صراع خفي بين أنقرة وواشنطن: إعادة تدوير "جهاديي داعش"

صراع خفي بين أنقرة وواشنطن: إعادة تدوير
الثلاثاء ١٠ يناير ٢٠١٧ - ٠٦:٥٠ بتوقيت غرينتش

في الـ4 من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أُعلن مقتل محمد الغابي (نسبةً إلى سهل الغاب) قائد "جيش التحرير". وعلى الرغم من أّن الغابي لا ُيعتبر أحد الوجوه الشهيرة إعلامياً٬ غير أن تميزه عن معظم قادة المجموعات المسلحة في سوريا. تصلُح قصة الغابي لتكون نموذجاً يوضح حجم التسابق بين أجهزة الاستخبارات٬ لا في الشأن السوري بشكل عام فحسب٬ بل وفي أدق التفاصيل المرتبطة بالمعارك والجهات المتحاربة٬ وفي سباق تسيير المجموعات وتوجيه دفة الحرب.

حتى أواخر عام 2015 لم يكن لدى محمد عبد الحي الأحمدي٬ المعروف باسم "محمد الغابي"٬ ما يميزه عن أقرانه من قادة المجموعات المسلحة٬ باستثناء تمتعه بشبكة علاقات "اجتماعية" واسعة في كثير من المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية٬ لا سيما في ريفي إدلب وحماة.
ينحدر الغابي من قرية قليدين (ريف حماة الشمالي)٬ وهو من مواليد عام 1983 .تقول مصادر معارضة إنه انشق عن الجيش السوري في تموز 2011 لينضم إلى صفوف "الجيش الحر". بدأ نشاطه العسكري من جبل الزاوية (ريف إدلب)٬ تسلم خلال السنوات الماضية عدداً من "المهام العسكرية" مثل "قيادة لواء شهداء الغاب" و"قيادة غرفة عمليات مورك" قبل أن يشكل "جبهة الشام" ويشغل منصب "نائب غرفة عملّيات معارك سهل الغاب".
نقطة تحول
كانت علاقات الغابي قد تشعبت خلال تلك السنوات٬ وشارك خلال عام 2015 في كثير من "الاجتماعات التشاورية" التي كانت تعقد مع ضباط أتراك وسواهم من "غرفة عمليات موم"٬ كذلك ُسلط عليه الضوء الأميركي مع بدء العمل على برنامج "المعارضة المفحوصة" الأميركي اعلن عن اندماج كل من "جبهة الشام" و"الفرقة 312" و"اللواء التاسع" و"الفرقة 46" و"سرايا الحق" ضمن تشكيل جديد حمل اسم "جيش التحرير" وبزعامة محمد الغابي. نقطة التحول الأبرز في مسيرة الغابي كانت موعده معها في نيسان ٬2016 حين نجح في أول عملية استقطاب لمنشق عن تنظيم "داعش". كانت الاستخبارات الأميركية قد أنشأت برنامجاً سرياً متفرّعاً عن برامج "دعم المعارضة المعتدلة" مهمته الأساسيّة العمل على تشجيع "الجهاديين" الأجانب المنضوين في صفوف "داعش" على الانشقاق عن التنظيم بصورة منظّمة تضمن استقطاب المنشقين لا عشوائية تؤدي إلى تسربهم في اتجاهات شتى.

وضع البرنامج قيد التنفيذ في مطلع عام 2016 وبتنسيق كامل بين الاستخبارات الأميركية ونظيرتها التركية، واختيرت مجموعات عدة من "المعارضة المفحوصة" للقيام بمحاولات الاستقطاب مثل "فرقة الحمزة"، "فيلق الشام" و"جبهة الشام" التي يتزعمها الغابي. في نيسان "اصطاد" الغابي المنشق الأول في إطار "البرنامج" وكان ليبي الجنسية، قبل أن تكر السبحة. خلال شهرين كان الغابي قد نجح في اجتذاب قرابة 30 منشقّا من جنسيات عدة، معتمداً على علاقات سبق له أن نسجها خلال السنوات السابقة مع مقاتلين في مختلف التنظيمات.
وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن "قياديين" من داخل "داعش" قد عملوا بنشاط مع الغابي لتسهيل عمليات التواصل والانشقاق، يدفعهم إلى ذلك أن كل عملية انشقاق من هذا النوع كانت تعني حصول "القيادي" المتعاون على 10 آلاف دولار في حال كان المنشق من جنسية أجنبية و5 آلاف دولار للمنشق العربي (هذا المبلغ هو نصف المكافأة التي يحصل عليها الغابي من "البرنامج" عن كل منشق، بمعنى أن الغابي كان يتقاسم مكافأته مع شركاء من داخل التنظيم).

"إعادة تأهيل" المنشقين

يمثل المنشق "كنزاً" استخباراتياً كبيراً، وتزداد قيمته من وجهة نظر "البرنامج" حين يكون أوروبياً أو أميركياً. ولا يقتصر الأمر على ما يوفره المنشق من معلومات متعلّقة بالتنظيم داخل سوريا، بل يتعلّق بالدرجة الأولى بأسماء "الجهاديين" الأجانب وجنسياتهم، وبالمتعاونين مع التنظيم خارج سوريا. لكن هذا ليس كل شيء. تلحظ إحدى أساسيات "البرنامج" أهمية "إعادة تأهيل" المنشقين بعد الحصول على كل المعلومات التي يمتلكونها، لا بهدف ردهم جميعاً إلى بلادهم التي جاؤوا منها، بل بهدف إعادة كثير منهم إلى الميدان للقتال تحت راية أخرى غير راية "داعش". يتم سوق المنشقين إلى مراكز صغيرة أُنشئت في قرى صغيرة داخل الأراضي التركيّة على مقربة من الشريط الحدودي. وتشتمل "إعادة التأهيل" على "متابعة نفسية" و"محاضرات اجتماعية" و"ندوات دينيّة حول روح الإسلام الحقيقية". مختصّون نفسيون، ومشايخ، ومحامون، هم التشكيلة الفريدة التي تشرف على "إعادة التأهيل". وفي حالات قليلة جداً تقرر نقل المنشق المعاد تأهيله إلى بلده الأصلي، بالتنسيق مع استخبارات بلاده بطبيعة الحال، والتي يتم وضعها في الصورة بعد وصول أي منشق يحمل جنسيّتها بفترة وجيزة. واشتملت قائمة المنشقين على جنسيات عدّة، على رأسها البلجيكية والفرنسية والهولندية، كذلك نجح البرنامج في استقطاب عدد من النسوة.

لسنا الوحيدين لكننا "مخلصون"

ليس الغابي وحيداً في مجاله، لكنه كان "الأكثر إخلاصاً" للأميركيين. بدءاً من حزيران الماضي اصطدم عمل "البرنامج" بعقبة أساسية تتعلق بالتنسيق بين الأميركيين والأتراك. كانت أنقرة قد عملت على استنساخ التجربة بصورة منفردة، وبآلية مختلفة. فبدلاً من مراكز "إعادة التأهيل" داخل أراضيها تمّ استحداث "مراكز تجميع" في الشمال السوري. ووفقاً لما نقلته صحيفة "لو فيغارو" الفرنسيّة، في تشرين الثاني الماضي، فإن مركز تجميع تابعاً لـ"فيلق الشام" كان يضم في تموز الماضي قرابة 300 منشق، من بينهم 20 امرأة، فيما تنقل الصحيفة عن أبو مصطفى الذي تصفه بأنّه "ضابط في فرقة الحمزة"، قوله إنه "جند 20 شخصاً من الفارين للقتال في فرقته بعد أن أخضعهم لاختبارات اجتثاث تطرّف". انخرط معظم "الجهاديين" المنشقين في القتال تحت لواء "درع الفرات"، العملية التي غزا الجيش التركي بموجبها الأراضي السورية بدءاً من آب الماضي، والتي أدت بدورها إلى زيادة وتيرة الاستقطاب. وبدلاً من السعي إلى استقطاب المؤهلين للانشقاق، كان مئات من "الجهاديين" والمدنيين الفارين من مناطق سيطرة "داعش" يجدون أنفسهم يساقون إلى مراكز التجميع. كان الغابي مصراً على وضع الاستخبارات الأميركيّة في صورة المستجدات والتطورات المتعلقة بعمله، وحريصاً على "الإخلاص للبرنامج"، خلافاً لمعظم قادة المجموعات الأخرى. وعلاوة على ذلك، كان حريصاً على نقل كل ما يحصل عليه من معلومات عن عمل المجموعات الأخرى في "الاستقطاب" إلى الأميركيين. لم يقتصر "تعاون" الغابي مع الأميركيين على "برنامج الاستقطاب"، بل وسع نشاطه منذ مايو/ أيار 2016 ليشمل تنظيم "جبهة النصرة/ فتح الشام" التي يبدو أنه أفلح في تجنيد عدد كبير من مقاتليها لمصلحة الأميركيين. ورغم أنّ "جيش التحرير" الذي يقوده الغابي كان من بين المجموعات المنخرطة في "غرفة عمليات حوار كلس" العاملة تحت لواء "درع الفرات"، غير أن ذلك لم يدفعه إلى "نقل البيض إلى سلّة الأتراك"، بل عمل على الإفادة منه لتزويد الاستخبارات الأميركية بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن "درع الفرات" والمجموعات المشاركة وكل ما يرتبط بالعملية من معلومات يحظى بها.

نهاية نمطية

في سبتمبر/ أيلول الماضي، تسلّم ضابط استخبارات تركي تقريراً مفصلاً تطوّع لإعداده أحد الأشخاص "القريبين جداً" من محمد الغابي، ويشتمل على أدق تفاصيل تطورات عمله ومستجدات علاقاته مع الأميركيين. وفي أواخر تشرين الأول سرت أنباء عن إصابة خطيرة لحقت بمحمد الغابي، وتضاربت الأنباء حول حقيقة الإصابة، ما بين حدوثها "خلال معارك ضدّ تنظيم داعش" و"وقوعها إثر انفجار لغم أرضي"، و"من جراء انفجار عبوة ناسفة". في واقع الأمر كان الغابي قد استُهدف بالذات، وبطريقة لا مكان للمصادفة فيها. أيام قليلة بعدها كانت كافية ليعلن "جيش التحرير" نبأ "استشهاد محمد الغابي وهو يدافع عن أرضه وعرضه في ريف حلب الشمالي ضد تنظيم "داعش"". وأعلن "تعيين علاء عبد الحي الأحمد، الملقب: علاء الغابي، قائداً عاماً لجيش التحرير"، خلفاً لشقيقه.

انذار "النصرة" المبكر

فطنت "جبهة النصرة/ فتح الشام" في وقت مبكر إلى "الخطر" الذي يشكله نشاط الغابي (الصورة) ضدّها. ووفقاً لمصادر من داخل "النصرة"، فقد تلقت الأخيرة إشارات وتحذيرات حول نشاط الغابي "عميل الأميركان الذي قاد نشاطاً على درجة كبيرة من الخطورة ضد المجاهدين". لا تشير المصادر صراحةً إلى مصدر التحذيرات، وحين سألت "الأخبار" بشكل مباشر "هل حذركم الأتراك"؟ امتنع مصدران عن الإجابة، واكتفى ثالث بالقول: "ليس بشكل مباشر". في تموز الماضي، دهم مسلحون تابعون لـ"النصرة" منزل والد الغابي في كفرنبل (ريف إدلب) واحتجزوا محمّداً وعدداً من مساعديه وشقيقَيه. وقالت "النصرة" في بيان لها إنها "عزمت على اعتقاله بعد دراسة المسألة لأكثر من شهر (...) بعدما تبينت تحول مشروعه من كونه ثائراً أو مجاهداً إلى كونه عميلاً تابعاً لأميركا". بعدها، مورست ضغوط كبيرة على "النصرة" أجبرتها على إطلاق سراح الغابي، واللافت أن الجهد الأكبر في هذا الإطار كان قد بذله السعودي عبدالله المحيسني الذي نعى الغابي بعد مقتله عبر صفحته على موقع "تويتر"، قائلاً "لم ألتقه يوماً، لكنه كان يدعوني دائماً لزيارته في الغاب ولأزور شبابه. وكثيراً ما يتواصل، سائلاً أريد أن أفعل كذا فما حكمه في الشرع، تقبله الله وجعله في جنات النعيم".

* صهيب عنجريني - الاخبار

102-4