كربلاء.. في رحاب قافلة العشق !

كربلاء.. في رحاب قافلة العشق !
الثلاثاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٨ - ٠٤:٤٩ بتوقيت غرينتش

زحفت مكة بجميع مشاعرها من عرفات ومنى مزدلفة والجمرات والبيت الحرام والهدي والصفا والمروه مع قافله الحب إلى مدينة الحب، ليذبح الحب على أعتاب العراق،فسارت قافلة الشهداء لتفتتح سجلات الشهادة في أرض الشهادة، حيث قاتل ابن عم سيد العشق وحيدا مفردا وأصبح أول شهيد من قافلة العشق. 

العالم - تقارير

تهيّأت القافلة العظيمة، وبدأت المسير. وحدا بها حاديها يقطع المفاوز والمنازل منزلاً منزلاً.. حتّى وافى بها كربلاء، لتبدأ من هناك ملحمة العروج الملكوتي الدامي الصاعد إلى الله تعالى في غيب الغيوب.

بوركت قافلة حاديها سيّد شباب أهل الجنة وزين السماوات والأرض، وركبانها أعزّاؤه من أهل بيته، وخُلَصاؤه من أصحابه وممّن التحق بهم في جنبات الطريق. قافلة لا أعزّ منها ولا أنفَس، ولا أروع منها ولا أقدس.

أراد الحسين صلوات الله عليه أن يجمع البشريّة دفعةً واحدة، ويمضي بها سريعاً ـ في شجاعة فريدة محيرة ـ لتجد نفسها وقد دخلت في حقيقة رضوان الله، يقودها حبيب الله وابن حبيبه الحسين ابن فاطمة صلوات الله عليهما.

في المدينة، وفي مكة عند اقتراب موسم الحجّ، طالما حرّض جماهير المسلمين الذين نُكسِوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يتنبّهوا ويَصْحوا، وأن يفارقوا هذا الإخلاد الثقيل إلى أرض الظلام.

قال لهم: هلمّوا معي، فأنا ذاهب من فوري إلى الله. إن بقيتم منكفئين هذا الانكفاء ازددتم انتكاساً وارتكاساً، فإنّكم لن تحصدوا من حكم بني أميّة ومن سيَلي بعدهم غيرَ الخَسار. إنّها فرصتكم يا قوم لتخفّوا إلى الله بأجنحة الحبّ والشوق لتعودوا إليه من جديد، باختيارٍ منكم هو اختيار الرجال الأحرار.

سأحجّ بكم حجّاً لم يحجّه أحد.. تكونون أنتم فيه الأضاحي على « مِنى » كربلاء. ستذهبون إلى الله حُمراً من دماء النحور والصدور، وستَطْوون في ساعة كلّ مراحل طريق العروج. ما أقصرها من مدّة، وما أسماها من غاية، وما أحبَّها من رحلة للوصال!

ولبّى نداءه القدسيّ من لبّى،و هم قليلون. وظلّ في الأرض على عداوته من عاداه.

وأشفق آخرون على أنفسهم فاختاروا السلامة. وأشفق غيرهم عليه، فصدرت من بعضهم « نصائح » باردة أن يُؤْثر البقاء ولا يمضي تلقاء الموعد الملكوتي في كربلاء! والتحقق به في الطريق عدد من الناس.

ثمّ سرعان ما انفضّوا عنه لمّا رأوا القضيّة قضيّة حدّ لا تراجع فيه. إنّها المبايعة على قطع الرقاب لا على نوال الأسباب. وظلّت معه عصبة الوفاء قلّة قليلة وصفوة مصفّاة، فاختاروا أن يمضوا معه في طريقه إلى الشوط الأخير..حتّى عرجوا إلى الله أغلى ما يكون الشهداء، وأنقى ما يكون الأصفياء.

ولقد صفّاهم الحسين عليه السلام  ونقّاهم، وأدخلهم، إذ اختاروه،في « النفس المطمئنّة »، فدخلوا عندئذ في حقيقة « عباد الرحمان »، وتبوّؤوا جنة الله الخاصّة التي هي فوق درجات الجنان، فكانوا هم الفائزين الظافرين ظفراً حسينيّاً ما كان يخطر لهم ببال.

بثّ الحسين سلام الله عليه نداءه الموقظ، في مكة والمدينة ومنازل الطريق وفي مضارب المسافرين، وفي كلّ مكان يبلغه صوته الحبيب. ونداؤه لأهل الأرض: « هل من ناصر ينصرني » ؟ هل من أحد يخرج إليّ من هموم نفسه فينهض ويلتحم بالهمّ الأكبر على طريق النُّصرة والنصر ؟ هل من حُرّ يَدَع لُماظةَ الدنيا لأهلها ويخفّ معي إلى الله والهاً وَلَهَ الصَّديان إلى عذب الماء ؟

ولمّا وقعت الملحمة الكبرى في ظهيرة عاشوراء بانَ النصر بأوسع مداه، وبأرفع محتواه.. فإذا الذين جاؤوا للنصرة غَدَوا هم المنصورين، وإذا الذين تابعوا وبايعوا أمسوا هم الفائزين! وتجلّى عندئذ المعنى العظيم المستكنّ في نداء سيّد الشهداء عليه السّلام: «هل من ناصر ينصرني»؟ غدت ترجمة عبارته الرفيقة الحانية: هل من أحد يلحق بي فأنصره ؟ أنصره نصراً أبديّاً، وأفتح له الفتح الملكوتي المبين.

هنا نار التوحيد التي تحرق في الإنسان كلّ ما عدا التوحيد. وهي نار مجبولة من الحبّ الأسمى والعشق الأرقى.. من احترق بها بلغ فتح الفتوح، حيث ما ثمّة إلاّ الله تبارك وتعالى.

القافلة ما تزال تطوي المسافات مارّةً بكلّ المنازل في الأرض، والحداء الحسينيّ مستمرّ. ونداء الحادي ما يزال يتعالى في عمق العالم في كلّ لحظة وكلّ آن: « هل من ناصر ينصرني » ؟ أي: هل من أحد يريد النصرة فأنصره نصر الفتح العظيم ؟

القافلة ماضية قُدُما إلى كربلاء، وقائدها الحادي يعلو نداؤه في كلّ بقعة من الأرض وفي كلّ وقت. ولا غَرو، فإنّ « كلّ يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء ».

وكربلاء العاشورائيّة ـ بكلّ معانيها وكلّ أبعادها وكلّ من حضروها ويحضرونها على امتداد الأزمان ـ نور هو أبهى النور، ونور هو أرقى الفوز، وحياة أبديّة تموج بالحبّ والإخلاص والتسليم والوفاء.

ومن هنا كانت كربلاء الحسين قبلة الموحِّدين الوالهين، ومَحَجّ العاشقين المتألّهين الذين يؤمّونها ـ في الظاهر المحسوس، وفي الباطن المكنون ـ بعد أن تركوا وراءهم أثقال الأرض، وأقبلوا على الحسين صلوات الله وسلامه عليه يبتغون النصرة والنصر والفوز الذي ما له من نظير.

إنّ أيام الحسين في عاشوراء أيامُ تذكّرٍ وتشوّق ودمع وانتخاء. أيام حزن مُنوِّر، وتأسٍّ مُعبِّر عن عزمٍ باطني للالتحاق، في زيارة قدسيّة متألقة مُشبَعة بعهد المحبّة والبيعة على الوفاء، عسانا أن ندخل بصدق في آفاق من هذه الملحمة العظمى، لنطّلع  بأدب الحضور على شيء من أنوار القافلة الحسينيّة، لعلّنا نسمع يوماً حداء كربلاء الذي لا يتوقّف ولا يكفّ عن النداء: هل من ناصر ينصرني ؟ هل من ناصر ينصرني ؟ هل من ناصر ينصرني؟!

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللّهِ

وَ عَلَى الاَْرْواحِ الَّتى حَلَّتْ بِفِنآئِكَ

عَلَيْكَ مِنّى سَلامُ اللّهِ اَبَداً

ما بَقيتُ وَ بَقِىَ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ

وَلا جَعَلَهُ اللّهُ اخِرَالْعَهْدِ مِنّى لِزِيارَتِكُمْ

اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَ عَلى عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَ عَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَ عَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ

السلام عليكم جميعا يوم ولدتم ويوم تبعثون أحياء.