العالم - السودان
يبدو أن رهان العسكريين في السودان على الوقت، لإخماد جذوة الحراك الشعبي الرافض للانقلاب، لا يؤتي ثماره. إذ استطاع مئات الآلاف من المحتجّين، أوّل من أمس، الوصول إلى باحة القصر الرئاسي في الخرطوم، والذي يمثّل المكان الأكثر تحصيناً في البلاد، بعد مقرّات القيادة العامة للجيش، وحاصروه لعدّة ساعات، قبل أن تزيد السلطات الأمنية جرعة القمع والعنف من أجل تفريق الجموع. وبذلك، حقّق التحرّك الذي دعا إليه «تجمع المهنيين» و»تنسيقيات لجان المقاومة»، بشكل رئيس، تخليداً للذكرى الثالثة لانتفاضة كانون الأول، تحت عنوان «مليونية تحرير الخرطوم»، أكثر مما هو متوقّع منه، ببلوغ المحتجّين القصر الرئاسي، ما يمثّل سابقة في تاريخ الهبّات الشعبية في البلاد.
وكان رئيسا مجلسَي «السيادة» والوزراء استبقا الفعالية بمحاولة التأثير عليها؛ إذ دعا رئيس «السيادي»، عبد الفتاح البرهان، في كلمة بالمناسبة، إلى «تجاوز الخلافات والتسامي والتسامح ووحدة الصف واستنهاض الهمم، وإعلاء القيم الوطنية من أجل استكمال تأسيس الدولة السودانية القائمة على المواطنة والحرية والعدالة»، فيما توالت تغريدات رئيس الحكومة، عبدالله حمدوك، تارة بدعوة كلّ مَن سمّاهم بـ»المؤمنين بالتحوّل الديموقراطي» إلى التوافق على «ميثاق سياسي يعالج نواقص الماضي، وينجز ما تبقّى من أهداف الثورة والانتقال الديموقراطي»، وطوراً بحضّ «الثوار والثائرات على التزام السلمية»، والتحذير من «مخاطر تهدد أمن البلاد».
على أن الشارع المعارض لم يَعُد يأبه لما يصدر عن البرهان وحمدوك؛ «فقد خبِر مثل هذه الدعايات التثبيطية»، وفقاً لتعبير المحلل السياسي، محمد عبد الباقي فضل السيد. ويشير فضل السيد، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «تصريحات رئيس الوزراء لم تَعُد تعني الشارع في شيء، عقب توقيعه الاتفاق السياسي مع قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان»، مضيفاً أن حمدوك «أصبح هدفاً للثوار باعتباره شرعن الانقلاب من خلال اتفاقه مع البرهان». أمّا بالنسبة إلى المجلس المركزي لـ»قوى الحرية والتغيير»، الحاضنة السياسية السابقة لرئيس الوزراء وشريك المكوّن العسكري في الحكومة الانتقالية التي أطيح بها في 25 تشرين الأول، فعلى رغم دعوته ومساندته ومشاركة بعض كبار قادته في ما سُمّي «موكب تحرير الخرطوم»، إلا أنه لم يَعُد يحظى بقبول في «الشارع الثوري».
بناءً عليه، يرجّح فضل السيد أن يكون انسحاب «حمدوك من المشهد السياسي وشيكاً»، عازياً ذلك إلى أن رئيس الحكومة، وبعد مُضيّ شهر على إبرامه اتفاقاً سياسياً مع قائد الانقلاب، «عجز عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، كما عجزت السلطة القائمة عن ضبط الأمن وإيقاف الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الضرورية، وترافق ذلك مع تردي الخدمات الصحّية إلى أدنى مستوى لها منذ سقوط نظام عمر البشير، فيما تراجع الجنيه بشكل حادّ أمام الدولار». وهذا ما يمكن ربطه بالرسائل التي خرج بها حمدوك عبر تغريدات على موقع «تويتر» قبل ساعات من احتجاجات الأحد، حيث دافع عن الاتفاق مع البرهان بأنه سعى «عبره لوقف عمليات الاعتقال السياسي وإطلاق سراح المعتقلين من القادة السياسيين، ليضطلعوا بمسؤولياتهم الوطنية والتاريخية في العمل مع بقية قوى الثورة والتغيير لإكمال ما تعطّل من مهام، ولحماية حق الثوار والثائرات في التعبير السلمي عبر مختلف أدواتهم»، ما فُهم على أنه محاولة من حمدوك لإقناع معارضي الاتفاق بالعودة إلى الشراكة مع العسكريين.
ودأب رئيس الحكومة، منذ عودته إلى منصبه، على التحذير من أن استقرار السودان ووحدته في خطر، والمناداة بضرورة التوافق على ميثاق سياسي لحماية مستقبل البلاد، لكنه في الوقت نفسه لم يتقدّم بمبادرة واضحة وعملية لتحقيق ما يدعو إليه. وفي هذا الإطار، أعلن المجلس المركزي لقوى «إعلان الحرية والتغيير» أنه لم يلتق بحمدوك منذ إعادته إلى منصبه، وأنه «ماضٍ مع الشعب لدحر الانقلاب واستعادة المسار الديموقراطي»، ما يمثّل تساوُقاً مع الخطّ الذي يقوده كلّ من «تجمع المهنيين» و»لجان المقاومة». وكان المتحدث باسم التجمع، مهند مصطفى النور، أكد، في تصريحات صحافية، أن «التجمع طرح أمام قوى الثورة إعلاناً سياسياً جديداً لاستكمال الانتقال الديموقراطي»، موضحاً أن «هذا الإعلان سيمثّل أرضية لتأسيس مجالس محلية لتصبح نواة لتأسيس المجلس التشريعي (البرلمان) الذي سيقوم بتعيين رئيس وزراء للحكومة المدنية الانتقالية المرتقبة»، ما يعني أن حمدوك أصبح خارج حسابات «تجمع المهنيين» وبقية «القوى الثورية».
من جهتها، ترى المحللة السياسية، درة قمبو، أن «الثوار أضاعوا فرصة سانحة لتسجيل هدف حاسم، كان يمكن له أن يقضي على الانقلاب المنهك والمترنّح، وذلك بسبب غياب التنسيق بين قوى الثورة». وتضيف، في تصريح إلى صحيفة «الأخبار»، أن «لجان المقاومة قامت بدورها المعتاد، وصمدت حتى آخر لحظة، وكذلك كوادر الحرية والتغيير، لكن الإعلان المتأخر عن تحويل الاحتجاجات إلى اعتصام مفتوح في باحة القصر، فوّت فرصة الاستفادة من الحشد الضخم الذي ظلّ مسيطراً على الأرض لوقت طويل». وتعتقد قمبو أنه لتسريع إسقاط الانقلاب الذي «يبدو في أضعف حالاته»، «تحتاج أطراف الشارع الثوري إلى تنسيق مواقفها قبل 25 كانون الأول»، تاريخ الموجة المقبلة من الاحتجاجات التي دعا إليها «تجمع المهنيين» و»القوى الثورية» الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن «البرهان ومجموعته لن يستسلموا ولن يسلّموا السلطة إلى المدنيين بسهولة، وعلى القوى المدنية والثورية وضع خلافاتها جانباً من أجل تسديد الضربة القاضية للانقلاب في الموجة المقبلة».