مقتل خاشقجي.. التخبط السعودي من الإنكار إلى الإعتراف

مقتل خاشقجي.. التخبط السعودي من الإنكار إلى الإعتراف
السبت ٢٠ أكتوبر ٢٠١٨ - ١٠:٥٤ بتوقيت غرينتش

مرت ثلاثة اسابيع تقريبا على قضية إختفاء الصحفي السعودي المعارض في قنصلية بلاده بمدينة اسطنبول التركية، وكانت المواقف السعودية تتخبط وتتغير تغير الحرباء.

العالم- السعودية - تقارير 

فمنذ الإعلان عن عدم خروج الخاشقجي من القنصلية بعد سويعات من دخوله لها حاولت السعودية ووسائل الإعلام الموالية لها تفنيد كل الأخبار والتأكيد على ان خاشقجي كان قد غادر القنصلية بعد دقائق أو على اكثر تقدير بعد ساعة من تمرير معاملته، واستمر تأكيد نفي الجريمة ليومين حتى ظهر ولي العهد محمد بن سلمان بنفسه على قناة بلومبرغ في الخامس من تشرين الأول ليؤكد مغادرة خاشقجي للقنصلية بعيد انتهاء عمله في القنصلية وأن لا صحة لما تتناوله وسائل الإعلام جملة وتفصيلا.

ومع صبيحة اليوم السادس من الشهر الجاري فاجأ العالم سيناريو سعودي آخر، تمثل بفتح أبواب القنصلية السعودية بمدينة اسطنبول وبالتعاون مع الامن التركي والسماح لطاقم وكالة "رويترز" البريطانية (صاحبة ومؤسسة العرش الملكي السعودي) ليدخل القنصلية ويفتش عن خاشقجي الذي قد يكون تحول الى فأر حاول الاختباء في الخزانات والمخابئ الصغيرة والكبيرة المنتشرة في كل أدوار القنصلية السعودية.

ومع كل ذلك لم يخرج الفريق الأمني التركي خالي اليدين، بل انه اعلن فور خروجه بالحصول على عينات و أعمال مشبوهة أنجزت مابين يومي الثاني والسادس من الشهر الجاري بما فيها ادخال كميات كبيرة من المنظفات الكيمياوية والأصباغ لمبنى القنصلية وعدم السماح للفريق بتفتيش منزل القنصل في نفس اليوم.

واستمر الرفض السعودي لكل الشواهد التي كانت تنهال عليه رغم التقطير الإعلامي الذي مارسته تركيا لألف غرض وغرض ولحاجة في نفسها، حتى أطل صباح اليوم النائب العام السعودي، سعود بن عبدالله على الإعلام السعودي ليؤكد بيان نيابته الذي يشير الى "وفاة" خاشقجي داخل القنصلية إثر "شجار" دار بينه وبين الذين اشتبكوا معه بالأيدي. ولم يكن هذا السيناريو جديدا من السلطة الجاثمة على صدر الجزيرة العربية منذ اكثر من قرن، فهي التي أطلقت إسم "الفتوحات" على المجازر التي ارتكبها المؤسس للبلاط الحاكم بمساعدة بريطانية ضد قبائل وعشائر العرب القاطنين في الجزيرة العربية، حتى تمكنت من مصادرة كل شيئ لصالحها بما في ذلك استبدال اسم البلاد، بأسم الأسرة الحاكمة.

وللتعرف اكثر على المهازل التي ينطوي عليها بيان النيابة العامة السعودية، لابأس بإلقاء نظرة على اصل البيان الذي جاء على لسان النائب العام سعود بن عبدالله المعجب، والذي نقلته وكالة الانباء السعودية حرفيا حيث جاء فيه:

"أظهرت التحقيقات الأولية التي أجرتها النيابة العامة في موضوع اختفاء المواطن، جمال بن أحمد خاشقجي، أن المناقشات التي تمت بينه وبين الأشخاص الذين قابلوه أثناء تواجده في قنصلية المملكة في اسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي معه مما أدى إلى وفاته".

فهذا المقطع يحتوي على الكثير من الألغاز نحاول الاشارة الى بعضها وحسب ما يسمح به المقام.

البيان يبدأ بكلمة "أظهرت" وكأن المتحدث لا يعلم ماذا جرى داخل القنصلية، وماذا كانت القضية التي اضحت على رأس اخبار كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية.

ويستمر البيان بعبارة: "التحقيقات الأولية" أي ان المعنيين تركوا الباب مفتوحا لإضافات اخرى يتم تقطيرها على المستمع والمتلقي حسب حاجة الموقف للتخفيف عن حدة وطأة الجريمة حسب الظروف الزمانية والمكانية.

والنقطة الثالثة المثيرة للجدل هو تسمية خاشقجي الذي نجح في الإفلات من قبضة السلطة قبل اقل من عام وهرب الى الغرب وسكن واشنطن، بـ "المواطن" ولا كأنه كان مطلوبا للسلطة، ويتهرب من خيالها كي لا تعتقله عيونها او تطاله أصابعها في المهجر.

والامر الذي يثير التساؤلات أكثر من ذي قبل وجود كلمة "المناقشات الذي تمت بينه وبين... "، ومن حق المتلقي للبيان ان يتساءل لماذا المناقشة؟ فهو مواطن – على حد تعبير البيان على الأقل- و جاء لطلب وثيقة رسمية من قنصلية بلاده، فما هي دواعي المناقشات؟...

علما انه كان قد راجع سفارة بلاده في واشنطن قبيل الكارثة، لكن الاخيرة أشارت عليه بضرورة "استلام الوثيقة من قنصلية بلاده في اسطنبول التركية" في الوقت الذي تخبره به، ليسافر الى تركيا لاستلامها من القنصلية السعودية"!!!... .

والنقطة الرابعة التي تؤكد التخطيط للسيناريو سلفا ان خاشقجي يصل تركيا مع إقتراب موعد اطلاق سراح القس الامريكي المتهم بالتجسس على تركيا، ويغادرها بعد أن يتأكد مخططوا السيناريو من التخلص من خاشقجي، الذي وجد "... الأشخاص الذين قابلوه في القنصلية... " مستعدين لاستقباله، حسب بيان النيابة العامة السعودية

فلماذا يجد خاشقجي اشخاصا يقابلونه في القنصلية، والمعروف ان كل مراجع يواجه موظفا واحدا ليطرح عليه قضيته ويطلب منه المساعدة. والبيان يؤكد انه "... يجد الأشخاص الذين قابلوه..." أي انهم كانوا على علم بقدومه، بل وكانوا ينتظرونه على اشد من الجمر. 

أما النقطة الخامسة والتي تؤكد دون اي جدل العزم على قتل خاشقجي فور دخوله قنصلية بلاده بإسطنبول التركية، هي حدوث "الشجار" بينه وبين الأشخاص الذين قابلوه حسب رواية النيابة العامة التي تقول:

"أن المناقشات التي تمت بينه وبين الاشخاص الذين قابلوه اثناء تواجده في قنصلية المملكة في اسطنبول، أدت الى حدوث شجار و إشتباك بالأيدي معه، مما أدى الى وفاته".

ترى لماذا المناقشة مع مواطن (ومع هذه المكانة الإعلامية، والمنزلة والقرب السابق من السلطة الحاكمة حتى قبل عام تقريبا) وجاء لطلب وثيقة من قنصلية بلاده؟

وحتى لو سلمنا انه ارتكب خطأ كلاميا في تعامله مع الموظف المكلف الرد عليه في قضيته، فلماذا يصبح الاشتباك بالايدي بشكل يؤدي الى وفاته؟

وهل ان الاشتباك بين شخص و آخر أو آخرين يمكن أن يؤدي الى قطع الرأس وإلى غيرذلك من القضايا المقززة التي تناقلتها وسائل الاعلام بالصوت والصورة خلال الإسبوعين الماضيين؟

نظرة سريعة الى تاريخ شبه الجزيرة العربية والمتسلطين عليها حاليا، تعيد الى الأذهان الصور التاريخية التي كان صعاليك الجاهلية يألفوها في غاراتهم المباغتة على أقرانهم، ورغم نزول الرسالة الإسلامية المبتنية على اساس العفو والسماح إلا أن المتشبثين بثوابت الجاهلية العمياء باتوا ملتزمين بها، حتى ظهرت بوادرها في غزوة احد وما جرى لسيد شهداء الصدر الاول للإسلام عم النبي المصطفى (ص) حمزة بن عبد المطلب من تقطيع الأوصال وشق الصدر وقضم الكبد، عسى أن يشفي غليل الحقد، لكن هيهات خاصة وان المثل العربي يؤكد: "إن الطبيعة التي في البدن لايُغيرها إلا الكفن".

والتاريخ يقول ان القوم ابناء القوم واذا ما اردنا الاشارة الى السيناريوهات ومحاولاتهم لمخادعة الرأي العام للتغطية على جرائمهم، فإنها لاتعد ولاتحصى، ونكتفي بالإشارة الى الجرائم التي يرتكبوها كل عام في اقدس الأوقات لدى الامة الاسلامية "مواقيت الحج" تحت ذرائع مختلفة، مثل: حصول تدافع للحجيج وسقوطهم من جسر رمي الجمرات، او حصرهم في الأنفاق ووقوع الكثير من الحجيج بين قتيل وجريح بذريعة تدافع الحجاج، او فتح النار عليهم مباشرة كما حدث عام 1986 للحجاج الابرياء الذين كانوا في أداء شعيرة البراءة من المشركين، التي ينص عليها القرآن الكريم، والى غير ذلك من عمليات التدافع التي تحصل بسبب حضور وفد اميري او ملكي أو ... لمناطق حضور الحجاج كل عام ولن يعالجوها.

وآخر هذه الجرائم جريمتهم في إغلاق احد الشوارع الموصلة بين مخيمات منى ومنطقة الجمرات عام 2015 وحصر الحجاج تحت حرارة الشمس الحارقة دون تقديم اي مساعدة لهم وكاميراتهم تصور الحدث الفظيع لساعات طويلة حتى اصبح الحجاج، جثثا هامدة سلقتها اشعة الشمس، وقتلهم العطش الشديد، تحت مرأى ومشهد الامراء الملكيين.

ويبدو أن قضية الخاشقجي لن تنتهي عند هذه الحدود، وأن القادم على مملكة السطوة والسياط، سيكون أشد وطأ عليها، ما سيدفعها لتقديم المال وكلما لديها لحماتها، عسى ان يعولوا للمحافظة على بقائها فوق سدة العرش، بل انها ستعمل المستحيل من اجل ذلك بما فيه الاعلان عن قيام علاقات مباشرة بين ولي العهد الذي تحاول الاطراف السعودية تبرأته كيان الاحتلال الاسرائيلي ليتمكن الأخير ومن خلال استحلاب البقرة الحلوب إبقائهم عشية اخرى في السلطة.

لكن كيف سيكون موقف وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية من عمليات تبرئة النظام ورموزه من هذه الجريمة؟ وهل ان الموقف سينتهي بهذا المقام، أم إنه سيكون النافذة التي تطل على فتح ملفات رئيسية تظهر الجرائم التي يرتكبها القتل بالسيف إزاء المواطنين والهجوم بالطائرات على الجيران وتجويع من لم يجرؤ النظام الحاقد على الوصول اليهم.

والأيام القادمة ستروي الحقائق كما تسرد كتب التاريخ لنا قصص الأنظمة الدموية التي لم يبق منها إلا العار والشنار.

*عبدالهادي الضيغمي