دستور على مقاس الرئيس.. سعيد حاكما بأمره

دستور على مقاس الرئيس.. سعيد حاكما بأمره
السبت ٠٢ يوليو ٢٠٢٢ - ٠٥:٥٦ بتوقيت غرينتش

بعدما أحاطها بكثير من الغموض، ومنع النقاش حولها إلا في دائرة ضيقة من الخبراء معينة من قبله، أخرج قيس سعيد مسودة دستوره التي سيعرضها على الاستفتاء أواخر الشهر الحالي.

العالم - تونس

مسودة لعل أهم ما فيها أنها تؤسس لحكم الفرد المطلق؛ لا لكونها أسندت صلاحيات واسعة إلى الرئيس بصورة عشوائية فحسب، بل بفعل تعطيلها أيضا السلطات الأخرى، وإغلاقها الأبواب على أي إمكانية لمراقبة رأس الهرم ومحاسبته.

لم يفوت الرئيس التونسي، قيس سعيد، توطئة الدستور التي تضعه في سياقه العام، بوصفه نصا تأسيسيا وثابتا، من دون أن "يفلسف" قرارات 25 تموز القاضية بتجميد البرلمان وحل الحكومة؛ إذ ربطها بحدث جلل هو "الانتفاضة" (التي حدد تاريخها مجددا بـ17 كانون الأول 2010 وليس 14 كانون الثاني 2011)، مذكرا بأن العقد الذي أعقب الانتفاضة "اتسم بالفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ والمال السياسي"، وهو ما أدى إلى تحركات شعبية في 25 تموز، أقفل على إثرها سعيد قوس تلك "العشرية". وإذ اتخذ الرئيس من الدستور الجديد مطية لإعادة النظام الرئاسي، فهو كان وفيا لأفكاره التي ما فتئ يروجها منذ ما قبل فوزه في الانتخابات الرئاسية الماضية. وعلى رغم كونه أستاذ قانون دستوري، مدركا أن الكتابة القانونية كتابة حذرة للغاية ولها خصوصيتها، وأن أي كلمة غامضة فيها قد تهدر حقوقا وتخلق نزاعات مجتمعية، إلا أنه لم يمتنع عن استخدام توصيفات أدبية في العديد من المواضع.

يقطع سعيد، عمليا، مع المدرسة التي تحسب للكلمة ألف حساب ولا تضعها إن لم يكن لها تأصيل قانوني، ويستند إلى مدرسة مشرقية إنشائية، وهو ما تجلى بوضوح في بنود كثيرة. أولا، أكدت المسودة البعد العربي القومي للبلاد، مسترجعة لفظ "الأمة العربية"، وفي الوقت نفسه نصت على البعد الإسلامي بفصل جديد يؤكد اعتماد "مقاصد الإسلام". وإذ لم يرض ذلك الإسلاميين، على اعتبار أن الفصل الأول ألغى النص على أن "الإسلام دين الدولة"، فقد تلقف العلمانيون الفصل الخامس، والمتضمن الإشارة إلى الهوية الإسلامية، بصيحات فزع. وما بين الرأيين، جرى تمرير الفصل الأهم، والذي جاء فيه أن "الدولة وحدها راعية للدين"، بما يعني سندا دستوريا لإمكانية حل الأحزاب الدينية، أو أي حزب يتدخل في المسألة الدينية. ثانيا، جاء باب الحريات شبه مثالي، مثبتا الحقوق والحريات التي ناضل من أجلها التونسيون، ولكن سعيد ترك بابا لتعطيل تلك "الامتيازات" بدعوى "الآداب العامة".

أما الأهم، فبقية الأبواب التي أقرت قيام نظام رئاسي فج، لا رقابة فيه على الرئيس ولا رادع له، وحتى القليل من "ميكانيزمات" الرقابة المقترحة، تواجهها "ميكانيزمات" مضادة لتجاوزها، فيما رئيس الحكومة بات مجرد موظف لدى الرئيس لا يحق له حتى اقتراح مشاريع قوانين وعرضها على البرلمان، علما أن الديموقراطية التي تسند صلاحيات واسعة إلى رئيس البلاد، تخلق مؤسسات مضادة مهمتها ردعه ومراقبته والتأسيس للتوازن معه. وبخصوص السلطة التشريعية، فهي مفرغة من أي صلاحيات حقيقية، باستثناء تلك المتعلقة بسن القوانين، والتي أصبحت تقاسمها إياها مجلس الجهات والأقاليم - في ما يمثل غرفة ثانية للبرلمان -، التي أعاد سعيد إحياءها حتى يكون لها دور في رسم السياسات التنموية العامة وإقرار مشاريع الموازنات. كذلك، سحبت من النواب المستقبليين حصانتهم، وحظرت عليهم "الانتدابات"؛ أي أن من ينتخب عن حزب معين أو كتلة معينة لا يجوز له أن ينضم إلى أخرى بعد انتخابه، منهيا بهذا ما اصطلح على تسميته "مركاتو البرلمان التونسي"، والذي كان فيه النواب يبدلون ولاءاتهم لصالح الحزب الأثرى. وانتهاء إلى المحكمة الدستورية، فلم ينص عليها دستور سعيد إلا خجلا، في حين أن تركيبتها وصلاحياتها يبعثان على الاعتقاد بأنها ستكون مجرد ذراع من أذرع الرئاسة؛ إذ إن الرئيس هو من يسمي القضاة، والأقدم بينهم يكون عضوا في المحكمة.

وعلى رغم أن مشروع سعيد لا يزال يمضي بثبات وسط كثرة الأصوات المعترِضة عليه، إلا أن دستوره المعلن في ساعة متأخرة من مساء الجمعة، والذي يؤسس لـ"أوتوقراطية" جديدة في تونس، قد لا يمر بهدوء وفق ما يشتهيه، حتى لو استطاع تنظيم الاستفتاء المنتظر أواخر الشهر الحالي، والذي تقاطعه شريحة واسعة من الأحزاب والمنظمات.