أبعاد هزيمة الإمبراطورية الأميركية

أبعاد هزيمة الإمبراطورية الأميركية
الإثنين ٢٦ ديسمبر ٢٠١١ - ٠٩:٠٤ بتوقيت غرينتش

عندما قرَّرت الولايات المتحدة غزو العراق واحتلاله، اتخذت حكومتها تلك الخطوة بداية، لمحاولة فرض الهيمنة الأحادية على العالم وأقام مخططو هذه الحرب فصولها على أساس ترهيب جميع القوى الدولية المنافسة، وتمزيق صيغة الأمم المتحدة، وكل ما قامت عليه منذ تأسيسها من معادلات الشراكة في القرار ورسم الخيارات .

ذلك ما أعلنته حكومة الولايات المتحدة قبل الاحتلال و بعده ، بالإضافة إلى تأكيد اعتزامها إعادة تشكيل الشرق العربي تحت الهيمنة الاستعمارية وإقامة واقع إقليمي جديد يخدم الغايتين الحاسمتين في مشروع (القرن الأميركي) للمنطقة، وهما حماية «إسرائيل» بعد انكسارها في لبنان وضرب الدولتين المستقلتين الحاضنتين للمقاومة في المنطقة إيران وسورية وإخضاعهما، بل والسعي إلى تفكيكهما عبر دحرجة الفوضى.

أولا يتأكد السقوط الأخلاقي و الفشل الاستراتيجي الأميركي ، في استرجاع تلك اللحظة، بمقدماتها ونتائجها ، وهو ما يشكِّل القاعدة ووحدة القياس الحاسمة، التي يمكن بها الحكم على ما جرى خلال السنوات الثماني المنصرمة وما آلت إليه الغزوة الاستعمارية للشرق وما إذا كانت هزيمة أم لا.

عصابة الحرب المدعومة من اللوبي الصهيوني، حقَّقت غاياتها اللصوصية ، ولكن إذا ما وضعنا في الاعتبار كل ما لحق من خسائر بالحلف الاستعماري الغربي الصهيوني، منذ احتلال العراق، وخصوصاً في حربي لبنان وغزَّة ، وما تكبدته المقاومة العراقية و شعب العراق من دماء و تضحيات ، و ما لحق بالمحتل الأميركي من الضربات و الخسائر الموجعة ، يمكننا الاستنتاج أن شعوب الشرق التي قاومت بإرادة حرة ودافعت عن كرامتها وعن استقلالها قد ألحقت هزيمة تاريخية بالحلف الاستعماري وبالإمبراطورية الأميركية بالذات.

ثانيا نشرت وثيقة بايكر ـ هاملتون في خريف 2006 ( أي بعد هزيمة «إسرائيل» في لبنان و التي هزم فيها تحالف عالمي الذي ضمَّ ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة ) و تضمنت تلك الوثيقة حصيلة التقييم الاستراتيجي والسياسي الذي أجرته المؤسسة الحاكمة الأميركية وقد انتهت إلى استنتاج تلخصه كلمة واحدة هي: الفشل ، كما اتخذت السياسات الأميركية منذ ذلك الحين عنوانا يتيما هو " احتواء الفشل " أو الحد من الخسائر عبر اللجوء إلى إستراتيجية القوة الناعمة التي تعتمد حروب المخابرات ومنظومة العقوبات و هي اليوم تواجه عثرات وهزائم جديدة على ساحة الشرق.

ليس مصادفة ، انفجار الأزمة الاقتصادية المالية العالمية ، التي اندلعت فصولها من الولايات المتحدة و من صرحها المالي الأهم و مركز العولمة الأول في وول ستريت ، و حيث يجمع الخبراء على توقع موجة جديدة أشد تدميرا وهولا من الموجة السابقة ، وليس مصادفة أن يتزامن الهروب الأميركي من جحيم المقاومة العراقية مع الهزيمة الصارخة للمخابرات الأميركية في إيران ولبنان باعتراف أحد أركان الاستخبارات المركزية روبرت باير الذي أدار حروبها وشبكاتها ضد قوى المقاومة في الشرق أي ضد إيران وسورية وحزب الله منذ العام 1984 وتولى مسؤوليات كبرى أساسية في العراق ، و قد وصف السيطرة الإيرانية على طائرة التجسس الحديثة وكشف حزب الله للبنية القيادية للمخابرات الأميركية ، بالكارثة الشاملة داعيا لإلغاء محطة التجسس في بيروت ، في ضوء ما يؤكده الحدثان عن إمساك قوى المقاومة التي انتصرت على الغزو الاستعماري بقدرات تكنولوجية عالية جدا ، تجعل إستراتيجية القوة الناعمة و أدواتها في قبضة المنظومة المستقلة التي حققت الانتصار الباهر على الغزوة الاستعمارية.

ثالثا اندحار الاحتلال الأميركي من العراق هو الحدث الكبير الذي يؤسس لصورة عالم جديد بنهوض القوى المنافسة للإمبراطورية الأميركية على أساس التطلع إلى إرساء شراكة دولية متعددة الأقطاب ، وهو ما يعني هزيمة كاملة لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي طبقت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و التي بنيت على أساس شطب القوى المنافسة المحتملة في العالم، فروسيا متأهبة لفرض عودتها لاعباً أساسياً في المسرح العالمي بعد انطوائها لسنوات والصين تنزل أسطولها الحربي إلى المحيطات والبحار ، بعدما كانت توصف سابقا بأنها إمبراطورية برية ، وهي تتحضر للدفاع بقوة عن موقعها و عن مصالحها الدولية في وجه الأحادية الأميركية ، و كذلك فإن صعود القوى الدولية الجديدة كالهند ومجموعة أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا يؤكد الاستنتاج القائل بأن مركز الثروة والتكنولوجيا على سطح الكرة الأرضية ، ينتقل من الغرب إلى الشرق والجنوب ، أما في الشرق العربي الإسلامي ، فإن القوة الإيرانية الإقليمية باتت حقيقة ثابتة ، بعدما وضعت نقطة النهاية في جدل الملف النووي الإيراني منذ مفاوضات اسطنبول ، في حين تدخل سورية مرحلة التعافي من الأزمة التي عصفت بها بسد منافذ وأبواب التدخلات الأجنبية و هي تتحضِّر لقلب الطاولة على رؤوس المتآمرين و المتورِّطين.

رابعاً في هذا المشهد العالمي تحولت أوروبا الغربية إلى ملحق هامشي للولايات المتحدة ، و يهددها التفكك ، بعدما سخرت جميع إمكاناتها لمغامرات الحليف الأميركي المهيمن ، من خلال المنظومة الأطلسية ، بينما تترنح إسرائيل في مأزق عجزها الاستراتيجي ، وهي اليوم تعيش أسيرة القلق الكبير من تحرر القوة العراقية الفاعلة والمهمة اقتصادياً وتقنيا وانضمامها إلى كتلة الاستقلال والتحرر على الرغم مما يحضر للعراق بعد الهروب الأميركي من مشاريع استنزاف.

لن تعوض الهزيمة و لن تقلب المعادلة مجددا، المحاولة الأميركية الجارية لإقامة سد في وجه تيار الاستقلال والتحرر من الهيمنة ، عبر اعتماد تنظيم الأخوان المسلمين لإنتاج نخب حاكمة تلتزم بأمن إسرائيل وتخضع لشروط الهيمنة الغربية ، وفقا لما أعلنه جيفري فيلتمان من القاهرة عن الصفقة مع قادة الأخوان وما عبرت عنه تصريحات الغنوشي الأخيرة و بينما يبدو أن العلاقة بإسرائيل هي الثمن المدفوع مسبقا من حكام تونس وليبيا الجدد لطلب الرضى الأميركي.

إنه عالم جديد سوف يتبلور في مخاض الأشهر الأولى لعام 2012 وهي منطقة جديدة ستشق طريقها إلى فرز سياسي عربي عنوانه فلسطين و لن تقوى على منع تطوُّره لاحقاً جميع فتاوى قادة الأخوان عن تعهدات السلف وعن "الضيوف" الإسرائيليين في سفارة القاهرة ، ولا هذيان برهان غليون ولا تنظيرات عزمي بشارة عن الربيع الأميركي في بلاد العرب ، فعندما ستأزف ساعة الربيع الذي ستصنعه الجماهير العربية براية تحرير فلسطين وبقوة الثورة الاجتماعية التي ستدك منظومة التبعية والقهر، مخلفة كثيرا من الأيتام في ممالك ودول و مشيخات ستعصف بها الثورات الحقيقية الآتية.

*غالب قنديل?

كلمات دليلية :