الأبعاد الخارجية للثورات والإنتفاضات الشعبية العربية

الأبعاد الخارجية للثورات والإنتفاضات الشعبية العربية
الثلاثاء ١٣ سبتمبر ٢٠١١ - ٠٢:٠٥ بتوقيت غرينتش

بات الآن واضحاً أن الثورات والإنتفاضات الشعبية التي شهدها عدد من البلدان العربية منذ أواخر العام 2010، وأدت، خلال أقل من شهرين، إلى الإطاحة بحاكمَي نظامين أمسكا بزمام السلطة في بلديهما بين عقدين وثلاثة عقود، شكّلت تطوراً نوعياً واستثنائياً في أوضاع المنطقة العربية، وربما على نطاق أوسع.

 وكما يحدث مع العديد من الاحداث الاستثنائية غير المتوقعة، تنتشر في منطقتنا، كما في مناطق اخرى في حالات شبيهة، فرضيات بوجود اياد خفية وراء هذه الاحداث. وغالبا ما تتجه اصابع الاتهام نحو الولايات المتحدة، واحيانا حتى نحو اسرائيل، او نحو هذه القوة الاوروبية او الاقليمية او تلك.

وقبل زهاء ستة عقود او اكثر من الزمن، كان اصبع الاتهام الاول في اي حدث او تطور كبير او ماساوي في مشرقنا العربي يتجه فورا نحو بريطانيا، الدولة التي كانت عظمى قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت تبسط نفوذها وشبكة سيطرتها على معظم بلدان المنطقة، من مصر الى فلسطين والاردن والعراق وبلدان عربية في الخليج "الفارسي"، وحتى ايران، والى حد ما تركيا "لنستذكر حلف بغداد الشهير في الخمسينيات الماضية". هذا، بالاضافة الى سيطرة هذه القوة العظمى السابقة، انذاك، على مناطق واسعة اخرى في العالم، يبرز بينها ذلك البلد- القارة، الهند، الذي كانت تعتبره "درة التاج البريطاني". وهو البلد الذي من اجل ضمان طرق المواصلات اليه، من بين اسباب اخرى، سيطرت بريطانيا على مصر، وعلى ممر قناة السويس الهام انذاك، في اواخر القرن التاسع عشر، قبل ان يصبح نفط ايران، ثم العراق ودول الخليج ، سببا اضافيا اخر لتعزيز هذا الوجود البريطاني في مجمل المشرق العربي. دون ان نغفل اهمية المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين في اطار هذه الاستراتيجية البريطانية للهيمنة انذاك.

ومعروف ان فلسطين وقعت تحت السيطرة البريطانية في اواخر العام 1917 اثناء الحرب العالمية الاولى، تقريبا في نفس الفترة التي كان فيها وزير الخارجية البريطاني انذاك، ارثر بلفور، قد اصدر، باسم حكومته، وعده الشهير بتسهيل اقامة "الوطن القومي" اليهودي في فلسطين. كما سيطرت بريطانيا في تلك الحقبة على العراق، الواعد انذاك باحتمالات توفر الثروة النفطية، بحكم قربه من مناطق ايران الشرقية، المنتجة للنفط منذ وقت ابكر. كما سيطرت على مناطق اخرى في المشرق العربي بالتنسيق والتقاسم مع فرنسا، عملا باتفاقية سايكس- بيكو السرية الشهيرة المعقودة بين البلدين الاستعماريين اثناء تلك الحرب.

تونس... تطورات سريعة

لكن، وفق كل المعلومات والمصادر المتوفرة ومسارات الاحداث على الارض، جاء اندلاع وتطور ثورة تونس، التي افتتحت سلسلة الثورات والانتفاضات في منطقتنا منذ اواخر العام الماضي 2010، كمفاجاة كاملة للعالم كله، بما في ذلك للقوتين الخارجيتين الرئيسيتين المؤثرتين بشكل خاص في هذا البلد، فرنسا والولايات المتحدة، وكذلك حتى للشعب التونسي وللمشاركين في الثورة انفسهم، على الاقل في الايام الاولى للثورة.

فلا احد توقع في تونس نفسها، قبل او بعد اضرام المواطن محمد البوعزيزي النار بنفسه، ان تذهب الامور الى حد تحول الحراك اللاحق الى ثورة شعبية عارمة، والى الاطاحة، يوم 14/ 1/ 2011، اي خلال اقل من شهر على تضحية البوعزيزي بنفسه، بنظام بوليسي استبدادي كان يمسك بالوضع التونسي بيد من حديد منذ وصول رئيسه زين العابدين بن علي الى السلطة في العام 1987، وحتى قبل ذلك عندما تم تعيينه وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة "وزيرا اول، وفق التعبير المستخدم في البلد" في اواخر عهد الرئيس التونسي الاول، الحبيب بورقيبة.

فالثورة الشعبية في تونس تطورت بشكل متدرج، والى حد كبير تلقائي، اي بدون وجود قيادة موحدة موجهة لها من قبل طرف او مجموعة مؤتلفة من الاطراف داخل تونس نفسها، واتسعت وكبرت بشكل متسارع ككرة الثلج الى ان اصبحت انتفاضة شعبية هائلة لم يعد بامكان النظام واجهزته الامنية وضع حد لها بالقمع وسفك الدماء.

ويصعب، في هذا الصدد، نسيان حديث وزيرة الخارجية الفرنسية انذاك، ميشيل اليو- ماري، امام البرلمان الفرنسي "الجمعية الوطنية"، يوم 11/ 1/ 2011، اي قبل ثلاثة ايام من رحيل بن علي عن تونس، عن امكانية تسوية الوضع المضطرب في تونس من خلال "حسن التدبير، المعترف به في العالم كله، لقوانا الامنية"، حسب تعبير الوزيرة الفرنسية.

والوزيرة لم تكن تفعل اكثر من التاكيد على سياسة حكومتها على الارض، حيث كان قد تم ارسال "اربع شحنات من ادوات حفظ الامن "الملابس الخاصة بقوى الامن، وتجهيزات الحماية لها، والقنابل المسيلة للدموع" الى تونس، بموافقة من الحكومة الفرنسية، في كانون الاول/ ديسمبر 2010 وكانون الثاني/ يناير 2011"، وفق المصادر الاعلامية الفرنسية ""لوموند ديبلوماتيك"، عدد اذار/ مارس 2011".

واشار المصدر ذاته الى ان هذه المساعدات الامنية تدخل في اطار سياسة فرنسية قديمة للتعاون البوليسي مع العديد من دول العالم. حيث تشكل صادرات فرنسا في هذا المجال، اي ادوات ضبط الامن الداخلي، مصدرا مهما من العائدات بالنسبة للصناعات المرتبطة بوزارة الداخلية الفرنسية.

ولو نجح نظام بن علي في قمع الثورة الشعبية بفضل المساعدة الفرنسية الموعودة، لكانت اليو- ماري بقيت في موقعها. وعندما فشل القمع، خلافا لكل التوقعات في ذلك الحين، ورحل بن علي ونظامه، كان على اليو- ماري ان تدفع ثمن كلامها، وان تترك موقعها في الحكومة.

وقد اقر وزير الخارجية الفرنسي الجديد الذي حل محلها، الان جوبيه، بخطا التقدير هذا، وقام بما يشبه النقد الذاتي في كلمة القاها في ندوة عقدها "معهد العالم العربي" في باريس تناولت "الربيع العربي"، حيث قال في كلمة له في ختام الندوة يوم 16/ 4/ 2011:

"لا بد من الاقرار، بالتاكيد، انه، بالنسبة لنا جميعا، كان هذا الربيع "العربي" مفاجاة. فقد اعتقدنا، لفترة طويلة، ان هذه الانظمة السلطوية كانت القلاع الوحيدة ضد التطرف في العالم العربي. خلال فترة طويلة، رفعنا حجة التهديد الاسلاموي لتبرير شيء من التساهل مع هذه الحكومات التي كانت تدوس الحريات وتكبح تطور بلدانها".

اذن، كان انفجار الثورة الشعبية التونسية وتصاعدها السريع حتى رحيل راس النظام امرا مفاجئا وغير متوقع في البداية وحتى ما قبل الفصل الاخير، سواء بالنسبة للمعارضين والمنتفضين التوانسة في البلد نفسه، على الاقل في الايام الاولى من الانتفاض الشعبي، او بالنسبة للقوى الخارجية التي لها تاثير ودور في البلد وعلاقات قديمة معه، وخاصة فرنسا، الدولة المستعمرة السابقة.

والامر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة، الدولة الكبرى التي تزايد نفوذها في عموم المنطقة العربية خلال العقود الاخيرة، وفي تونس بشكل ملحوظ بعد وصول زين العابدين بن علي الى راس هرم السلطة في العام 1987.

فكما فوجئت فرنسا بالثورة الشعبية في تونس، كذلك فوجئت ادارة واجهزة الولايات المتحدة، البلد الابعد من فرنسا جغرافيا عن تونس، ولكن ذي العلاقات القوية مع نظام بن علي، كما ذكرنا. وهذه العلاقة الخاصة والاستثنائية بين نظام بن علي والولايات المتحدة اكدها علنا، وبكثير من الوضوح، سفير سابق لفرنسا في تونس، كان يشغل هذا الموقع ابان انقلاب بن علي عام 1987 وازاحته الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة بحجة اعتلال صحته وتقدم سنه. وهذا السفير هو اريك رولو، الذي عمل لفترة طويلة في مجال الصحافة والكتابة، خاصة عن قضايا المنطقة العربية والصراع العربي- الاسرائيلي، قبل ان يعينه الرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتيران، في اواسط الثمانينيات الماضية، سفيرا في تونس، ثم، بعد بضع سنوات، في تركيا. فقد كتب رولو مقالة شديدة الوضوح تشير الى هذه العلاقة الوثيقة بين الاميركيين واجهزتهم وزين العابدين بن علي، نشرتها شهرية "لوموند ديبلوماتيك" الشهيرة على الصفحة الاولى من عدد شهر شباط/ فبراير 2011 تحت عنوان "ذكريات دبلوماسي".

وبالرغم من هذا النفوذ والحضور الاميركي في البلد، فقد كان الموقف الاميركي، في الايام الاولى للثورة التونسية، مرتبكا ومترددا وغير واضح، لا بل متخوفا من التغيير، الى ان اصبح جليا ان الحركة الشعبية في تونس لم تعد قابلة للايقاف، فتحول موقف الادارة الاميركية باتجاه دعوة زين العابدين بن علي، في الايام الاخيرة من حكمه، الى الرحيل، تفاديا لتفاقم الامور.

ويشار في صدد الوضع التونسي، الى ان كتابا كان قد صدر في فرنسا في الشهر العاشر من العام 2009 تحت عنوان "عاهلة قرطاج"، من تاليف الكاتبين الفرنسيين كاترين غراسييه ونيكولا بو. وحمل الكتاب على غلافه صورة ليلى طرابلسي، زوجة بن علي، وتناول دورها في السيطرة على مفاصل الحكم والنفوذ في تونس، ومساعدتها لافراد عائلتها واقربائها ومعاونيها لوضع اليد على مرافق الاقتصاد والاعمال ومصادر الثروة في البلد. وكان هذا الكتاب، بالطبع، ممنوعا من دخول تونس. لكن التونسيين المقيمين خارج تونس، وهم كثر، اطلعوا عليه. اما المواطنون داخل تونس، فكانت هناك وسائل اخرى لايصال الكتاب، او فحواه، لهم.

وبالرغم من ان قضايا الفساد المشار اليها في الكتاب كانت معروفة الى حد ما داخل البلد، فقد زادت المعلومات الموثقة في الكتاب من مفاقمة النظرة السلبية لدى القطاعات المثقفة والشابة في البلد تجاه النظام والعائلة الحاكمة، خاصة مع تدهور الاوضاع المعيشية لقطاعات متزايدة من السكان، والشبان منهم بشكل خاص، في السنوات الاخيرة، سنوات الازمة الاقتصادية العالمية، وانعكاساتها السلبية على مختلف بلدان العالم.

وقد اجرت احدى الفضائيات العربية، بعد رحيل الرئيس المخلوع من تونس بايام قليلة، مقابلة مع كاترين غراسييه، احدى مؤلفي الكتاب، وسالتها، في سياق المقابلة، اذا ما كانت تتوقع عند تاليف الكتاب ان تصل الامور في تونس سريعا الى هذه النتيجة، فاجابت بدون تردد: لا، اطلاقا.

وهذه الصورة السلبية حول فساد العائلة الحاكمة في تونس اكدتها، بعد صدور الكتاب، تلك الرسائل الدبلوماسية الاميركية السرية التي نشرها موقع "ويكيليكس" على شبكة الانترنت ووزعها مؤسسه الاسترالي جوليان اسانج، وبدئ بنشرها علنا في اواخر العام 2010. ومن الممكن القول انه كان لتسريبات "ويكيليكس" دور ما في تسويد صورة النظام في تونس، وبالتالي هي ساعدت في التحريض على الانتفاض عليه، وهو ما ينطبق ايضا على ما جرى لاحقا في مصر وبلدان عربية اخرى تناولتها الرسائل الدبلوماسية الاميركية السرية المسربة. ولكن من المؤكد انه اذا ما كان لهذه التسريبات اي دور في دفع الامور نحو الانفجار، فهو، بالتاكيد، دور ثانوي وغير رئيسي.

وهناك، طبعا، تساؤلات في منطقتنا وفي مناطق عديدة اخرى من العالم شملتها تسريبات "ويكيليكس": هل كانت هذه التسريبات مؤامرة مقصودة من جهة معينة، من الاميركيين انفسهم مثلا، لتحقيق اغراض معينة؟

ليس هناك ما يدفع باتجاه التسليم بصحة هذه النظرية التامرية، حتى اشعار اخر. حيث ان هذه التسريبات تسببت بالكثير من الاحراجات للادارة الاميركية، وليس في منطقتنا فقط، وانما في انحاء العالم، بما في ذلك مع زعماء بلدان حليفة، مثل المانيا. حيث تناولت احدى الرسائل الدبلوماسية الاميركية السرية من برلين، على سبيل المثال لا الحصر، المستشارة انغيلا ميركل باوصاف غير ايجابية، وكذلك الامر بالنسبة لرسائل دبلوماسية صدرت من السفارة الاميركية في باريس وتناولت الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتوصيفات ليست ايجابية كذلك. وكلا الزعيمين الاوروبيين من الحلفاء المقربين جدا للادارتين الاميركيتين، السابقة كما الحالية.

ولنتذكر ان تسريبات اخرى من "ويكيليكس" نفسها سبقت تسريبات مراسلات وزارة الخارجية الاميركية وممثلياتها في انحاء العالم. وهذه التسريبات السابقة تناولت التفاصيل المتعلقة بحربي اميركا في العراق وافغانستان. وكانت مصدر ازعاج اكبر للمسؤولين الاميركيين لعلاقتها بحربين ما زالت تفاعلاتهما واحداثهما متواصلة، مما يؤثر بالتالي على مجمل السياسات والسلوكيات الاميركية الميدانية في البلدين وفي عموم المنطقة العربية - الاسلامية، كما وداخل الولايات المتحدة وبلدان حلف شمال الاطلسي الاخرى المشاركة في الحربين.

 

انفجار الوضع الشعبي في مصر

ورغم السابقة التونسية، كان زخم الحراك الشعبي في مصر مفاجاة لواشنطن؛ ونظريا، كان من المفترض ان يتم التعاطي بطريقة مختلفة مع انفجار الوضع الشعبي في مصر، بعد بدء التحركات الشعبية الواسعة يوم 25/ 1/ 2011، اليوم الخاص بالشرطة في مصر. وذلك بعد ان بات واضحا لكل متابع ان مناخ الثورة التونسية قد اثر بقوة، من خلال وسائل الاعلام المرئية ووسائل الاتصال العصرية، على مناطق وبلدان عربية اخرى، بدءا بمصر، البلد العربي الاكبر، وحيث معدل دخل الفرد من الناتج الداخلي الاجمالي ادنى منه بكثير من معدل دخل الفرد في تونس، وحيث الوضع المعيشي لغالبية المواطنين اسوا والفساد اكثر وضوحا.

 

ولكن المفاجاة لم تكن في بدء التظاهرات في مصر. فمصر كانت تشهد حراكا شعبيا شبه متواصل منذ عدة اعوام، وخاصة منذ العام 2004، عندما تشكلت حكومة عملت على تعميق تطبيقات "الليبرالية الجديدة" في البلد، وهي التطبيقات التي زادت فقراء البلد فقرا وهددت قطاعات متزايدة من الفئات المتوسطة بالوقوع في مصاف الفقر، وعندما بدات حركات الاعتراض الواسعة على احتمالات "التوريث"، اي الاعداد لترشيح جمال مبارك لتولي الرئاسة بعد والده. ثم تلاحقت بعد ذلك جملة من التحركات ذات الطابع السياسي او المطلبي والاعتراضي على تدهور الاوضاع المعيشية لاعداد متزايدة من السكان.

بل جاءت المفاجاة بالزخم الذي اكتسبته هذه التظاهرات بسرعة هائلة نسبيا، بحيث ادت الى اسقاط راس النظام في البلد في مهلة اقل من المهلة التي احتاجتها الثورة التونسية، بالرغم من الحجم الجغرافي الاكبر لمصر، وتعداد سكانها الذي يتجاوز السبعة اضعاف حجم سكان تونس.

وشملت المفاجاة حتى اولئك الشبان المبادرين للدعوة الى تحرك 25/ 1 انفسهم، في القاهرة ومدن مصر الاخرى، حيث لم يتوقعوا حجم المشاركة الواسع، وفق تصريحاتهم العلنية اللاحقة، وحجم التصاعد المتزايد في الايام اللاحقة لهذه المشاركة الشعبية، وخاصة منذ يوم 28/ 1، وكذلك الجاهزية الشبابية، والشعبية عموما، لتحمل كلفة مواجهة قوات الامن و"البلطجية" في البلد، الى ان تمت الاطاحة براس النظام يوم 11/ 2.

صحيفة "ذي انديبندنت" البريطانية كتبت مقالا للمعلقة كاترينا ستيوارت في عدد يوم 29/ 1/ 2011 تحت عنوان بليغ: "قلة توقعت السرعة التي ازداد بها زخم الاحتجاجات". وكانت، بالطبع، تتحدث انذاك عما يجري في مصر، وعما جرى تحديدا في يوم 28/ 1.

وكان رئيس الوزراء البريطاني الاسبق والمبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية الى العملية التفاوضية الفلسطينية- الاسرائيلية، توني بلير، قد قال، في حديث اجرته شبكة "سي ان ان" التلفزيونية الاميركية معه في اليوم الاول من شهر شباط/ فبراير الماضي، ونقلته صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في عدد يوم 2/ 2/ 2011، في وصف الرئيس المصري حسني مبارك بانه "بالغ الشجاعة، وقوة خير"، مشيدا، بشكل خاص، بدور مبارك في مساعدته في عملية التفاوض الفلسطينية- الاسرائيلية "ومن الواضح الان اين وصلت هذه العملية!".

اما عضو مجلس الشيوخ الاميركي والمرشح الرئاسي الجمهوري المنافس للرئيس اوباما في انتخابات العام 2008، جون ماك كين، فقد اعتبر الثورات العربية، في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" الاميركية، يوم 2/ 2/ 2011، "فيروسا" يهدد اسرائيل، قائلا: "هذه الثورات تنتشر في الشرق الاوسط مثل الفيروس... وهذه ربما اخطر مرحلة في التاريخ، في تاريخ انخراطنا كله في الشرق الاوسط، على الاقل خلال الازمنة الحديثة... اسرائيل في خطر ان تصبح محاطة بدول هي ضد مجرد وجود اسرائيل، دول محكومة بمنظمات راديكالية"، حسب تعبيره.

وكان جون ماك كين قد التقى بالرئيس الاميركي باراك اوباما، بدعوة من الاخير، في اليوم ذاته، للتشاور حول الموقف من مصر تحديدا.

اما رئيس الاغلبية الجمهورية في مجلس النواب الاميركي جون بينر، فقد قال بشان الثورة في مصر: "اعتقد ان ما جرى قد فاجا الجميع، ولذلك ستجري عملية حقيقية لاعادة تقييم ذلك". واضاف: "اعتقد انني فوجئت. اعتقد ان "البيت الابيض" قد فوجئ... انه وضع معقد جدا". وهذا الكلام لرئيس الاغلبية نقله موقع صحيفة "واشنطن بوست" على شبكة الانترنت بتاريخ 13/ 2/ 2011، اي بعد تنحي مبارك.

من جانبه، اقر جيمس كلابر، مدير المخابرات القومية الاميركية والمسؤول الاول عن التنسيق بين كافة اجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة، في شهادة امام مجلس النواب الاميركي يوم 10/ 2/ 2011، بانه كانت هناك مئات التقارير خلال العام السابق حول التوترات وعدم الاستقرار في بلدان شمال افريقيا، ولكن "العوامل المفجرة المحددة لا يمكن معرفتها وتوقعها دائما". واضاف انه "حتى بن علي عندما ذهب الى مكتبه في ذلك الصباح لم يكن يعلم انه سيكون على الطائرة لمغادرة تونس في المساء". واضاف انه اتخذ قرارا، مع رئيس وكاله المخابرات المركزية ليون بانيتا "الذي اصبح في ما بعد وزيرا للدفاع"، بتشكيل فريق من 35 عضوا لمتابعة اعمق للمشاعر الشعبية وقوة المعارضة ودور شبكة الانترنت في هذه البلدان، على حد تعبيره، وفق ما نقله عنه موقع احدى محطات التلفزيون الاميركية الرئيسية على الشبكة تحت عنوان: "كلابر عن مصر وتونس: نحن لسنا مستبصرين". وهو استخدم كلمة "كليرفويانت"، بالانكليزية، وهي بالاصل كلمة فرنسية، وتعني بتلك اللغة "بعد النظر".

وفي كل الاحوال، وكما سبق وذكرنا، لا يمكن تفسير الثورة التونسية او الثورة المصرية فقط من خلال التسريبات الاعلامية حول الفساد الواسع القائم في قمة هرم النظامين المنهارين. فهناك اسباب عديدة اخرى وتراكمات طويلة في البلدين، كانت مرئية وواضحة جدا في مصر، خاصة بعد بدء تطبيقات "الليبرالية الجديدة" منذ مطلع التسعينيات الماضية، ومن ثم تصاعد الحراك الشعبي الاحتجاجي، في السنوات السبع الاخيرة خاصة، كما سبق وذكرنا.

وجاءت الازمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت علنا في الولايات المتحدة في الثلث الاخير من العام 2008، بانعكاساتها شديدة الوقع على غالبية بلدان العالم، بما في ذلك على تونس ومصر وبلدان عربية وغير عربية اخرى، لتوصل هذه التراكمات الى مستوى "القشة" الشهيرة التي "قصمت ظهر البعير".

الادارة الاميركية تستدرك

بالطبع، وكما هي عادة ادارات الولايات المتحدة في مناطق اخرى من العالم وفي مراحل مختلفة سابقة، فهي تتمسك بـ"حلفائها" في "العالم الثالث" الى ان يصبح وضعهم الداخلي صعبا على المستوى الشعبي، الى حد لا يمكن تغطيته وتمريره امام الراي العام العالمي، وحتى امام الراي العام الاميركي نفسه، فتضطر، في ذلك الحال، وبالسياسة البراغماتية المعهودة لديها، ليس فقط للتخلي عن هؤلاء "الحلفاء"، وانما تذهب، حين يتلكاون، الى حد مطالبتهم علنا بمغادرة السلطة، والبحث عن ملجا لهم، حتى في الولايات المتحدة اذا لزم الامر، اذا كانوا يرغبون بذلك ولا يضر ذلك بالمصالح الاميركية اللاحقة في بلدانهم.

وهذا ما حدث في الفيليبين مع فرديناند ماركوس في العام 1986، بعد 21 عاما امضاها في سدة الرئاسة في هذا البلد الاسيوي الكبير نسبيا "اكثر من 90 مليون نسمة حاليا"، حيث سمح له الرئيس الاميركي انذاك، رونالد ريغن، باللجوء الى جزر هاواي الاميركية.

وهذا ما حدث بعد ذلك في العام 1998 في اندونيسيا، البلد الاكبر حجما والرابع في العالم من حيث عدد السكان "حوالي 240 مليون نسمة حاليا"، مع الجنرال سوهارتو، بعد ان امضى 31 عاما في الحكم، اثر انقلاب، في اواسط الستينيات الماضية، على مؤسس اندونيسيا الحديثة ورئيسها الاول احمد سوكارنو، دعمته وكالة المخابرات المركزية الاميركية، كما بات معروفا ومعلنا، بهدف القضاء على نفوذ الشيوعيين في اندونيسيا، حيث كانوا قوة رئيسية ومؤثرة في هذا البلد الكبير سكانيا، والمهم جغرافيا لقربه من ساحة الحرب المشتعلة في فييتنام. وقد ترافق هذا الانقلاب، بالفعل، مع تصفية جسدية لمئات الالاف من الشيوعيين او "المتهمين" بالتعاطف معهم.

وكانت فييتنام تشهد، في تلك الفترة تحديدا، تصعيدا واسعا لحرب عنيفة متزايدة الحدة في جنوبه، المسيطر عليه من قبل الاميركيين و"حلفائهم" المحليين، وضد شماله المستقل، وهي حرب خاضتها ادارة ليندون جونسون بثقل عسكري، تصاعد بشكل متسارع في النصف الثاني من الستينيات، في مناخ "الحرب الباردة" والصراع الغربي المحتدم في ذلك الحين مع الاتحاد السوفييتي و"البلدان الشيوعية" الاخرى، مثل الصين، التي كان الحزب الشيوعي في اندونيسيا قريبا من نهج الحزب الشيوعي الحاكم فيها.

وكان ذلك قبل ان تحدث الانعطافة الاميركية في مطلع السبعينيات، ابان ادارة نيكسون- كيسنجر، بالانفتاح على الصين الشعبية، في مناورة للاستفادة من الخلاف الصيني- السوفييتي الذي كان في اوجه في ذلك الحين. هذا، مع العلم بان الزعيم المخلوع سوهارتو لم يغادر اندونيسيا بعد الاطاحة به، وبقي فيها حتى وفاته في السنوات الاولى من القرن الجديد.

***

ولكن بعد ما جرى في تونس، ومن ثم في مصر، وحتى قبل انهيار النظامين السابقين فيهما، بدات واشنطن وعواصم اوروبا الاخرى تدرك ان شيئا كبيرا اخذ بالتفاعل في عموم المنطقة العربية، وانه من غير المستبعد ان تشهد دول المنطقة ظاهرة "الدومينو"، اي انجراف بلدانها، الواحد تلو الاخر، في عملية تغيير شبيهة، متاثرة بالنموذجين التونسي والمصري.

واذا كانت تونس بلدا صغيرا نسبيا "حوالي 11 مليون نسمة" محدود الموارد الطبيعية، خاصة في مجال مصادر الطاقة، ولا يحتل موقعا مؤثرا جدا في اطار استراتيجية الولايات المتحدة في عموم المنطقة، فالامر يختلف كثيرا بالنسبة لمصر، البلد الكبير "اكثر من 80 مليون نسمة" والمركزي والمؤثر على عموم المنطقة، والمرتبط باتفاقات ومعاهدات وصيغ من التعاون متعدد الاشكال مع الولايات المتحدة، ومع اسرائيل، خاصة بعد اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978 والمعاهدة المصرية- الاسرائيلية في اذار/ مارس من العام التالي. هذا، الى جانب كونه بلدا اقرب الى مركزي الاهتمام الرئيسيين لواشنطن في المنطقة، منابع النفط الخليجية وممراته، والدولة الاسرائيلية.

فلم تكد الحركة الشعبية المصرية تستعرض قوتها في ساحات القاهرة والمدن المصرية الاخرى، خاصة يومي 25/ 1 و28/ 1، حتى سارع احد المقربين جدا من البيت الابيض ومركز القرار في واشنطن، عضو مجلس الشيوخ ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه والمرشح السابق للرئاسة، جون كيري، الى نشر مقال في عدد يوم 31/ 1/ 2011 من صحيفة "نيويورك تايمز" تحت عنوان لافت للانتباه: "لنتحالف مع مصر القادمة". وهي دعوة واضحة للتخلي عن راس النظام المصري، وبدء فتح الخطوط مع الحركة الواسعة المناهضة لحكمه في مصر، او مع الاطراف الاخرى في النظام، وتلك ذات الحضور الشعبي في مصر. فقد انهى جون كيري مقالته بالكلمات التالية: "لثلاثة عقود، اتبعت الولايات المتحدة سياسة دعم لمبارك، والان علينا ان ننظر لما بعد عهد مبارك ونبلور سياسة مصرية جديدة".

وهي دعوة لم تلبث ان تلتها دعوات على مستوى اعلى وبصيغ لا تقل وضوحا، تطالب حتى بتنحي مبارك عن الحكم. ووصلت الدعوات الى مستوى الرئيس باراك اوباما نفسه، الذي بدات ادارته بالاتصال مع الاطراف المختلفة في الادارة المصرية، لدفع الامور باتجاه مخرج لا يزيد الامور تعقيدا، ولا يدفع حركة الشارع في اتجاهات اكثر تجذرا.

وكانت اوراق "ويكيليكس" قد نقلت تساؤلات دبلوماسيي الادارة الاميركية في القاهرة، قبل التطورات العاصفة الاخيرة في مصر، حول احتمالات تطور الوضع في البلد بعد وصول حسني مبارك الى سن متقدم، حيث كانت احدى رسائل سفيرة واشنطن في القاهرة، مارغريت سكوبي، الموجهة الى وزارة الخارجية الاميركية في ايار/ مايو 2009، قد توقعت ان يبقى رئيسا مدى الحياة. وكان ذلك قبل اقل من عامين على اضطراره للتنحي عن الحكم.

اما في اسرائيل، الحليف الرئيسي لواشنطن في المنطقة، فبعد التطمينات الذاتية الاولية لبعض السياسيين هناك، والمؤكدة لسيطرة نظام مبارك على الوضع واستبعاد تكرار التجربة التونسية في مصر، بدات تسريبات واشارات واضحة تفيد بحجم القلق الذي ينتاب الاوساط الاسرائيلية النافذة من عواقب رحيل نظام مبارك وخروج المارد الشعبي المصري من قمقمه. فقد نقلت محطة "سي ان ان" الاخبارية الاميركية يوم 29/ 1/ 2011 عن الوزير الاسرائيلي السابق بنيامين بن اليعيزر، وهو من حزب العمل، ومن اصل عراقي، وكان على اتصال مستمر مع الرئيس المصري حسني مبارك خلال فترة الانتفاضة الشعبية في مصر، قوله للتلفزيون الاسرائيلي ان مبارك اكد له في اتصال هاتفي ان القاهرة ليست "لا بيروت ولا تونس"، وان "السلطات المصرية تعرف ما يجري وانها جهزت الجيش مسبقا".

وفي حديث لاحق يوم 3/ 2/ 2011 مع اذاعة الجيش الاسرائيلي، قال بن اليعيزر عن مبارك: "انه وقف الى جانبنا طوال 30 عاما، كان قائدا قويا، وحافظ بكبرياء على التزامات السادات وواصل السير على دربه". واضاف: "هناك شيء واضح، وهو انه، من وجهة نظرنا، هذه خسارة هائلة". وكان بن اليعيزر يعقب على احاديث مبارك الاولى عن امكانية مغادرته للسلطة في وقت لاحق من العام 2011، حيث كان من المفترض ان تجري الانتخابات الرئاسية.

وبعد ان تنحى مبارك فعلا، يوم 11/ 2/ 2011، خرج بعض المعلقين الاسرائيليين بكتابات وتصريحات كانت تدخل ايضا في مجال طمانة الذات، لتؤكد على ان شبان وشابات ميدان التحرير في القاهرة وميادين وشوارع المدن المصرية الاخرى ركزوا على مطالب تتعلق بالوضع الداخلي المصري وبالحرية والديمقراطية، ولم يرفعوا شعارات مناهضة لاسرائيل والولايات المتحدة. وهي طمانة ذاتية لم تعمر طويلا، بعد ان بدات تظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني في القاهرة ومدن مصرية اخرى ترفع اعلام فلسطين، وتطالب بانهاء وجود السفارة الاسرائيلية من القاهرة.

التعامل "الخارجي" اللاحق على الاطاحة بنظامي تونس ومصر

اما الدول الاوروبية، التي تاخرت ايضا في اتخاذ مواقف حاسمة لصالح مطالب المنتفضين المصريين، ومعظمها كان له مصالح ويقيم علاقات قوية مع نظام مبارك، فقد وجدت في بدء الحركة الانتفاضية في ليبيا، بعد ايام قليلة من تنحي حسني مبارك في مصر، وفي ردة فعل العقيد معمر القذافي العنيفة والدموية على هذه الحركة، فرصتها للتعويض عن تلكؤها في استيعاب ابعاد ومالات الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر.

خاصة وان العقيد القذافي، بالرغم من كونه قد قدم تنازلات كبيرة للولايات المتحدة والدول الاوروبية الغربية بعد اجتياح العراق في الشهر الثالث من العام 2003، تحسبا من التعرض للمصير ذاته في مناخات ادارة جورج بوش الابن و"محافظيه الجدد" الهجومية في المنطقة، يعد خصما سهلا بالنسبة لبلدان الغرب بسبب سياساته السابقة في المنطقة وخارجها، واتهامه في الماضي بدعم المنظمات والعمليات "الارهابية"، بما في ذلك في اوروبا، ومواقفه المتقلبة باستمرار في العديد من القضايا. ولم تكن مفاجاة كبيرة، بالتالي، ان يكون الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، المعروف بنزعته اليمينية وقربه من مدرسة "المحافظين الجدد" الاميركيين، اول رئيس غربي يستقبل وفدا من المعارضة الجديدة للنظام الليبي في قصر الايليزيه، ويذهب الى حد المبادرة بالاعتراف الرسمي، يوم 10/ 3/ 2011، بالمجلس الوطني الانتقالي الذي شكلته هذه المعارضة في مدينة بنغازي. وهو اعتراف سبق كافة الدول الاخرى، حتى العربية منها "كانت قطر اول دولة عربية تعترف بالمجلس، وكان ذلك يوم 28/ 3".

فهكذا، فيما كانت الثورة الشعبية التونسية مفاجاة كاملة للعالم الخارجي، وكذلك النجاح السريع للثورة الشعبية المصرية في الاطاحة براس النظام، اصبح واضحا بعد ذلك للعالم كله ان هناك ريحا واسعة تهب على المنطقة العربية، وليس فقط على تونس ومصر، وهي ظاهرة اطلقت عليها بعض وسائل الاعلام الغربية وبعض المسؤولين هناك تعبير "الربيع العربي"، كما اوردنا، بحيث بات متوقعا ان تمتد لتشمل بلدانا عربية اخرى. وهو سرعان ما حدث مع ليبيا منذ اواسط شباط/ فبراير، كما راينا، ثم مع اليمن والبحرين وسوريا، وكذلك، باشكال ودرجات متفاوتة وسقف مطالب مختلف بعض الشيء من بلد لاخر، مع كل من عمان والجزائر والمغرب والاردن، وحتى العراق.

وبدات التشبيهات ترد في تقارير صحافية او كتابات لمؤرخين مع ما حدث في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي بين العامين 1989 و1991، وحتى مع الثورات القومية التي شهدها عدد من بلدان اوروبا في اواسط القرن التاسع عشر، وتحديدا في العام 1848. وذلك بعد ان كان احد المؤرخين الفرنسيين قد شبه الثورة الشعبية التونسية في مراحلها الاولى، وقبل تفجر الثورات العربية الاخرى، بالثورة الفرنسية الكبرى التي انفجرت في اواسط العام 1789، اي قبل تلك الثورات القومية الاوروبية باكثر من نصف قرن.

وجاءت ردود الفعل على المستوى الشعبي في انحاء العالم مرحبة ومتعاطفة على نطاق واسع، واحيانا الى حد الانبهار بهذا النمط الجديد من التحرك الشعبي الجارف الذي قادته افواج الشبان في بداياته، ليتحول بعد ذلك الى حراك شعبي واسع في العديد من البلدان العربية.

وهذا المناخ الشعبي العالمي دفع بعض الحكام الغربيين الى التعاطي الايجابي اللاحق، في الخطاب الرسمي على الاقل، مع هذه الثورات والانتفاضات العربية. وهو ما عكسه، مثلا، خطاب الرئيس الاميركي باراك اوباما الشهير في مقر وزارة الخارجية الاميركية يوم 19/ 5 الماضي، حيث استعاد بعض الكلمات والشعارات المؤثرة بالنسبة للراي العام الاميركي، مثل الحرية والديمقراطية والكرامة. لكن كل هذه الصيغ الخطابية والتصريحات الرسمية في العديد من الدول الغربية، وغير الغربية، لم تستطع ان تخفي بعض اشارات القلق لدى الاوساط الحاكمة واصحاب الشركات والمصالح الكبرى العالمية في منطقتنا، خاصة وان الثورات بدات تقترب من مناطق حساسة بالنسبة لمصالح هذه الدول وللاقتصاد العالمي بشكل عام، وتحديدا مناطق النفط والغاز الطبيعي في الخليج "الفارسي".

ومن منطلق مختلف تماما، ذهب احد الفلاسفة الفرنسيين اليساريين المشهورين عالميا، الان بوديو، الى حد الحديث عن الاهمية التاريخية بالنسبة للعالم لهذه "الريح الاتية من الشرق"، في مقالة له نشرت في صحيفة "لوموند" الفرنسية بتاريخ 18/ 2/ 2011، وحملت عنوان "تونس، مصر: عندما يقوم ريح من الشرق بكنس العنجهية الغربية".

من جانبه، عنون استاذ السياسة في جامعة سيدني باستراليا، جون كين، مقالة نشرها موقع استرالي على شبكة الانترنت في 1/ 5/ 2011، بالكلمات التالية: "العالم العربي: نموذج جديد لثورة حضارية". وجاء فيه: "اذا اجرينا مقارنة، فان التمردات الشعبية في العالم العربي قد اخذت روح عام 1989 للتمردات "المخملية" غير العنيفة في وسط وشرق اوروبا الى مستوى ارقى". ويضيف: "ان الثورات العربية اوجدت فراغا اقليميا في النفوذ. وهي تشكل انتكاسات كبيرة لاسرائيل، وللولايات المتحدة ولحلفائها"... "ان عدم نجاعة مفاوضات الاتحاد الاوروبي لوضع حد لسياسة اسرائيل المتشددة في وضع اليد على الارض بات واضحا، كما هو الصمت المدوي لاسرائيل حول كيفية تعاطيها مع هذه التطورات غير الواضحة الجديدة". وانتهى الى القول: "ان الصبر المفروض على الفلسطينيين لتحمل وضعهم البائس لا يمكن ان يستمر".

وهكذا، فان مشاهد الجموع العربية المتدفقة على الساحات، وخاصة على ميدان التحرير الواسع في القاهرة، في مواجهة الة قمع رهيبة استمر فعلها، في الماضي، لعقود طويلة، الهمت العديد من الشبان والقطاعات الشعبية، ليس فقط في المنطقة العربية، وانما في بلدان ومناطق اخرى من العالم، من اذربيجان، الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة شمالي ايران، الى اسبانيا، البلد العضو في الاتحاد الاوروبي، وحتى الى ولاية ويسكنسن الاميركية، ومؤخرا حتى، وان بسقف مطلبي محدود دون اي بعد سياسي، الى اسرائيل نفسها.

لكن، كما ذكرنا، تنبهت القوى الخارجية النافذة لهذه العاصفة الكبرى التي هبت على المنطقة العربية. وهي سعت، بعد ذلك، من جهة، الى التاثير على تطورات الوضع الناشئ عن الاطاحة بالنظامين الحاكمين سابقا في تونس ومصر، ومن جهة اخرى، الى استباق مثل هذه التطورات في بلدان عربية، او غير عربية، اخرى، بحيث يتم التاثير على الوضع في كل حالة باتجاه لا يضر بمصالح الدول الخارجية المعنية، سواء عبر دعم قوى معينة في الحركات الانتفاضية والسعي لتنمية دورها على حساب قوى وتيارات شعبية اخرى اكثر جذرية، او عبر دعم الانظمة القائمة عبر اقناعها ودفعها لمحاولة امتصاص جزئي لغضب المنتفضين، وخاصة من خلال اجراء بعض التجميل في النظام السياسي القائم وبعض التخفيف لتازم الوضع المعيشي للسكان، وخاصة في البلدان الحليفة لتلك القوى الخارجية، والغربية منها بشكل محدد.

وقد تحدثنا عن التدخل العسكري والسياسي الغربي في ليبيا لاسناد الحركة الانتفاضية هناك. ومن جهة اخرى، شهدت مملكة البحرين تدخلا من دول خليجية اخرى بالاتجاه الاخر، اي باتجاه اخماد التحرك الشعبي. كما هناك محاولات تدخل اميركي وسعودي في اليمن لضمان عدم فلتان الوضع في بلد فقير جدا، لكنه متاخم لبلدان النفط الرئيسية في المنطقة ويقع في منطقة استراتيجية للممرات المائية. وهذه التطورات كلها حكمتها اوضاع وحسابات مختلفة عما كان الحال عليه في ثورتي تونس ومصر. فمن جهة، تنبه الحكام العرب الاخرين الى "نقاط ضعف" نظامي تونس ومصر، ومن جهة اخرى، دخلت القوى الخارجية على خط مباشر من الفعل والتاثير، لم يكن متاحا لها بنفس القدر في التطورين الخاطفين في تونس ومصر.

** - هذه المادة هي تطوير لجزء من مادة طويلة تم انجازها منذ بضعة اسابيع للنشر في احدى الدوريات الدراسية الفلسطينية حول "الابعاد الخارجية للثورات والانتفاضات الشعبية العربية".

*داود تلحمي