السودان ومشروع "الدولة رقم 193" في العالم

الثلاثاء ١١ يناير ٢٠١١ - ٠٧:١٩ بتوقيت غرينتش

الحماسة التي تغلب على جنوبيي السودان وهم ينزحون من الشمال باتجاه "أرض الميعاد" بالشطر الجنوبي واصطفاف الملايين منهم في طوابير للتصويت على استفتاء التقسيم إنما يجد صداه في رغبة الكثير منهم للانفصال المبني على القاعدة الدينية والعرقية وتقرير المصير في إطار دولة مستقلة من حيث الموارد والسيادة، على الأقل من حيث المبدأ.واذا كانت هذه الرغبة تشرعها القوانين الدولية وميثاق المنتظم الأممي فإن المعايير الموضوعية الموجودة على أرض الواقع ترسم العديد من نقاط الاستفهام خلف مشروع بعث "الدولة رقم 193" في العالم.

الحماسة التي تغلب على جنوبيي السودان وهم ينزحون من الشمال باتجاه "أرض الميعاد" بالشطر الجنوبي واصطفاف الملايين منهم في طوابير للتصويت على استفتاء التقسيم إنما يجد صداه في رغبة الكثير منهم للانفصال المبني على القاعدة الدينية والعرقية وتقرير المصير في إطار دولة مستقلة من حيث الموارد والسيادة، على الأقل من حيث المبدأ.

 

واذا كانت هذه الرغبة تشرعها القوانين الدولية وميثاق المنتظم الأممي فإن المعايير الموضوعية الموجودة على أرض الواقع ترسم العديد من نقاط الاستفهام خلف مشروع بعث "الدولة رقم 193" في العالم.

 

فقرار التقسيم الضمني الذي يختفي خلف الاستفتاء وان كان يرسم مستقبلا سياسيا وجغرافيا مجهولا ومحفوفا بمخاطر حقيقية لكيان السودان ككل، فإنه يخفي كذلك خلف حماسة الجنوبيين واقعا شائكا ومعقدا للدولة الجديدة. فعمليا لا يختلف ميلاد دولة الجنوبيين عن التقسيمات التي أعقبت حقبة الاستعمار في القارة الافريقية، وهي تقسيمات خضعت في المقام الأول للمنطق الإداري ولحسابات جغراسياسية دون ان تراعي التجانس العرقي أو الديني في هذه الدول. وبالنتيجة ظلت الدول الجديدة التي بعثتها القوى الاستعمارية القديمة في القارة، فرنسا وبريطانيا، قائمة على براميل بارود قابلة للإشتعال في أي لحظة.

 

وفي الكثير من المناسبات السياسية والكارثية في افريقيا لا يميل الغرب الى إرجاع الاضطرابات المتكررة في فنائهم الخلفي القديم الى جذورها الأصلية والبعيدة. وقد رأى فقهاء القانون الدولي كيف أن التاريخ الاستعماري والتقسيم العنصري والأناني كان من بين الأسباب الأصلية لاضطهاد الملايين من السود في حقبة "الابارتهايد" بجنوب افريقيا وهلاك أكثر من مليون افريقي في مجازر روندا المروعة بين الهوتو والتوتسي ومثلها في بلد الزائير سابقا الذي تحول الى دولة كونغو الديمقراطية. كما رأى الفقهاء أيضا كيف ان الإفتقاد الى التجانس ووحدة الإنتماء التي لم يراع فيها التقسيم الاستعماري قد ظلت إلى اليوم من الأسباب المغذية لصراع السلطة المأزوم من القرن الإفريقي الى نيجيريا ومن كينيا الى ساحل العاج. وفي كل تلك الأمثلة لا يمكن الجزم بأن أيادي الغرب فيها كانت بيضاء.

 

وفي مثال دولة جنوب السودان القادمة فإن كل المعطيات الحالية، البشرية والجغرافية، إضافة الى الضغوط الخاريجة والدعم الدولي تجعل من نتيجة التقسيم في الإستفتاء الحالي مجرد تحصيل حاصل. لكن ماذا عن مرحلة ما بعد الاستفتاء؟ ففي غياب المكونات الأساسية لقيام مجتمع مؤسساتي لاحقا فإن نسب نجاح التقسيم تعادل نسب فشل الدولة المستحدثة في تثبيت كيانها.

 

وبأكثر موضوعية، فإنه من الغباوة السياسية المخاطرة بمصير دولة بحجم قارة مثل السودان تفوق مساحته أكبر خمس دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعة، ألمانيا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا واسبانيا وبولندا، في سبيل نجاح "طقس ديمقراطي" غير مسبوق في افريقيا.

 

واذا كان عدد من السياسيين في افريقيا وفي العالم يعتبرون هذا العرض نصرا للديمقراطية في السودان وافريقيا عموما، فإن هذا العرض يعتبر فاقدا لمعناه ولأي جاذبية طالما أنه سينتهي في المدى المتوسط بزراعة بلقان جديدة في المنطقة بسبب الملفات العالقة بين الشمال والجنوب حول الحدود والموارد النفطية إلى جانب التركيبة السكانية والأحقاد السياسية والعرقية المنتشرة بين أطياف مكونات الجنوب نفسه.

 

فالسودان ليس الاتحاد السويسري والإستفتاء على ميلاد دولة فوق ربوع نائية، من خلال "نعم" أو "لا"، لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال باستفتاء على الرموز الدينية أو العملة النقدية في أوروبا.

 

كما أن الاستحقاقات الكبيرة الجاثمة أمام دولة الجنوب لا تقف عند السيولة التي سيوفرها الغرب ولا عند الدعم السياسي الذي سيقدمه المنتظم الأممي تحت يافطة تقرير المصير. فالتحديات أكبر من ذلك بكثير.

 

والتحدي الأول يكمن في كيفية الانطلاق في بناء دولة من الصفر تعد أقل المناطق نموا في العالم وتفتقر افتقارا شبه كلي إلى البنية التحتية اذ لا يتعدى طول الطرقات المعبدة فيها في أفضل الحالات الخمسين كيلومترا أغلبها في العاصمة جوبا.

 

وسيكون من باب المقامرة السعي إلى بناء دولة بميزانية محدودة، وحتى في ظل تدفق المنح الدولية فإن الأمر يظل مرتهنا بمدى تعافي الاقتصاد الدولي من الأزمة المالية وبمدى نجاح الحركة الشعبية لتحرير السودان في تشكيل حكومة مستقبلية قادرة على تفادي الفساد المستشري.

 

وفي مقابل الاستقلال التام عن حكومة الخرطوم فإن التقسيم الذي يرجح أن ينتهي إليه الاستفتاء قد يتحول من نعمة الى نقمة. ويتعلق الأمر بمدى قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها إزاء الشعب على اختلاف أطيافه وكيف يمكنها ان تقف على نفس المسافة تجاههم وتصنع السلام جنبا الى جنب مع التنمية.

 

فعلى الرغم من أن أفضل الأراضي الزراعية في السودان تقع في الجنوب فإنها جلها مهملة بسبب النزاعات القبلية ما يجعل المنطقة تعتمد بشكل كامل على المساعدات الدولية. ومع محدودية المراعي التي تغلب على نشاط الجنوبيين فإن خطر الفوضى يظل يتهدد الجميع بسبب الخصومات العرقية والإغارات المتبادلة على المرعى والماشية.

 

وفي حين أن مؤتمر المصالحة الجنوبية الذي عقد في جوبا وحد صفوف حتى أشد منتقدي الحركة الشعبية كما أن زعماء ميليشيات المتمردين قبلوا قرارات العفو فإن التحليلات المتواترة تذهب الى ان هذا التقارب الهش قد يسقط بمجرد استقلال الجنوب.

 

في المحصلة فإن استفتاء جنوب السودان لا يقدم في الواقع سوى نصف الحقيقة التي تقف عند التقسيم أما النصف الآخر فيظل مرتهنا بالوعود وبالمستقبل المجهول وبمدى قدرة الجنوبيين على التغلب على أعراض الفشل المسكوت عنها.

 

واذا كان عدد من فقهاء القانون الدستوري والقانون الدولي يرون في الأشكال المركبة للدول الاتحادية طريقا للحفاظ على الوحدة والتنوع فإن على الداعمين لتفتيت السودان أن يثبتوا الآن عكس هذه النظرية.

*صحيفة العرب العالمية