مغنية .. الأم والولد أيقونات المقاومة

مغنية .. الأم والولد أيقونات المقاومة
الثلاثاء ٠٩ أكتوبر ٢٠١٨ - ١٠:٥٣ بتوقيت غرينتش

عشر سنين مضت على رحيل العماد، عماد المقاومة والجهاد. عشر سنين لم تزد قائد المقاومة إلا إشراقاً وتألقاً، وهو المجهول طيلة أيام عمره الشريف. القارئ لحياة شهيد المقاومة وقائدها لا يمل مهما طالت السطور؛ لأن جميع الكلمات تعجز عن وصف هذا الرجل وما قدمه لمسيرة المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق.

العالم - تقارير 

ولد عماد فایز مغنیة في العام 1962 في بلدة طیردبا الجنوبیة ، في أسرة مؤمنة متدینة مکونة من أب وأم وثلاثة أبناء وفتاة هو أکبرهم (عماد وجهاد وفؤاد وزینب).

انتقلت عائلته إلی الضاحیة الجنوبیة لبیروت حیث تلقی عماد علومه الابتدائیة والثانویة في مدارسها.

لقد عاش عماد مغنیة بهویته المدنیة ، حیاة طبیعیة هادئة بعیدًا عن الأضواء، یرفض الإجراءات الأمنیة المکثفة ، یفضل قیادة سیارته بنفسه ویتنقل فی کثیر من الأحیان منفردًا حتی لا یلفت الأنظار .

ویبقی في نظر جیرانه ومحیطه شخصًا عادیًا ، یتولی بنفسه شراء حاجات ومستلزمات بیته، یجالس جیرانه وأهل الحی، یمازحهم ویشارکهم همومهم، یخدمهم ویلبي حاجاتهم دون أن یعرفوا حقیقته و من یکون.

بالرغم من أن الغوص في أغوار شخصیة هذا القائد العظیم أمر صعب جدا ؛ وبما أن حزب الله ضنین حتی بصوره فضلاً عن دوره وجهاده ، لأنه کان ، ولا یزال أحد أهم أسرار المقاومة وأسطورتها وصانع بطولاتها والانتصارات ..

إلا أننا نکتشف عامًا بعد اخر بعضًا من جوانب شخصیته التی کانت تجمع بین التناقضات فهو قائد معروف ، قوی ، صلب ، شجاعˈ، جریء ، عنید ، جدی ، کتوم ..و في نفس الوقت جندی مجهول ، و أب عطوف ، حنون، رحیم ، متواضع، لطیف ، لین، مرح، وضحوك.

 ولعل هناك أکثر العبارات التي تختصر تعریف عماد مغنیة هي التي أطلقها الأمین العام لحزب الله سماحة السید حسن نصر الله ، في تأبینه یوم تشییعه : «صانع الانتصارین».

و یقصد بهما الانتصارین اللذین حققتهما المقاومة الإسلامیة بدحرها للإحتلال الصهیوني من جنوب لبنان في أیار العام 2000 وفي حرب تموز 2006.

وربما هذه الصفة أي «صانع الانتصارین» تفیه بعضًا من حقه ؛ إذ أن الطابع السري لشخصیة وعمل «الحاج رضوان» سیبقی یحجب عنا کثیرًا من الانجازات والأعمال الجهادیة و الأمنیة التي نفذها وحققها لشعبه وأمته علی مستوی الصراع مع العدو الصهیوني طوال 26 عامًا من الجهاد والمقاومة .

ولعل أکثر الدلالات علی حجم هذه المعاناة ما عبره عنه نجله الشهید «جهاد» في کلمته التی ألقاها في ذکری أسبوع والده عندما قال : «لأول مرة أعلن علی الملأ أسمي بکل فخر واعتزاز إني جهاد عماد مغنیة» .

وهذا کله یتطلب وعیًا ودقة وحنکة في التصرف من قائد عسکري وأمني تلاحقه مختلف أجهزة الاستخبارات العالمیة و أکثرها فاعلیة بما فیها الأمیرکیة والصهیونیة والغربیة علی اختلافها ، وشغل بال کیان الارهاب الصهیوني وقادته لسنوات طویلة.

علمًا أن التوفیق بین الحیاتین المدنیة والأمنیة یتطلب جهدًا ومعاناة غیر عادیتین لیس له فحسب وإنما لأفراد عائلته عمومًا .

 وأما حديثا عن تواضعه،یروي أحد المجاهدین في المقاومة الإسلامیة،يقول: إن مجموعة من المقاومین زاروا موقعًا متقدمًا للمقاومة في الخطوط الأمامیة بجنوب لبنان إبان الاحتلال الصهیونی وطلب أحدهم البقاء في الموقع المذکور إلی جانب المقاومین وحصل علی موافقة مسؤول الموقع .

وعندما جاء وقت الغداء طلب أحد عناصر الموقع من الضیف الجدید القیام بتحضیر الطعام، فلبی سریعًا وبعد تناول الطعام توجه إلیه أحدهم وسأله ممازحًا : «ملأت الکروشة؟»

ویعنی بذلك هل امتلأ بطنك وشبعت؟

فیرد الضیف: «الحمد لله».

یکمل المقاوم: «إذن قم إلی الجلی» (غسل الأواني) یسرع الضیف بحمل الأواني إلی المطبخ ویقوم بغسلها بکل مرح وسرور، وبعد أیام یتبین لمسؤول الموقع وعناصره أن ضیفهم الخدوم والمطیع للأوامر والمحب للمقاومین هو نفسه القائد «الحاج رضوان» ، لکنهم بالطبع لا یعرفون أنه عماد مغنیة .

إن عماد تعرف خلالها علی المقاومة الفلسطینیة فانخرط فیها مناضلاً في صفوف حرکة فتح، واثبت براعته فيلعملیات العسکریة والأمنیة فتم ضمه إلی «القوة 17» التی هي القوة العسکریة الخاصة في حرکة «فتح» ، التي کانت تتولی حمایة الزعیم الفلسطیني الراحل یاسر عرفات ، حیث قیل إنه کان أحد حراسه الشخصیین.

ساهم عماد مغنیة في عملیة نقل سلاح حرکة «فتح» إلی المقاومة اللبنانیة، بعد أن اضطرت الحرکة لمغادرة الأراضي اللبنانیة إثر الاجتیاح الصهیوني للبنان عام 1982. وعمل علی تنظیم صفوف المقاومین وتشکیلاتهم ضمن إطار جدید اسمه حزب الله مساهمًا في تأسیسه ، لمقارعة الاحتلال الصهیوني للبنان .

لا يزال عماد مغنية أو «الحاج رضوان» او «الحاج ربيع»، هو القائد الجهادي الاسطوري الكبير في حزب الله و عماد مقاومته ، أسطورة جهاد و بشارة النصر الحاسم ، و لغزًا تحتار العقول في فهمه ، رغم خروجه من ظل الحاج رضوان إلى شمس عماد مغنية منذ ثماني سنوات.

اذ لا يزال قادة العدو الصهيوني يتحسسون يوميًا ومع كل صباح ، كما طلب منهم سيد المقاومة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي رأى في استشهاد الحاج «رضوان» ، بشارة النصر الحاسم .

و بالتأکید ان عماد مغنیة ، شخصیة أسطوریة ، تختزن کمًا هائلاً من الأسرار و یلفها الغموض من کل ناحیة ، و بالتالي فإن هذه الشخصیة الفذة ستبقى تفیض عامًا بعد اخر بالمفاجآت المذهلة کلما مضت سنون واعوام ومهما کُتب من مقالات .

وما لاشكفيه هو أن طابع السریة الذي اتسمت به شخصیة عماد مغنیة ، هي المیزة الرئیسیة إلی جانب إیمانه وتوکله علی الله ، وهي أحد أبلغ أسرار النجاحات والانجازات العظیمة التي حققها بعیدًا عن الأضواء .

فقلیل جدًا من العاملین في حزب الله وحتی في الصفوف القیادیة الذین هم یعرفون الشهید مغنیة ، بل لعل هناك الکثیر من المسؤولین کانوا لا یعرفون أن عماد مغنیة هو نفسه «الحاج رضوان».

کما أن هناك کثیرین ممن تعاملوا معه من خارج صفوف حزب الله ولسنوات طویلة علی اعتبار أنه «الحاج ربیع» ، دون أن یعرفوا أنه هو نفسه «الحاج رضوان» إلا بعد استشهاده.

سافر إلی الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة في أوائل الثمانینات حیث نسج علاقات وطیدة مع القیادة الإسلامیة ممثلة بالإمام الخمیني وحواریه ومع کبار قادة الحرس الثوری وتلقی تشجیعهم ودعمهم .

و بدأ حیاته الجهادیة مطلوبًا لأکبر الأجهزة الأمنیة والاستخباراتیة ، حیث اتهمته وکالة الاستخبارات الأمیرکیة الـ C.I.A والاستخبارات الفرنسیة بالوقوف وراء عملیة تفجیر مقري المارینز والمظلیین الفرنسیین في بیروت،تشرین الأول/أکتوبر 1983 وأدیا إلی مقتل 241 ضابطًا وجندیًا أمیرکیًا و58 ضابطًا وجندیًا فرنسیًا .

کما اتهمه الکیان الصهیوني بالتخطیط وتدبیر العدید من عملیات التفجیر التی استهدفت قوات الاحتلال الصهیوني ومراکزه القیادیة في الأراضی اللبنانیة المحتلة آنذاك وخارج لبنان وأبرزها العملیة الاستشهادیة التي نفذها الاستشهادي أحمد قصیر ضد الحاکم العسکري الصهیوني في مدینة صور بجنوب لبنان في العام 1982، وأسفرت عن مقتل أکثر من 120 ضابطًا وجندیًا صهیونیًا.

و إلی جانب مهمته کرئیس لـ«المجلس الجهادي في حزب الله» ، حمل القائد الشهید عماد مغنیة العدید من الملفات وحقق انجازات کبیرة لا تزال طي الکتمان لم یکشف منها حزب الله إلا النزر القلیل نظرًا لطبیعة وحساسیة عمل هذا القائد الجهادی الکبیر الذی وصف بـ «الثعلب» و «صانع البطولات الأسطوریة» و«قائد الانتصارین» و «الشبح الذی أرهق استخبارات 42 دولة» .

و بعد 26 عامًا من عمره الوجیز (46عامًا) أمضاها مجاهدًا متخفیًا یقود المقاومة بوجه العدو الصهیوني وینقلها من انجاز إلی انجاز ومن نصر إلی آخر ..

وهناك کان لحرکة فتح التی انتمى الیها عماد مغنية مطلع شبابه الجزء الأکبر من اهتمامه خلال الانتفاضة الثانیة فنفّذ المقاومون عملیات على طول الحدود مع فلسطین المحتلة.

أبرزها عملیة الجهاد الإسلامي في مستوطنة شلومي في الجلیل الأعلى (تسلل مقاومان فلسطینیان إلى داخل فلسطین المحتلة واشتبکا مع جنود العدو).

وکشفت التحقیقات حینها أن «المهاجمین استخدما سلماً مقوساً لاجتیاز الحدود، وأن حزب الله سهّل مهمتهما» .

بقیت العملیة «یتیمة» ولم یتبنّها أحد ، إلّا أن «إسرائیل» وجّهت أصابع الاتهام إلى حزب الله، لـ”جر الجیش الصهييوني إلى حرب في جنوبي لبنان وتخفیف الضغط عن الضفة” .

وفي الضفة ، طلب «أبو عمار» من کتائب شهداء الأقصى التعاون مع مغنیة الذي أرسل مجموعة من المقاومین للعمل مع «الأقصى».

و تمکن العدو من اعتقال بعضهم مثل الشهید فوزي أیوب . ابن «قوات الـ17» سابقاً، خبر عقلیة «الختیار» ، لذلك لم یهاجمه یوم أوقفت أجهزة أمن السلطة بعض رجاله.

وهو سعى الى تجنید شبان داخل الأراضي المحتلة عام 1948 التي یعتبرها الکیان منطقة آمنة .

وفي موازاة عمله العسکري، کان مغنیة یعمل على الجانب الإعلامي والفني لمواکبة الانتفاضة الثانیة.

ویقول عارفوه إنه استحضر أرشیف أناشید الثورة الفلسطینیة القدیمة وطلب بثّها عبر قناة المنار، وحرص على وجوده شخصیاً عند منتجتها وبثّها .

وعرف بعض قادة «القسام» هویة مغنیة الحقیقیة ، لکنهم لم یصارحوه بذلك ، خصوصاً أن الرجل کان مطلوباً من أکثر من جهاز عالمي.

ویقول أحدهم: «في إحدى المرات التفت الحاج إلي فکانت ملامح وجهه تشبه إحدى صوره القدیمة المعروفة، فعرفت أنه مغنیة،لکنني لم اعترف له بذلك».

یستذکر هؤلاء کیف کان مغنیة یستمع خلال رحلاتهم الى لبنان أو سوریا إلى أهازیج الثورة الفلسطینیة ، وحرصه على فلسطین ، وسعیه الى توفیر حاجات المقاومة في غزة.

ویتذکرون کلمة «خلص» التي کان یردّدها.

هذه الکلمة کانت کافیة لجعلهم یتأکدون من أنه سیؤمن الکمیات المطلوبة من السلاح لهم.

ویقول أحدهم: «خلال اللقاءات کنا نطلب کمیة محددة من السلاح، فکنا نفاجأ بالحاج یبادر الى زیادتها وإضافة أسلحة جدیدة علیها، خصوصاً أن کلمته کانت مسموعة في طهران» .

بعد تحریر عام 2000، وخلال جولة له مع بعض قیادات الفصائل الفلسطینیة على الحدود ، وقف الأمین العام لحرکة الجهاد الاسلامي رمضان شلح أمام مستوطنة شلومي متأملاً بیوتها وحبال الغسیل في حدائقها، فردّد على مسمع الحاج عماد بیتاً من قصیدة «الأرض» لمحمود درویش یقول فیه:

«سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسیل****سنطردهم عن حجارة هذا الطریق الطویل».

فما کان من مغنیة الا أن ضرب بکفه على صدره قائلاً : «وحیاتك رح نطردهم» .

أجل ...

ذهب عماد مغنية الى الاستشهاد وحده، ليصبح ثالث الشهداء في عائلة الحاج فايز مغنية ولو أنه بكّر في الرحيل نسبة الى عمره الوجيز (46 عاما). خرج مغنية، شهيدا، للمرة الأولى الى الضوء، معيدا الاعتبار الى اسمه وإلى بعض «انجازاته» التي سيبقى الكشف عن تفاصيلها ملك حزبه.

نعم ،ذهب عماد مغنیة إلی الشهادة متواضعًا کما هو وحیدًا دون مرافقة ، ونال وسامها الأحمر في الثانی عشر من شباط/فبرایر عام 2008 ، بانفجار عبوة ناسفة زرعها جهاز الاستخبارات الصهیونیة «الموساد» في أحد شوارع بلدة کفرسوسة بریف دمشق ، لیصبح ثالث الشهداء فی عائلة الحاج فایز مغنیة.

بعدما اطمأن عماد مغنیة إلی أن المقاومة الإسلامیة باتت تملك من الصلابة والقوة ما یمکنها من الوقوف بوجه أعتی الطغاة ومن القدرة ما یمکنها من تحقیق أعظم الانتصارات ، وأنه خلف وراءه أجیالاً وکوادر تدربت علی یدیه لن تخاف ، و لن تهدأ ، ولن تلین .

خرج عماد مغنیة إلی الضوء فی 12/2/2008 ، تارکًا الکیان الصهیونی تائهًا فی ظلام دامس ، مسکونًا بالرعب والخوف والقلق ینتظر عودته لینتقم من قاتلیه ، یخاف ظله ویتجنب ذکر اسمه، لذلك ومع دخول شهر شباط من کل عام یعلن العدو الصهیوني استنفارًا عامًا علی الحدود مع لبنان وفی مختلف سفاراته وممثلیاته في أي مکان من العالم یطلب من قادته تخفیف تحرکاتهم و تجنب السفر إلی خارج فلسطین المحتلة .

ولا یزال قادة العدو الصهیوني یرون عماد مغنیة خطرًا حقیقیًا علی «كيان الإحتلال» ، وبعضهم أقر علنًا وعبر شاشات التلفزة أنهم کانوا یخشونه ولا یزالون.

ومن هؤلاء رئیس الأرکان السابق “آمنون شاحاك” الذي یقول : “عماد مغنیة کان خطرًا حقیقیًا علی «إسرائیل»” ، و منهم أیضًا المسؤول السابق لوحدة الاستخبارات في الجیش الصهیونی «دود برکاي» الذي یقول: «عماد مغنیة لیس مخربًا بل هو رجل استراتیجي .. أخافني کثیرًا ولا أزال أخافه» .

أم عماد مغنية... أيقونةٌ مقاوِمة إلى جوار أبنائها

رحلت أم عماد مغنية، «أم الشهداء» يوم امس عن عمر ناهز ثمانين عاماً، قضت معظمه ضمن مسيرة المقاومة، مربّية ومعلّمة ومعزّية، كما لقّبها أهل المقاومة. رحلت آمنة سلامة مغنية (أم عماد)، تاركة خلفها عمراً حافلاً بالمقاومة والصمود والصبر.

والدة الشهداء الثلاثة، جهاد (1984)، ثم فؤاد (1994)، وعماد (2008) الذي ظهرت إلى العلن من بعد شهادته، لتصبح أيقونة في مجتمع المقاومة، وبين عوائل الشهداء.
لم تكتف أم عماد بأن تكون أماً لثلاثة شهداء؛ ففي عام 2015، انضمت صورة حفيدها، جهاد عماد مغنية، إلى صور أبنائها الشهداء الثلاثة التي زيّنت حائط غرفة الاستقبال في منزل الحاج أبو عماد، بعدما اغتالته الطائرات الإسرائيلية، مع مجموعة من المقاومين، في محافظة القنيطرة السورية، على الحدود مع الجولان المحتل.