أمراً مألوفاً في المنطقة، باعتبار أن الإمداد الإسرائيلي لهذه الجماعات كان يتم بشكل دوري عبر طرق جبلية وعرة تُستخدم فيها الدواب لنقل الدعم.

ومع أنّ بعض الجماعات المسلّحة في الجبهة الجنوبية كان لا يزال يقبض رواتبه ويحصل على مختلف أنواع الدعم من غرفة العمليات الأميركية في الأردن (قبل إعلان إدارة ترامب وقف المساعدات)، فإنّ ما لا يقل عن سبعة فصائل مرتبطة بالجيش السوري الحر بدأت بالحصول على تمويل ودعم إسرائيلي مباشر مع نهاية العام 2017.

منذ بداية الحرب في سوريا، انتقلت إسرائيل سريعاً من الموقع (المعلن) بالمراقبة عن كثب، إلى موقع المتورّط بشكل فعلي. حالياً لم يعد التورّط الإسرائيلي بحاجة إلى وثائق مكتوبة او مصورة، بعد أن بات التباهي بالعمليات داخل الأراضي السورية محل جدل على مستوى المؤسستين الإسرائيليتين السياسية والعسكرية.

السياق الإسرائيلي الحالي ينحو باتجاه تنفيذ عمليات خاصة في العمق السوري، لا الاكتفاء بقصف جوي، وهذا يتطلب الحصول على معلومات استخبارية ميدانية وتفعيل المصادر البشرية. وبوجود التقاء المصالح الإسرائيلي مع المسلحين لن يكون الأمر صعباً.

عند هذا الحد، يمكن فهم كلام الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة "طلال ناجي"، خلال حديثه الأخير لقناة الميادين حول نبش الجماعات المسلّحة لمقبرة الشهداء في مخيم اليرموك بحثاً عن رفات جنود إسرائيليين.

تقاطع المصالح

تتحدث تقارير أميركية عن تدخل إسرائيلي على خط التنوع السوري ما بين العامين 76 و82؛ أي خلال تحرك الإخوان المسلمين ضد النظام السوري، من خلال دعم لوجيستي انطلاقاً من لبنان والأردن.

وثائق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي أي إي" تؤكد وجود مثل هذه التدخلات الإسرائيلية منذ عقود.

بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، راقبت إسرائيل ما يجري في دمشق عن كثب.

انتظرت تل أبيب نتائج الترهيب والترغيب الدوليين على الرئيس  الأسد الإبن طوال سنوات في مقابل فك تحالفاته مع إيران وحزب الله، إلى أن صار إسقاط الرئيس السوري الشاب هدفاً خليجياً – إسرائيلياً – تركياً – غربياً جامعاً.

يلخّص كتاب "بشار الأسد: السنوات الأولى من الحُكم" لمؤلفه الخبير الإسرائيلي في الشأن السوري "إيال زيسر" في العام 2005 معالم المرحلة التي تلت وصول الأسد إلى السلطة بعد رحيل أبيه. كان المطلوب تغيير سلوك النظام لا إسقاطه، إلى أن ضغطت دينامية حرب العراق، ومصالح "أنابيب الغاز" ولاحقا حقول النفط باتجاه إنتهاء مهلة التفاوض "غير المجدي" مع الأسد المتمسك بتحالفاته.

بات كسر الحلقة السورية هدفاً معلناً في تل أبيب بعد انتهاء حرب تموز 2006، بعد أن تبيّن أن الدعم السوري لحزب الله في الحرب شكّل رافعة أساسية في صموده.

في كانون الأول/ ديسمبر 2007، نشر معهد الأمن القومي في تل أبيب دراسته الشهيرة تحت عنوان "هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا"؟

أفردت قناة الميادين مع انطلاقتها وثائقيات عدة حول المصلحة الإسرائيلية في سوريا؛ منها "خيار الضرورة" الذي فنّد أسباب دخول حزب الله إلى المعركة باعتبار ما يجري في سوريا مصلحة إسرائيلية مباشرة، و"قطع رؤوس الهيدرا" الذي توقّع أن تناور تل أبيب تحت سقف الحرب في ما عُرف لاحقاً بنظرية "معركة بين الحروب"، كما التمس معالم تحول الصراع إلى مواجهة إيرانية – إسرائيلية.

مع بدء الحرب في سوريا في العام 2011، تركّزت أعمال الجماعات المسلّحة على تنفيذ اغتيالات "نوعية" لضباط وجنود في سلاح الجو السوري كما في السلاح الصاروخي.

سرعان ما انتقلت هذه الجماعات إلى استهداف قواعد سلاح الجو السوري ومراكز الرادارات.

يمكن الجزم بأن هكذا عمليات تطلب تحضيراً مسبقاً ومعطيات دقيقة لم تكن لتتوافر لولا دعم خارجي. ومع أنّ إيجاد دليل مباشر يربط ما بين إسرائيل وهذه العمليات سيبقى رهن سنن التاريخ وما سيكشفه المستقبل، فإن تصريحات قادة إسرائيل تكاد ترقى إلى اعتراف صريح:

30 آذار/ مارس 2011، شيمون بيريز يعربُ من جنيف عن تفاؤله بالثورة السورية التي من شأنِها "إيجاد جار أفضل لإسرائيل".

7 حزيران / يونيو 2011، المحرر السياسي في صحيفة "معاريف" عوفر شيلح يتحدثُ عن حملة إسرائيلية دولية للتحريض على نظام الأسد.

في اليومِ نفسِه، وزير الدفاع إيهود باراك يصرّح للإذاعة الإسرائيلية بأن نظام الأسد لن يستمرّ أكثر من تسعة أشهر، مشيرا إلى أنّ دمشق تشجع الاضطرابات في الجولان. باراك اعتبر أنّ الأسد لم يَعُد شريكاً لمفاوضات تسوية مع إسرائيل.

في الأسبوع نفسه، توجّه وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، إلى السفراء الإسرائيليين في الخارج ومندوبي إسرائيل في الأمم المتحدة بطلب وضع القضية السورية على رأس سلّم الاهتمام، قبل أن يطالب ليبرمان بنفسه الأسد بالاستقالة خلال لقائه نظيره الألماني في القدس، داعياً دول الاتحاد الأوروبي إلى سحبِ السفراء من دمشق، والمجتمع الدولي لاستخدام رافعاته للضغط على الرئيس السوري كي يتنحّى.

بالتوازي، روجت أجنحة الصقور في واشنطن لنظرية أن "إضعاف الأسد مصلحة إسرائيلية ما دام أن من سيخلفه لن يكون أسوأ منه". تلقّفت بعض الجهات في تل أبيب هذه الفكرة، وصارت تتغنى بنماذج "الإسلام التركي" و"الإسلام المصري" و"الإسلام الأندونيسي".

تقاطعت هذه الدعوات مع المسار الذي مرّ به الملف النووي الإيراني قبل أن يصل مرحلة الاتفاق المفاجئ؛ ما سرعّ من التقاء المصالح الإسرائيلية – الخليجية.

في العام 2013، بات انخراط "إسرائيل" في إقليم مزدهر مع جيرانها عنوانا رئيسيا يحضر في مؤتمرات "هرتسيليا" السنوية. وبما أنّ هؤلاء الجيران يدعمون الجماعات المسلحة في سوريا، فمن مصلحة تل أبيب أيضاً دعم هذه الجماعات.

مذّاك، تنفّذ تل أبيب توصيات مؤتمر "هرتسيليا" السنوية. هذا الهدف ليس تكتيكياً ولا مرحلياً. إن تقديم "مساعدات إنسانية" بآلاف الدولارات فضلا عن العتاد والدعم المالي المباشر هو جزء من رؤية إسرائيلية بعيدة المدى تهدف إلى إيجاد "جيران مسالمين".

ماذا بعد؟

المتابع لسياق التحوّل في المصلحة الإسرائيلية في سوريا يلحظ شبه تطابق في الأهداف في مفاصل عديدة مع شعارات وسلوك الجماعات المسلحة. بل إنّ تل أبيب لم تخفِ في مرحلة ما، خاصة بعد استعادة الجيش السوري وحلفائه لحلب، خيبتها من الرهان على ورقة المسلحين.

ومع أنّ الاعتراف ببقاء الأسد صار في العامين الأخيرين أمراً واقعاً في السياسة الأوروبية والغربية (والعربية الحليفة) عموماً، فإن تل أبيب تنظر إلى شخص الرئيس السوري باعتباره نقطة تُضعف إيران وحزب الله في حال رحيله.

هذا الهدف يتقاطع تماماً مع الجماعات المسلّحة التي تلتقط أنفاسها في الجيوب الصغيرة التي لا زالت تحتفظ بها، والتي لم يعد أمام البعض منها سوى الانتقام أو انتظار ما ستؤول إليه المفاوضات الروسية – الأميركية والاتفاقات الروسية – التركية – الإيرانية.

في كلتا الحالتين، تجد إسرائيل نفسها مضطرة أكثر من أي وقت مضى للتورط أكثر في سوريا.

ومع أن قادة تل أبيب يكررون مرارا أنهم لا يريدون الانجرار إلى الحرب، لكن ترنح الحكومة بين إبقاء صلاحيات إعلان الحرب ما بين المجلس الوزاري المصغر ورئيس الوزراء يؤشر بقوة إلى أن حسابات التورط في سوريا غير واضحة النتائج.

وسط تسلسل الأحداث الجارية بقوة نحو مواجهة عسكرية كبيرة، هناك عوامل واقعية تمسك لجام الاندفاعة الإسرائيلية:

استثمار الثروة النفطية عند الساحل الشرقي للمتوسط يتطلب استقرارا أمنيا في المنطقة. إن رسم خارطة النفط في سوريا لا يقبل بأي شكل من الأشكال بقاء جماعات مسلحة منفلتة بالنسبة إلى القوى الفاعلة ميدانيا.

تركيا تبحث عن دور فاعل تُنقذ من خلاله اقتصادها المنهك وتستطيع من خلاله المناورة بحرية أكبر بعيدا عما عهدته في تحالفاتها مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. معرفة مدى تأثير تركيا على الواقع الجيو سياسي في الشرق الأوسط، ومنها علاقاتها مع إسرائيل يتطلب دراسة معمقة لخيارات أنقرة ومدى استعدادها للتنازل في الملف السوري، وهو تنازل ستكون الجماعات المسلحة المحسوبة عليها في قائمة الأثمان المدفوعة.

وجود إيران وحزب الله عند الحدود السورية مع الأراضي المحتلة أمر غير قابل للاحتمال إسرائيليا ولكن الاستمرار في معالجته عسكريا يعني تحوّل رد الفعل السوري والحليف إلى أمر اعتيادي يُنهي عمليا فعالية نظرية "معركة بين الحروب".

إن اضطرار تل أبيب إلى التدخل بشكل مباشر سوريا يعني أن رهانها على الجماعات المسلحة قد سقط استراتيجيا، لكنه لا يزال خياراً تكتيكيا في خدمة عملياتها القادمة.

ومع أنّ الغزل المتبادل بين الطرفين كان علنيا مرات عديدة، فإن تجربة إسرائيل في استخدام "عملائها" لا تشي بأنها تحافظ على رؤوسهم عند انسحابها، كما أنها لا تجد نفسها مضطرة لحمايتهم إذا ما قررت الانكفاء عسكريا تحت وطأة الخوف من اندلاع مواجهة شاملة.

*عبد الله محمد - الميادين