التنين الصيني والفينيق السوري

التنين الصيني والفينيق السوري
السبت ٢٤ يوليو ٢٠٢١ - ٠٢:٠٧ بتوقيت غرينتش

لا يستطيع أشد المعجبين بأداء اليانكي الأمريكي أن ينكر التآكل المستمر والمتصاعد في الهيبة الأمريكية ونزولها التدريجي عن سنام القرار الدولي، فالفزَّاعة التي اختلقها" الكاوبوي" وسوَّقها عبر الإمبراطورية الهوليودية للسوبرمان الأمريكي لم تعد كما كانت عليه  مطلع القرن الحالي، ومع مرور الوقت توسعت الخطوط الحمراء التي كانت ترسمها واشنطن للآخرين وتلزمهم بالابتعاد عن التفكير بالاقتراب منها، فضلاً عن الويل والثبور وعظائم الأمور التي تنزل على رؤوس من يعميهم التيه فيقدمون على المساس بتلك الهيبة الزائفة، والمتابع لتصريحات المسؤولين الصينيين والروس يلمس بوضوح ارتفاع النبرة الرافضة لاستمرارية الأحادية القطبية في العلاقات الدولية. 

العالم - مقالات وتحليلات
هذا التآكل المتواتر في الهيبة الأمريكية ولّد العديد من التداعيات والتفاعلات التي تشكل بدورها مقدمات لاصطفافات ما تزال تموج بما هو مجهول الهوية، لكنه يشتمل على تغيرات حتمية، والفضل الأكبر والأول في ذلك يعود لمحور المقاومة، وليس إلى قوى عظمى على الإطلاق، ولعل الصفعة الأشد التي تلقتها واشنطن منذ أن غدت قوة عظمى مهيمنة كانت بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة الإسلامية في إيران عندما أقدم بعض الطلاب الإيرانيين على اقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز كل من فيها رهائن في الرابع من تشرين الثاني عام 1979م.، واستمر ذاك الوضع/444/ يوماً حيث تم الإفراج عن /52/ أمريكياً، واقتصر الرد الأمريكي على قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وفرض حظر تجاري عليها ، لكن نتائج الحظر جاءت على عكس ما تريد واشنطن وحلفاؤها، فهاهي إيران الثورة قوة كبرى إقليمياً لا يمكن تجاهلها، ولا القفز فوق دورها الريادي والفاعل في كل ما تشهده المنطقة من أحداث.
لقد أدرك منظرو الاستراتيجية الأمريكية أن استعادة الهيبة التي فُضَّتْ بكارتها في اقتحام السفارة واحتجاز موظفيها كرهائن تتطلب إحداث ضجة كبيرة وخضَّة نوعية تصيب العالم كله بالذهول، وهذا ما حصل بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل القطب المكافئ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتمكن شاغلو البيت الأبيض من الإدارات الجمهورية والديمقراطية أن يخترقوا الوعي الجمعي في العالم كله، وأن يفرضوا مسلمة على الجميع مفادها أن الإدارة الأمريكية قدرٌ لا طاقة لأحد في الكون برده، وأن القرارات الأمريكية كالقطار الذي يسحق كل من يقف في طريقه، وليس أمام الجميع إلا محاولة اللحاق به والصعود إلى عرباته، ولو كانت العربة الأخيرة، وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول وما أفرزته من احتلال لأفغانستان عام 2001، ومن ثم اجتياح العراق واحتلاله عام 2003 خارج القانون الدول في ظل صمت مطبق عم َّ أرجاء الكون، وغدا التنفس بالشهيق والزفير عملية تتطلب الحصول المسبق على الإذن الأمريكي بذلك، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى أتى وزير الخارجية الأمريكي" كولن بأول" إلى دمشق حاملاً معه ما يمكن تشبيهه بإنذار غورو جديد، ووضع على الطاولة المطالب الأمريكية التي تعني إرغام دمشق على تبديل هويتها وثوابتها، ويبدو أن الريش الطاووسي المنفوش حول كولن بأول قد حجب عن عينيه الرؤية الصحيحة، فنسي أو تناسى أنه في دمشق، وأن شموخ قاسيون أسمى من كل عنتريات البيت الأبيض، وأسد العرين المرابض هناك لا يؤخذ بتهديد أو وعيد، ولا يلوى ذراعه بثناء أو إطراء، فسرعان ما تهدل الريش المنقوش وخرج "باول" من دمشق واضعاً ذيله بين جنبيه، ونار الحقد والانتقام تأكل أحشائه، وقد ظن العديد من الباحثين والمفكرين والمتابعين أن سورية حكمت على نفسها بالموت والفناء لأنها رفضت الإذعان للعربدة الأمريكية، وتجرأت على تشق عصا الطاعة الأمريكية، مقدمة الأمن الوطني السوري على أية اعتبارات أخرى مهما كانت النتائج، لا بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما وقفت إلى جانب حزب الله في حرب"33" يوماً التي هزت العالم، ولاحقاً في دعم المقاومة الفلسطينية التي أرغمت حكام الكيان الصهيوني على التخلي عن العنجهية الطاووسية تيمناً باليانكي الأمريكي، ومنذ لك الوقت والهيبة الأمريكية في تآكل مستمر ومتصاعد.
كل ما سبق يؤكد أن الصعود الروسي أو الصيني، واستعادة ماء الوجه في مجلس الأمن الدولي ما كان له أن يكون إلا بفضل صمود محور المقاومة، فاقتحام طلاب الثورة الإسلامية في إيران للسفارة الأمريكية أظهر العضلات الأمريكية المنفوخة على حقيقتها التي تقول: ما ترونه ليس عضلات قط، بل انتفاخ بحقن البوتكس وغيرها من متطلبات ما أفرزته الأفلام الهوليودية التي تبقى مجرد أفلام وألعاب تدار من غرف المونتاج والمكساج وما يرتبط بتسويق الصورة المطلوبة، وجاءت زيارة كولن بأول البائسة إلى دمشق في مطلع أيار 2003 لتنزع القناع تلو الآخر عن وجه من يعملون في البيت الأبيض ليظهروا على حقيقتهم رعاة بقر "كاو بوي" يخيفون الناس بالصراخ والممارسات الوحشية، لكنهم يبتلعون الرد المؤلم، ويستمرون بتسويق الأكاذيب للتغطية على عجزهم عن كسر إرادة أصحاب العزة والسيادة والكرامة، وقد مهد ذلك كله لتنامي إرادة التحدي لدى روسيا والصين، وكان الاستخدام الأول لحق النقض "الفيتو" المزدوج في مجلس الأمن بعد أن أثبتت سورية أنها عصية على الأخذ كغيرها، وبعد مرور الأسابيع والأشهر التي تحدثت عنها واشنطن وبقية العواصم المرتبطة بها مؤكدة أن سقوط الدولة السورية حتمي، ولن يستغرق إلا أسابيع قليلة ، وفي جميع الأحوال لن يفوق الأشهر المعدودة على أصابع اليد الواحدة، وها قد مرت الأشهر والسنون، وانقضى العقد الأول كاملاً وسورية الأسد ما تزال صامدة شعباً وجيشاً وقائداً.
زيارة الوزير الصيني ودلالاتها:
لا وجود للصدفة في عالم السياسة، وساذجٌ من لا يأخذ بالحسبان المعاني والدلالات والرسائل التي يتضمنها توقيت زيارة وزير الخارجية الصيني والوفد الموسع المرافق له إلى دمشق في يوم أداء القسم الدستوري للسيد الرئيس بشار الأسد، وقد أوضحت المستشارة الرئاسية الدكتورة بثينة شعبان في مقابلة تلفزيونية على الشاشة السورية أن الزيارة كانت مخططة منذ أشهر، لكن إصابة السيد الرئيس بفيروس كورونا أدى إلى تأجيلها، وأن الجانب الصيني تعمَّد أن تكون الزيارة في يوم أداء السيد الرئيس للقسم الدستوري لتكون الصين أول المهنئين، وقد نقل الوزير الصيني للسيد الرئيس بشار الأسد تهاني الرئيس الصيني وتأكيده وقوف الصين مع سورية ورفضها أية محاولة لما يسمونه "تغيير النظام"، ولعل أهم ما تمخضت عنه الزيارة يتجسد بانضمام سورية إلى المشروع الاستراتيجي الصيني "الحزام والطريق"، ولفهم الصورة بشموليتها، وبشكل أفضل قد يكون من المفيد التوقف عن عدد من النقاط المهمة، ومنها:
• استمرار النمو الاقتصادي الصيني على الرغم من انكماشه في غالبية الدول منح بكين هامشاً عريضا للمناورة والاحتكاك المباشر بقطار الاقتصاد الأمريكي والضغط عليه ليفسح المجال لعربة الاقتصادي الصيني المندفعة بثبات نحو الأمام، والحال ذاته ينطبق على التصنيع العسكري الروسي، وبالتالي لم يعد بإمكان واشنطن التباهي بالتفوق الاقتصادي أو العسكري.
• بقاء روسيا والصين كتهديدين استراتيجيين وفق التصنيف الأمريكي وافتعال التحرش غير المباشر بكلا العاصمتين في أكثر من مجال مما دفع الرئيس الصيني للإعلان بأنه "مضى وإلى غير رجعة زمن التنمر على الصين" في حين أكد الرئيس الروسي أكثر من مرة أن عصر الأحادية القطبية لم يعد موجوداً، وعلى الإدارات الأمريكية التسليم بهذه الحقيقة.
• التصريحات السابقة وما شابهها ما كان لها أن تظهر للعلن لولا التآكل الذي أصاب الهيبة الأمريكية بعد الضرر الكبير الذي ألحقه صمود محور المقاومة في وجه العربدة الأمريكية المنفلتة من كل عقال، وبالتالي هذه النبرة العالية لدى موسكو وبكين قد استندت بشكل فعلي إلى ما أنجزه محور المقومة، فلو بقيت السفارة الأمريكية في طهران، أو لو أذعنت سورية لإملاءات كولن بأول لتغيرت قواعد اللعبة الاستراتيجية في المنطقة والعالم، ولكان الأمريكيون استطاعوا تنفيذ استراتيجيتهم المعلنة والمتضمنة أن يكون القرن الحاد والعشرين قرناً أمريكياً صرفاً.
• المشروع الصيني "الحزام والطريق" يستهدف الوصول إلى أوربا وأفريقيا والربط بين الصين وبين كل تلك الجغرافيا الواسعة والممتدة في قارات العالم القديم، وهذا يعني تراجع الولايات المتحدة الأمريكية إلى المركز الثاني بشكل مبدئي، وقد يستمر مسلسل التراجع.
• الجيوبوليتيك الأمريكي الذي أرسى أسسه كل من: " ماهان" و"سبايكمان" يركز على أهمية القوة البحرية، وبالتالي يعتبر أن من يسيطر على "الريملند" أي المناطق الشاطئية والنوافذ البحرية يتحكم بالقرار الدولي، وهذا يفسر حرص واشنطن على قطع الطريق على المشروع الصيني"الحزام والطريق" ومنعه من الوصول الى أوروبا وأفريقيا عبر تعزيز الوجود المباشر أو عبر الوكلاء في بحر البلطيق والبحر الأسود وبحر إيجة، وهذه البحار الثلاثة تمثل بشكل عملي الحدود الجنوبية الشرقية لانتشار الناتو بزعامة واشنطن، وكذلك الأمر في شرق المتوسط عبر الوجود العسكري الأمريكي المباشر كقوة احتلال في كل من سورية والعراق، أما قناة السويس والبحر الأحمر فالتعويل على ارتهان النظام المصري والسعودي للمشيئة الأمريكية من دون نقاش، ويبقى خليج عدن وصولا الى موزامبيق، ولهذا ما تزال الحرب مستمرة على اليمن لضمان إزاحة جميع التهديدات دفعة واحدة وإلى أمد طويل.
• لو أعدنا قراءة الفقرة السابقة بهدوء واستذكرنا ما طرحه السيد الرئيس بشار الأسد قبل بدء الحرب المفروضة على سورية بسنوات عندما طرح مشروع ربط البحار الخمسة، وبالمقارنة والوقوف عند مدلولات ذلك كله يتضح أحد أهم الأهداف الخارجية من الحرب التي أشعلوا أوراها على الجغرافيا السورية وما تزال مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات.
• جميع المشاريع الاقتصادية الكبرى منها أو المتوسطة تتطلب توافر بيئة آمنة ومشجعة، وهذا يعني أن نجاح المشروع الصيني الأكبر " الحزام والطريق مرهون بتخفيف النار المشتعلة على البر المؤدي إلى ساحل المتوسط، أي إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية والعراق، وبخاصة في ظل تذبذب السياسة التركية وتخوف أردوغان من اقتراب نهايته السياسية إذا انخرط أكثر من المسموح به مع الروس والصينيين، وأي حديث أمريكي عن الانسحاب من المنطقة مرده إلى النتائج النهائية التي أفرزتها الحسابات الاستراتيجية الأمريكية، والوصول إلى قناعة بأن الزخم الروسي العسكري والصيني الاقتصادي لن يتراجع، بل سيتم تفعيله، وبالتالي السبيل الأنجع لتلافي حدوث ذلك يكمن في التقرب الجغرافي أكثر من حدودهما أي التوجه نحو آسيا الوسطى، بدلاً من الانتظار شرق المتوسط المتجه نحو تبدل حتمي قد لا تستطيع واشنطن الانتظار للتعامل مع تداعياته في حال حدوثه.
• الواقع الداخلي الذي يعيشه السوريون أكثر من ضاغط، لكن الاحتكام إلى الواقع يؤكد أن من صمد وواجه أشرس حرب عرفتها البشرية وعلى امتداد عشر سنوات لن يفرط بما تم إنجازه، وسيبقى وفياً لدم الشهداء وعذابات الجرحى وشظف عيش الجميع، وقد تكون الصين الطرف الأكثر فاعلية وقدرة على المساهمة النوعية في تغيير لوحة الحياة المعيشية للسوريين، فالصين قوة عظمى، والصين منافس ندي للولايات المتحدة، والعقوبات الأحادية غير ملزمة للصين، وفي جميع الأحوال هي الأقدر على تحديها وكسرها، وهذا بدوره يؤسس لحالة جديدة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً تمهيدا لإرساء أسس الأمن والاستقرار المطلوب لتوفير زخم نوعي جديد لمشروع الحزام والطريق.
الخلاصة:
زيارة وزير الخارجية الصيني والوفد المرافق له، ولقاؤه السيد الرئيس بشار الأسد في يوم أدائه القسم الدستوري ليست محطة عادية، بل مقدمة لمتغيرات جيوستراتيجية تعم المنطقة، وما تم تناقله من تصريحات أو من نتائج المباحثات يحمل في طياته الكثير من المؤشرات والمبشرات، وليس أمام القوى العظمى النووية إلا اللجوء إلى تفاهمات الضرورة منعاً للتحرج نحو الهاوية، وهذا يعني أن الفترة القادمة حبلى بالمتغيرات التي تقود جميعها إلى نتيجة مفادها أن سورية في طريقها لاستعادة الأمن والاستقرار، وهذا يعني القضاء على ما تبقى من مكامن الإرهاب التكفيري الذي يهدد الجميع دونما استثناء، واضطرار جميع القوى الفاعلة للتسليم بأهمية الحفاظ على سورية الموحدة بقيادتها وموقعها الجيوبوليتكي، وخياراتها التي تؤكد مصالحها الوطنية العليا وثوابتها التي أقرها الإجماع الشعبي منقطع النظير في صناديق الانتخابات الرئاسية، والتي جسدها وعبر عنها بصدق ووضوح وشفافية السيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم.

*بقلم د. حسن أحمد حسن