العالم - الإحتلال
والحملة تحاول النيل، ليس من الأشخاص المتهمين من وزارة خارجية الكيان الصهيوني فقط، بل العمل على تفكيك الوكالة التي تخدم نحو ستة ملايين لاجئ فلسطيني وبالتالي تدمير الشاهد الأممي على حق العودة التي تشكل قاسما مشتركا بين كل أطياف الشعب الفلسطيني لأكثر من 75 سنة.
أعدت وزارة خارجية الكيان الصهيوني ملفا لاثني عشر شخصا ادعت أنهم شاركو في هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على منطقة غلاف غزة.
وطلبت الأمم المتحدة تسلم نسخة من الملف ولم تلب وزارة الخارجية الطلب، وتم تسليم الأسماء فقط. قام المفوض العام للوكالة، فيليب لازاريني، بتعليمات من الأمين العام أنطونيو غوتيريش، بوقف تسعة موظفين عن العمل وتجميد عقودهم فورا.
فقد تبين أن اثنين من الموظفين المدرجة أسماؤهم غير موجودين وأما الثاني عشر فقد قتل. تلك هي القصة. ولنفترض صحة الخبر، أكثير على منظمة كبرى يبلغ عدد موظفيها 30 ألفا في كل من غزة والضفة الغربية بما فيها القدس، وسوريا ولبنان والأردن، ومن بينهم 13 ألفا يعملون في غزة أن تجد من بينهم 12 فاسدا أو منحرفا أو مرتشيا أو جاسوسا؟
لقد نشر الخبر صباح الجمعة 26 كانون الثاني/يناير قبل ساعات من إعلان محكمة العدل الدولية قرارها المتضمن للإجراءات الانتقالية حول حرب الإبادة التي يشنها الكيان على قطاع غزة استجابة للدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل". فهل التوقيت صدفة؟
تاريخ من التهم غير المؤكدة
ليس جديدا أن يتم اتهام موظفين أممين بالفساد ثم لا يجدون الدليل على ذلك. وأود أن أسرد بعض الأحداث التي عايشتها بنفسي.
• عام 1993 ذهبت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، مادلين أولبرايت، لمكتب الأمين العام بطرس بطرس غالي، لتؤكد له أن لديها الدليل القاطع على أن ثمانية موظفين يعملون مع طيران سكاي لينك المملوكة من الأمم المتحدة لتسهيل عمليات حفظ السلام، وهم متورطون في فساد يتعلق بالمشتريات.
فقام بطرس غالي بوقفهم عن العمل فورا وحجز رواتبهم. استأنف الموظفون الثمانية الحكم الذي اعتبروه جائراً. وبعد تحقيقات دقيقة وطويلة، تبين أن التهم غير صحيحة وأعيد الموظفون الثمانية إلى مواقعهم وتم التعويض عليهم. وبعدها اعترفت الولايات المتحدة بالصوت والصورة أن ليس لديها أي دليل على التهم.
• عام 2006 أصدرت السلطات الإسرائيلية بيانا أن إحدى سيارات الإسعاف التابعة للأونروا قد شوهدت وصورت وهي تنقل صواريخ لفصائل المقاومة.
وأصدر الأمين العام آنذاك، كوفي عنان، بيانا شديد اللهجة يدين العملية ويطالب بالتحقيق الفوري. وعندما تم التحقيق المفصل والقاطع، تبيّن أن الذي كانت تنقله سيارة الأونروا عبارة عن أثاث ومستلزمات مكاتب ملفوفة على شكل سجادة.
• بان كي مون، الأمين العام، أصدر بيانا قويا عام 2014 ضد ما سماه قيام نشطاء فلسطينيين بالاعتداء على مكان عبادة لليهود قرب الخليل، ليتبين، حسب تقرير مفصل في جريدة «هآرتس» أن خيمة كان يستعملها المستوطنون في مستوطنة قد شب فيها حريق لأسباب لا علاقة لها بالفلسطينيين.
• لكن فضيحة الدول الغربية الأكبر عندما اتهمت المفوض العام السويسري السابق، بيير كرينبول، عام 2019 باستخدام صلاحياته بطريقة غير صحيحة وتعيين صديقة له في مركز رفيع واتهامه بعلاقات غير شريفة مع بعض الموظفات.
فما إن تسربت أخبار التحقيق في الفساد، وقبل صدور نتائج التحقيق إنبرت نيكي هيلي، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة آنذاك، وجاسن غرينبلات، مبعوث ترامب لعملية السلام (أو صفقة القرن) وداني دانون، سفير "إسرائيل" في الأمم المتحدة، للتشكيك في الوكالة نفسها والمطالبة بتفكيكها وتبرير وقف المساعدات عنها وهو ما يؤكد أن هناك لعبة ما تم حبكها بدقة من داخل الوكالة بتعاون مشبوه مع بعض الموظفين.
وقد لحقت سويسرا وهولندا وبلجيكا بالركب فقررت وقف المساعدات عن الأونروا لكن الدول هذه تعرضت للانتقاد الشديد من قبل منظمات أوروبية إنسانية. الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، انحاز إلى جانب الدول المطالبة بمعاقبة المفوض العام، فقام بتعيين كريستيان ساوندرز لإدارة شؤون الأونروا، دون أن يطلب من كرينبول الاستقالة ما اضطره أن يستقيل في تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
بدأ التحقيق في مزاعم الفساد في آذار/مارس 2019. والغريب في الأمر أن التهم الموجهة للمفوض العام وواحدة من الموظفات تجاوزتهما ليوجه النقد اللاذع للوكالة نفسها أي بدل معاقبة الأشخاص المتهمين بالفساد، إن ثبتت التهم ضدهم، كانت المؤامرة أن يدمروا الوكالة نفسها.
ومتى؟ بعد أن استطاع كرينبول أن يسدد عجز الميزانية التي خلفها قرار ترامب بوقف المساهمة الأمريكية في الميزانية. استمرت التحقيقات لأكثر من سنة لتكون النتائج براءة كرينبول من جميع التهم التي نسبت إليه. لكن أخبار البراءة لم يسمع بها أحد أما الأخبار الكاذبة والملفقة فأصبحت مادة دسمة لتشويه الوكالة والنيل منها ومحاولة تدميرها.
أسباب الاستهداف الصهيوني والأميركي
يعود إصرار الاحتلال الصهيوني وداعمه الأميركي على استهداف "أونروا"، والسعي إلى تقويضها كليا، أو تغيير طبيعتها ودورها بالحد الأدنى إلى أسباب عديدة أهمها:
1- وكالة أممية: تأسست الوكالة بناء على قرار أممي، كما تجدد الجمعية العامة للأمم المتحدة ولايتها دوريا، غالبا كل ثلاث سنوات، لذا فهي وكالة أممية تعيد تذكير دول العالم أجمع بالمأساة الفلسطينية، وبحجم الظلم المرتكب بحق شعب فلسطين، وبمسؤولية الاحتلال عنهما.
2- التنصل من تطبيق القرار 194: يسعى الاحتلال الصهيوني إلى التنصل من تطبيق القرارات الدولية المعنية بحقوق شعب فلسطين الأصلي، وفي مقدمتها القرار 194، الذي ينص صراحة على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم". إذ يساهم تقويض "أونروا" في تلاعب الاحتلال بتعريف اللاجئ الفلسطيني، استنادا إلى تعريف اللاجئ في ميثاق اللاجئين 1951، بدلا من اعتماد تعريف "أونروا" للاجئ الفلسطيني.
وهنا بينما تعرف وكالة "أونروا" اللاجئين الفلسطينيين بـ"هم أولئك الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين يونيو/حزيران 1946 ومايو 1948، والذين فقدوا منازلهم ومورد رزقهم نتيجة حرب عام 1948... إن أبناء لاجئي فلسطين الأصليين والمتحدرين من أصلابهم مؤهلون أيضا للتسجيل لدى أونروا"، أي شمل تعريف "أونروا" للاجئ الفلسطيني أبناء اللاجئين والمتحدرين من أصلابهم، إلا أنه ميثاق اللاجئين 1951 يحرم اللاجئ من توريث وضعه القانوني وحقوقه لنسله، وفي مقدمتها حقهم في العودة والتعويض من بعده، كذلك تنتفي صفة اللجوء وفق هذا الميثاق في حال حصول اللاجئ على جنسية دولة أخرى، وأصبح يتمتع بحمايتها، وبالتالي يفقد حقه في العودة والتعويض في هذه الحالة.
لهذا يسعى الاحتلال إلى حل "أونروا"، أي إنهاء دورها ووجودها، كي ينهي معها تعريف الوكالة للاجئ الفلسطيني، عبر استبداله بتعريف ميثاق 1951 المجحف بحقّ اللاجئين عموماً.
أخيرا، وعلى الرغم من سجلات "أونروا" ووثائقها، يرفض الاحتلال الإقرار بأرقام "أونروا" التي تحصي اللاجئين الفلسطينيين، إذ يدعي الاحتلال أن مجمل لاجئي فلسطين الأحياء اليوم لا يتجاوز عددهم الـ200 ألف لاجئٍ فلسطيني، وذلك استنادا إلى تعريف ميثاق 1951، الذي يحرم نسل اللاجئ من صفته القانونية، ومن حقّهم الإنساني والقانوني في العودة والتعويض.
3- الكيانية/الهوية الفلسطينية: تمثل وكالة "أونروا" إطاراً مؤسسياً جامعاً لشريحةٍ واسعة من الفلسطينيين، إذ تقدم خدماتها لمجمل المخيمات داخل فلسطين وخارجها، الأمر الذي ساهم في حفظ الهوية الفلسطينية وتكريسها خصوصاً في مخيمات اللجوء داخل الدول المستضيفة، التي راهن الاحتلال وداعموه على تماهي اللاجئين فيها مع المجتمعات المضيفة، وخسارتهم لهويتهم الوطنية الجامعة.
يدعي الاحتلال أن مجمل لاجئي فلسطين الأحياء اليوم لا يتجاوز عددهم الـ200 ألف لاجئٍ فلسطيني
طبعا لا تمثّل الوكالة العامل الرئيسي لنجاح لاجئي الشتات الفلسطيني في الحفاظ على هويتهم الوطنية، وعلى بنيةٍ وطنية واجتماعية فلسطينية، إذ ينسب هذا الفضل إلى عوامل ذاتية وموضوعية أخرى.
لكن وعلى الرغم من ذلك، حَمّل الاحتلال الصهيوني "أونروا" مسؤولية نجاح الفلسطينيين، وخصوصاً لاجئي الشتات، في الحفاظ على هويتهم الوطنية، بل وربما تعزيزها رغم طول مدّة غيابهم عن وطنهم الأصلي فلسطين، نتيجة تهجيرهم قسراً منه منذ نكبة عام 1948 على يد قوات الاحتلال الصهيوني وعصاباته المجرمة.
4- حفظ الذاكرة الفلسطينية: ساهمت وكالة "أونروا" في حفظ الذاكرة الوطنية الفلسطينية، تحديداً ذاكرة النكبة وما تبعها من جرائم الاحتلال الصهيوني، ومن مأساة الفلسطينيين المستمرة حتى اليوم، وهو ما يعتبره الاحتلال تهديداً وجودياً له، لاعتبارها جامعاً وطنياً، يحرّض الفلسطينيين على استعادة حقوقهم المستلبة منذ النكبة.
5- التأكيد على الحقوق الفلسطينية: يساهم تكوين وكالة أونروا القانوني، ومنظومتها التعليمية، ودورها الاجتماعي في التأكيد على جملةٍ من الحقوق الفلسطينية المشروعة، من حق العودة، إلى حق تقرير المصير، مروراً بالحق في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. الأمر الذي يجده الاحتلال تهديداً وجودياً له، كون الاحتلال في طبيعته الإحلالية والكولونيالية، قائما على تكريس إلغاء حقوق شعب فلسطين الأصلي.
هذا وتعامل الكيان الصهيوني مع الوكالة في البداية على أنها تقدم خدمات للاجئين الذين أخرجوا من ديارهم، ولو لم تكن موجودة لتحمل الإحتلال الإسرائيلي المسؤولية الأخلاقية والمادية عن مأساتهم.
ومن جهة أخرى ظل كيان الإحتلال يعتقد أن الوكالة ستساهم في مسألة التوطين، وبالتالي يختفي مصدر القلق الدائم للكيان. كما أن تأهيل الفلسطينيين وسعيهم للعمل بعيدا عن دول الطوق لبناء حياة جديدة مستقرة، يساهم أيضا في تخفيف الضغط وتأجيل تمرد اللاجئين على ظروفهم المعاشية في حالة إنسداد أفق الأمل.
إلا أن السياسة الإسرائيلية بدأت تتغير مع الانتفاضة الأولى، بعد أن بدأت الأونروا تقوم بدور أكبر من السابق من نوع عمليات الإيواء والتشغيل وتقديم القروض الصغيرة والتعويضات لأصحاب البيوت المهدومة، خاصة في قطاع غزة.
ومن الطبيعي أن يكون هناك تعاطف بين موظفي الأونروا المحليين والدوليين مع مأساة أبناء المخيمات، بسبب ممارسات الاحتلال.
وقد شوهد بيتر هانسن، المفوض العام الأسبق للأونروا، يبكي عندما زار بيت الشهيد الطفل محمد الدرة في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2000. فمورس الضغط على الأمين العام الأسبق كوفي عنان وأنهى تعاقده.
ثم عينت الأمريكية كارن أبو زيد وأبدت التعاطف نفسه مع معاناة سكان قطاع غزة، وحمّل الكيان الإإسرائيلي مسؤولية خرق الهدنة عام 2008 التي أبرمتها مصر بين المقاومة والكيان الصهيوني. ثم تم تعيين فيليب غراندي ثم بيير كرينبول والآن فيليب لازاريني، وكلهم أبدوا تعاطفا مع مأساة اللاجئين.
وبعد الانسحاب من غزة عام 2005 وضع الكيان الإسرائيلي نصب عينيه إسقاط الأونروا عن طريق تلفيق التهم بنقل الصواريخ في سياراتها، ومراقبة كل شخص أو متعاون أو سائق أو معلم يعمل مع الوكالة، وتطلب طرد من يبدي أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني.
كما قام بمهاجمة مدارس الأونروا في الحربين المدمرتين 2008-2009 "الرصاص المصبوب" و2014 "الجرف الصامد".
وقد أدانت الأمم المتحدة هذه الهجمات، التي قتل بسببها عشرات المدنيين، كما قتل 13 موظفا للأونروا في صيف 2014 وقامت الأمم المتحدة بالتحقيق في تلك الهجمات وطالبت [إسرائيل] بدفع تعويضات.
هذا من جهة وأما من جهة أخرى ،شهد مجلس الكونغرس الأميركي منذ عام 2012 حملات منظمة وشبه دورية تستهدف وكالة أونروا، تتهم معظمها الوكالة بإدامة الصراع العربي الصهيوني، وتعتبرها عقبة أمام جهود السلام، وتنتقد قصور دور الوكالة في إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، واصفة هذا القصور بـ"ازدواجية المعايير"، وذلك في سياق حملةٍ شرسةٍ أميركية وصهيونيةٍ تسعى إلى تقويض "أونروا" وإنهائها، أو على الأقل تغيير طبيعتها ودورها.
فمن الواضح أن الموقفين الأميركي والإسرائيلي متوافقان كليا بكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وتحديدا ما يتعلق بوكالة "أونروا"، رغم اختلافهما النسبي حول وسائل تحقيق أهدافهما، إذ عملت الولايات المتحدة في مراحل عديدة سابقة على توظيف الوكالة كأداة أممية تساهم في تكريس الأمر الواقع، أي سيطرة الاحتلال وتطهير أرض فلسطين عرقيا، عبر تكريس التهجير القسري للفلسطينيين، من خلال مشاريع التوطين اقتصادية الطابع.
ثم سعت الولايات المتحدة إلى توظيف الوكالة في خدمة الرؤية الأميركية لحل القضية الفلسطينية، عبر تهميش قضية اللاجئين، وتحديدا لاجئي الشتات الفلسطيني، من خلال مشاريع توطينهم في دول لجوئهم، أو دولةٍ ثالثة.
أخيرا، يعكس السعي الأميركي الحثيث اليوم لتقويض الوكالة وإنهائها بأسرع وقت ممكن، تقديرا أميركيا بأنها قد نجحت رفقة الاحتلال في تكريس الاحتلال كأمر واقع غير قابل للمساس، لذا فهي تعتقد أن المرحلة الراهنة تتطلب إزالة الوكالة نهائيا على اعتبارها شاهدا أمميا على المأساة الفلسطينية.
وفي إطار ماأعلنته 16 دولة في مقدمتها أمريكا تعليق دعمها للوكالة، رغم التحذيرات المتصاعدة من تداعيات كارثية لانهيار عمل الوكالة، فيرى محللون وخبراء أن التعليق في تمويل الوكالة "أونروا"، يهدف لإنهاء فكرة حق العودة ومواصلة خطة التطهير العرقي التي ينفذها كيان الإحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة ، وتحويل أنظار العالم عن قرار محكمة العدل الدولية التي رجحت ارتكابه جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.