عن الغرب والثورات العربية

عن الغرب والثورات العربية
الثلاثاء ٢١ يونيو ٢٠١١ - ١٢:١٣ بتوقيت غرينتش

ثمة عدد من التساؤلات الملحة، بعضها قديم وبعضها جديد، تطرحها الثورات العربية الراهنة في ما خص علاقتنا بالغرب. تحتاج هذه التساؤلات الى تفكير جديد يتطلب العمق والروية ورؤية الأمور بتعقيداتها المركبة والبعد عن الشعبوية والشعاراتية التي سرعان ما تسيطر على الخطابات العربية وممثلي النخب والتيارات السياسية العربية عند التحدث عن العلاقة مع الغرب.

ابتداء وكإطار تأملي وقياسي راهن ومستقبلي لما قد تؤول إليه العلاقة يمكن إيجاز شكل العلاقة (أو العلاقات) التاريخية بين العرب والمسلمين والغرب في واحد من الأنماط التالية أو خليط منها: الأول هو نمط الحروب والعداء المتبادل وهذا يذهب بعيداً في التاريخ من حروب الفتوح الإسلامية، إلى الحروب الصليبية، إلى التوغل العثماني في الغرب، ثم عهود الاستعمار الغربي. النمط الثاني يضم أنواعاً من التحالف السياسي والعسكري والتعاون التجاري خاصة عبر البحر المتوسط.

في معظم الحقب التاريخية كانت العلاقة مركبة ومتشابكة، فقد تكون حربية وعدائية مع طرف من أطراف العالم العربي والإسلامي، فيما تكون تحالفية وتعاونية مع طرف آخر. تنوع وتشابك العلاقة وتذبذبها بين الحرب والسلام، السيطرة والتبعية، الندية والتكافؤ، هو ديدن تاريخ السياسة في عالمنا، وهو تاريخ بُني على منطق القوة والغلبة للحضارة المسيطرة. هناك فائض قوة عند كل إمبراطورية من الإمبراطوريات عبر التاريخ يدفعها إلى التوسع والسيطرة على الآخرين واحتلالهم وإخضاعهم. كل إمبراطورية تبرر توسعها بحسب مسوغات ظرفية معينة: دفاعية، ايديولوجية، دعوية، تجارية، إلخ. لكن المحرك الأساسي لكل توسع إمبريالي هو فائض القوة الذي يندفع إلى ما وراء حدود الدولة أو الإمبراطورية المعنية.

بقي الحال هكذا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وتوافق القوى الكبرى على فكرة الأمم المتحدة والقانون الدولي وكلاهما مبني على الأقنوم الأساسي لشكل العلاقات الدولية الجديد في الكون وهو الاحترام المتبادل لـ «سيادة الدولة». هذا الانتقال العبقري في الفكر الإنساني لجم كثيراً من نزوات ونزعات فائض القوة التي قد تتفاقم داخل دولة معينة وتغريها بالتوسع. وعلى رغم أن هذا التطور لم يكبح الحروب ولم يوقف التوسع، إلا أنه اعتبره غير قانوني ورفض ما ينتج منه من احتلال أو تغيير في الشكل الأساسي للشعب أو الدولة الواقعة تحت الاحتلال. للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية يتطور قانون كوني لا يقوم مباشرة على منطق القوة ومنطق احتفاظ الغالب بما استحوذ عليه في الحرب.

لا تزال هناك اختلالات كبيرة جداً في هذا الشكل المبني أيضاً على مصالح القوى الكبرى، الغربية تحديداً، فهناك أنواع خفية نشأت من التوسع والاستعمار غير المباشر، لكن في المجمل العام ترسخت معايير كونية حول الرفض الجماعي للاحتلال والسيطرة على الغير، وسرقة ثروات الشعوب واستغلالها. والشيء المهم الذي تطور بموازاة ترسخ تلك المعايير تمثل في استقواء المجتمع المدني (غير الحكومي) المعولم وهو شبكات المنظمات الإنسانية والحقوقية العابرة للحدود والتي تراقب انتهاكات الحكومات لمعايير الحقوق الفردية والجماعية للإنسان.

علاقة ما سبق بالحديث عن الغرب والعرب والثورات العربية هو وجود مناخ وشكل قانوني يوفر بداية كسر نمط العلاقة التاريخي بين الطرفين من ثنائية غالب ومغلوب، مسيطر وتابع، إلى نمط علاقة صحية قائمة على الندية والمصالح المشتركة. وقد يُقال هنا إن هذا المناخ وجد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام الأمم المتحدة، فلماذا لم تتطور العلاقة وفق النمط الصحي الندي المذكور هنا؟

الجواب على هذا السؤال مركب ويحتاج مساحة أوسع من المتاح هنا، لكن لتبسيطه يمكن القول إن ثلاثة عناصر أفسدت العلاقة وحشرتها في خانة العداء والسيطرة والتبعية، قضت حتى على أية بذور سابقة كانت قد أنتجت ميلاً عربياً تحديثياً متصالحاً مع الغرب في مطالع القرن الماضي. أول هذه العناصر الثلاثة تمثل في زرع إسرائيل في قلب العالم العربي والدعم الغربي للمشروع الاسرائيلي، والثاني هو استمرار نزعات التوسع والسيطرة واتخاذها أشكالاً جديدة على رغم قيود الأمم المتحدة والقانون الدولي، والثالث هو دعم الغرب لأنظمة حليفة في العالم العربي واعتبار ذلك الدعم هو حجر الأساس لتأمين شبكة مصالحه في المنطقة. تشير هذه العناصر إلى المشوار الطويل الذي على الغرب أن يقطعه من أجل تحويل العلاقة إلى علاقة مع الشعوب وليس مع الأنظمة.

في الوقت ذاته هناك مسافة طويلة يجب أن تُقطع من قبل العرب وبخاصة النخب العربية والتيارات الفكرية والسياسية إزاء نمط وطبيعة العلاقة مع الغرب. ويمكن توضيح معالم هذه المسافة عبر استدعاء عدد من الأسئلة الجوهرية التي مثلت مكونات الاستنكار الرئيسية في الخطاب العربي إزاء الغرب الاستعماري المكشوف أو المستتر.

السؤال الأول يحوم حول دأب الخطاب العربي على إدانة الغرب السياسي وحكوماته ومطالبته بأن يقف الغرب إلى جانب الشعوب. إذن، ماذا سيكون موقف هذا الخطاب إذا قام الغرب بهذا التغيير، وانحاز إلى الشعوب وقرر أن الحفاظ على مصالحه في المدى الطويل يتطلب علاقة قوية مع الشعوب؟ علينا أن نتذكر هنا أن العلاقات بين الدول والشعوب تقوم على المصالح وليس على أسس الجمعيات الخيرية، أي أن السؤال لا يكمن في ما إن كانت للغرب مصالح في المنطقة أم لا، أو أن للعرب مصالح في الغرب أو معه، فهذا بداهة سياسية وإعادة اكتشافها تنم عن سذاجة، بل إن السؤال هو في كيفية تحقيق الطرفين هذه المصالح بندية واحترام ومن دون سيطرة أو استغلال.

السؤال الثاني يحوم حول مرارة التجربة التاريخية والإرث الكولونيالي الثقيل والذي يشكل مصادر مفهومة للنقمة والغضب والكراهية في الخطاب العربي إزاء الغرب السياسي (وبخاصة مع استمرار تطرف المشروع الاسرائيلي والدعم الذي يتلقاه من الغرب). وقد انتقلت تلك المرارة وتمثلاتها السياسية من حالة الظرفية التاريخية إلى حالة الايديولوجيا السياسية والفكرية. أي أن العداء للغرب السياسي أصبح مكوناً من مكونات أطروحات ايديولوجية عربية، بحيث لو تم نزع هذا المكون لتفككت جوانب أساسية من تلك الأطروحات.

على سبيل المثال تتأسس أركان مهمة من الفكر القومي العربي، والفكر الحركي الإسلامي، والفكر اليساري، على مداميك العداء للغرب. وفي الكثير من المدونات الايديولوجية والأدبيات المنشورة لا يوجد نقاش حول ظرفية هذه المداميك وكونها مرتبطة بسياسات محددة، قد تطول زمنياً أو تقصر، بل تم التنظير لتأبيدها وترقيتها إلى مستوى فلسفي ونظري يتجاوز التاريخ والظرف الموضوعي.

لا تذكر تلك المدونات «الخيار البديل» إذا زالت الظروف التي حشرت العلاقة في خانة العداء. وهذا يفسر الارتباك الشديد الحادث حالياً في كثير من الخطابات العربية إزاء التدخل الغربي الداعم لهذه الثورة العربية أو تلك، بهذا المقدار أو ذاك. فمثل هذا الدعم يزعزع الحدود المعروفة لـ «خانة العداء» ولا يتسق مع توقعاتها.

تحول ذلك الارتباك إلى نظرة اتهامية وإزدرائية للثورات العربية والحراك الشعبي الذي لم يجد الغرب بداً من مناصرته أو على الأقل الوقوف على الحياد إزاءه. نُظر إلى هذا «التوافق المصلحي» بين هذا الحراك الشعبي العربي أو تلك الثورة والغرب على أنه تآمر لا أكثر ولا أقل. والثورات التي قامت لأسباب تراكم القمع والقهر والفساد وحكم العائلات في تونس ومصر، وليبيا وسورية والبحرين واليمن، أصبحت فجأه ثورات «عميلة» لأنها إذ اضطر الغرب إلى دعمها، رفعت من سقف الانكشاف الأخلاقي في ما لو واصل الغرب مساره التقليدي في دعم أنظمة تلك البلدان.

ولمحاولة إظهار تماسك بعض تلك الخطابات فإن الكثير كتب ولا يزال يكتب عن «أهداف ومصالح» التدخل الغربي لدعم الثورات، وأن ذلك يتم بغية أن يكون الغرب قريباً من الشكل السياسي الذي تنتجه هذه الثورات. وهذا يعزز من الارتباك ويكشف أمرين عوض أن يعكس تماسكاً مفترضاً. فأن يكون التدخل الغربي لصالح الثورات مبنياً على تحليل مبني على المصالح فهو اكتشاف يجلب خجلاً على من اكتشفه أكثر من أي شيء آخر.

فالغرب، والشرق أيضاً، ليسا جمعيات خيرية، بل دولاً تبحث عن المصالح. وأما أن يقود تحليل مآلات تلك المصالح الغرب لأن يقتنع بأن تحقيقها يفترض الاصطفاف مع الشعوب وليس الأنظمة فهو ما كان معظمنا إن لم يكن كلنا يطالب به. يعزز هذا الانتقال ما سبقت الإشارة إليه من انتشار واستقواء أشكال المجتمع المدني المعولم الذي يعمل على ترويض المصالح السياسية وفرض المعايير الأخلاقية والحقوقية على الحكومات وأشكال التسيس الدولي.

فإذا كانت المصلحة السياسية هي حجر أساس العلاقات الدولية، فإن تلك المصلحة لم يعد بإمكانها أن تتحرك في فراغ ومن دون ضوابط ومعايير أخلاقية وعرفية. وهكذا فإن ميدان الكفاح الأممي المبني على المبادئ والحقوق يتركز في تضييق الهوة بين السياسة والأخلاق، وفي كشف التناقضات وازدواجية المعايير وسوى ذلك، بما يفرض على الغرب مزيداً من الاصطفاف إلى جانب الشعوب المنتفضة، ومزيداً من الحيرة على من يريدون للغرب أن يبقى في صف الدكتاتوريين.

*خالد الحروب

كلمات دليلية :