السلطان أردوغان والوعد المكذوب

السلطان أردوغان والوعد المكذوب
الخميس ١٥ نوفمبر ٢٠١٢ - ١٢:٢١ بتوقيت غرينتش

جاءت واقعة كشف حاوية الأسلحة القادمة من تركيا إلى ميناء عدن متسترة تحت زعم كونها شحنة بسكويت !! لتكشف على نحو لا لبس فيه أن الزعيم التركي أردوغان موعود حقاً بأن يصير السلطان للشرق الأوسط الجديد بعد أن تقتطع إسرائيل منه ما تريد . وفي هذه اللعبة الجهنمية هناك أعراب يؤدّون دور الخصيان في خدمة مشروع السلطان .

وصولُ أسلحة أردوغان إلى عدن , وتجرؤه على اليمن , أعاد إلى ذاكرتي بالتداعي قصة جدّي وإخوته الذين كانوا رعايا في سلطنة العثمانيين .

كانوا أربعة طالهم النفير للحرب العالمية الأولى من بين خمسة إخوة :
- أصغرهم هجرس أخذه العثمانيون إلى جبهة سيناء بمواجهة اللنبي ومن معه من حلفاء , وعلمنا بأمر استشهاده وهو يذود عن حياض السلطنة .
- أخوه عبد الله أخذه العثمانيون إلى جبهة اليمن , وانقطعت أخباره , فلا نعلم شيئاً عن مصيره .
- جدّي عبد الرحمن أخذوه إلى الشمال , وشارك بالحرب حتى انتهت بالهزيمة وعاد إلى بيته .

وعاش ليحدثنا نحن أحفاده بما رأى . ولم يخطر ببالي مطلقاً – وقد كنت طفلاً - أنّ حديثه يمثل شهادةً تاريخية ذات أهميّة تستوجب التسجيل والتوثيق . فقد كان يحدثنا عن معركة حاصروا فيها مدينة يقطنها قوم كان يطلق عليهم تسمية " الأرمل " , وكيف أن " الأرمل " هزموا فنكل بهم العثمانيون شرّ تنكيل , حيث كانوا يقتلون الرجال جميعاً دون استثناء ويستحيون النساء , ولكن بعد تفتيش حتى الأعضاء التناسلية للنساء بحثاً عن الذهب خشية أن يقمن بالهروب ومعهن شيء من تحويشة العمر , مما يعني أن سلطنة آل عثمان في آخر أيامها لم تكتف بقتل الأرمن بل ونهبت ما بقي معهم من مال .

وقدّر لي منذ سنوات أن أزور لواء اسكندرون . وتكرّم مستضيفونا باصطحابنا في رحلة اطلاعية إلى جبل موسى حيث توجد كنيسة أرمنية , وبقايا مدينة . وحين وقفت أتفرّس في جغرافيا المكان بدا لي أنه الموقع الذي كان جدّي قد أجبر على أن يحارب فيه " الأرمل " بعد أن بتّ أعرف أنهم الأرمن . لكن تخميني قد لا يكون دقيقاً بالضرورة . ففي زيارة سابقة لي إلى رأس العين في محافظة الحسكة جلسنا عند نبع الخابور , وعلمت أن الأرمن في تلك البقعة لا يأكلون السمك الذي يتواجد في النبع وفي النهر بكثرة , لأنهم يعتقدون بأنه ما زال يحتفظ ببقايا لحم أجدادهم الذين قتلهم العثمانيون وألقوا بجثامينهم في النبع لتكون طعاماً للأسماك .

والغريب أن السلطان أردوغان المتنور يرفض الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت ضدّ الأرمن ربما حتى لا يطالبه أحد بالتعويض عن القتلى وبإعادة ما نهب من الأموال والذهب . والأغرب أن المسلحين الذين يقف من ورائهم أردوغان ارتكبوا مجزرة مشابهة في حماة , وألقوا بجثث ضحاياهم في نهر العاصي لتكون طعاماً للأسماك . وما هو أغرب وأغرب أن يتعرّض أهالي رأس العين خلال الأيام الماضية لهجمة أردوغانية تكرر ما فعله أجداده منذ حوالي قرن من الزمن . والله وحده يعلم كم من أهلها بما فيهم بعض الأرمن تعرضوا للقتل وألقيت جثامينهم في نهر الخابور ليكونوا طعاماً للأسماك , مما يجعل جميع السوريين يشاركون الأرمن في الامتناع عن أكل أسماك النهر التي أكلت لحم أهلهم .
- الأخ الرابع كان محمد أبو غنيم { الكبير } . وقد اختار أن يتمرّد , فرفض الالتحاق بالجيش العثماني . وسجّل حالة فرار متخذاً من جبل أبو غنيم جنوبي القدس حصناً له ممارساً دور قاطع الطريق .

وما إن وصل اللنبي إلى القدس حتى تحوّل إلى ثائر يشن الهجمات المتواصلة على الانجليز وانضم إليه العديد من الثوار . فكان أول من أطلق النار على المستعمر البريطاني في فلسطين . ولا مجال هنا لسرد قصته , ولكنه بعد أن نجح الانجليز في القبض عليه بالحيلة , وتعذّر عليهم إعدامه غيلة بسبب علاقته مع عشائر بني صخر في شرقي الأردن مهدّدين الانجليز ومتوعدين , حكم عليه بالسجن المؤبد , فأمضى فترة من الزمن في السجن ثم خرج إلى الحياة وعاد إلى حمل السلاح والقتال ضد الانجليز واليهود حتى كانت النكبة . وعاش طويلاً بعد ذلك إلى أن توفي في مخيم البقعة بعمان , فأثبت في قصته أن التمرد والثورة والكفاح سبيل إلى الحياة .

قصة هؤلاء الإخوة تلخّص الحرب العالمية الأولى ومأساة العرب فيها . فمن يدري إذا كان هجرس قد استشهد برصاص الانجليز أو برصاص عرب الشريف حسين الذين جندوا في خدمة الانجليز على وعد نيل استقلالهم والسلطان فيما أسموها بالثورة العربية الكبرى وخدعوا , وإذا بوعد استقلالهم يتحوّل إلى وعد بلفور ؟ . ومن يدري إذا كان عبد الله قد استشهد برصاص خصوم العثمانيين أم أنه اختار التمرد على السلطان العثماني وشق لنفسه طريقاً في الحياة في اليمن بعيداً عن الوطن ؟ . وأما مأساة عبد الرحمن فتتمثل في أنه زجّ ليكون شاهداً في مذبحة ضدّ " الأرمل / الأرمن " لا ناقة له فيها ولا جمل . ويبقى خيار محمد أبو غنيم { بطل جبل أبو غنيم } هو الخيار الوحيد الخارج عن العبثية الاستعمارية , لكنه أيضاً يعكس الانقسام الذي كان قد حصل حتى داخل العائلة الواحدة مثل الانقسامات التي تحدث الآن بسبب المؤامرة التي يشارك في إدارتها أردوغان .

لعل السؤال الكبير الذي يخطرُ بالبال الآن هو التالي : ألا يعقلُ بأن تكون الوعود المزجاة إلى رجب طيّب أردوغان مماثلة للوعود التي أعطيت لشريف مكة في أن يتزعم الدولة العربية المشرقية بعد تحقيق استقلالها عن العثمانيين ؟ أو أن تكون هذه الوعود مثل تلك التي أزجيت لصدام حسين لتحريضه على خوض الحرب ضد إيران { دفاعاً عن البوابة الشرقية } ثم نكص عنها أصحابها بعد ذلك وأنشبوا مخالبهم فيه إلى أن أعدموه ؟ .

إن ما نحن على ثقة منه هو أن الصلف الصهيوني الماكر والصلف الامبريالي الجائر لن يسمحا بتوحيد المنطقة فعلياً لا تحت زعامة أردوغان ولا تحت زعامة سواه من أبطال الصلف الرجعي الفاجر , وأن كلّ ما يسعون إليه هو أن يقوّضوا عناصر القوة في المنطقة بحيث تصير سهلة الأخذ من قبل الصلفيين الصهاينة والامبرياليين , تماماً مثلما حدث خلال الحرب العالمية الأولى حين أحدثوا الشرخ بين العرب وبين الأتراك العثمانيين , فأزالوا السلطنة العثمانية , وصادروا حلم العرب بالاستقلال , وقاموا بتقسيم الوطن العربي , وساعدوا ملك الرمال عبد العزيز آل سعود في مواجهة شريف مكة الموعود , وانتهى شريف مكة الموعود مبعداً أو منفياً إلى قبرص . وأسسوا على أرضية هذه التغييرات لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين .

قد يكون بوسعنا أن نصدّق بأن خالد مشعل صادقٌ فعلاً في مبايعته لأردوغان , فمن يكون طموحه إقامة إمارة حماس في غزة – ولو كهدف مرحلي – سيرى في مبايعة الباب العالي في أنقرة وسيلة – ربما كانت معقولة - لفك الحصار عن الإمارة في غزة , بغض النظر عن بقية الحسابات المعقدة المتعلقة بقضية فلسطين . ولكن كيف نفهم أن يقبل الملك السعودي أو الرئيس المصري أو أي حاكم عربي آخر الذهاب إلى هذه البيعة لأردوغان بكل بساطة ؟ .

إن ما يحدث في الوطن العربي الآن ليس تجميعاً بل فرطاً " لحبّة الرمّان " . وأمامنا نموذجا الصوملة والسودنة اللذان تجري محاولة نقلهما إلى أقطار أخرى مثل مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا .. والحبل على الجرار . ولا نظنُّ أنّ هذا كله يتم من أجل عيون أردوغان أو في سبيل إحياء سلطنة آل عثمان . فما من سلطان في الوطن العربي – ومهما كان حجم انخراطه في المؤامرة – مستعد أن يتحوّل إلى تابع . حتى حاكم مشيخة قطر التي هي " ميني دولة " أقنعوه بأن اللعبة التي ينخرط فيها ستكفل له التحول من مشيخة إلى مملكة وعلى حساب حلفائه وجيرانه الأقربين آل سعود , فهو لا يتابع التآمر وإنفاق المال وممارسة التضليل من أجل عيون أردوغان بل من أجل عيون نفسه . وهنا يتساءل المرء : وماذا عن آل سعود ؟ . هل هم يتصرفون تصرّف العبطاء أو المغفلين أم أن لهم وعدهم غير المعلوم ؟ .

دعونا نتذكر أن الشريف حسين استغفل من قبل ووعد بالسلطان , وأن مؤسس مملكة آل سعود مارس لعبة التآمر مع كوكس ولورنس ضد الشريف حسين الذي استغفل , وهم يتعاملون الآن مع مؤامرة يعلم الله وحده بغاياتها الحقيقية سواءٌ تجاههم أو تجاه أردوغان أو تجاه أيّ طرف آخر . ولكن لا بد وأن يكون الصلفي الأمريكي الجائر قد أقنع كل طرف بسيناريو ما يحفظ له مصالحه وأكثر , وعمّى على أعينهم حتى لا يروا حقيقة المصير المرسوم للجميع , فظن كل منهم أن اللعبة تتم لحسابه , وليس على حسابه .

لا ريب أن سلوك أصحاب الصلف الفاجر من الرجعيين أعراباً وأغراباً في المنطقة يعكس حالة انعدام الفهم لحقيقة ما يدبّر , أو انعدام القدرة على التمرّد على التعليمات التي تأتيهم من علٍ . فالحقيقة المرّة هي أنّ الأمور تتم لصالح أصحاب الصلف الماكر والصلف الجائر , بينما أصحاب الصلف الفاجر مجرد أدوات طيّعة يمكن استخدام بعضها في اللعب ثم تلقى بعد ذلك بعيداً ما لم تشيّع إلى القبر .

ربما قيل : كيف نصنّفُ وضعهم على هذا النحو إذا كانوا خاضعين مسبقاً لأصحاب الصلف الماكر والجائر ؟ . ونقول : أما كان زين العابدين بن علي وحسني مبارك خاضعين للغرب سائرين في فلكه ؟ . ألم يأتِ استهداف القذافي بعد أن حاول إرضاء الغرب بكل السبل والوسائل ؟ . فبماذا يختلف وضع أصحاب الصلف الفاجر الآخرين عن أوضاع هؤلاء ؟ . هم أيضاً يمكن أن تصدر الأحكام بإعدامهم سياسياً أو جسدياً إذا تطلبت المصلحة الاستعمارية والصهيونية ذلك . ولا توجد عند أصحاب الصلف الماكر والجائر " ذقونٌ ممشطة " .

لقد جرفت مجرفة الربيع الأميركي العديد من الرؤساء التابعين لأميركا في طريقها للوصول إلى سورية , ولما هو بعد سورية . واستهدافهم لسورية ليس نهاية المطاف , بل هو جزء من المرحلة الأولى للخطة الجهنمية التي تشمل المنطقة بكاملها , بل والعالم بأسره . ولمن يشك في صحّة هذا التحليل نقول : انظروا إلى ما يحدث اليوم في مصر وليبيا وتونس بين من أعطتهم أمريكا صفة " الإسلام المعتدل " وبين الصلفيين الذين يدّعون أنهم سلفية مجاهدة من القاعدة وغير القاعدة لتروا أن مشاهد الفيلم الذي يجري تمثيله على أرض الواقع لم تكتمل بعد . فصعودُ بطل على حساب بطل لا يعني أن الصراع اكتمل لأنّ من يعتبر نفسه " بطل الأبطال " ينتظر اللحظة المناسبة التي ينقضّ فيها على الجميع . و" بطل الأبطال " هذا هو الصلف الماكر وليس الصلف الفاجر . وعندها فقط سيكتمل " الربيع " .

فلا يغرننا أن نرى الآن في سوق النخاسة والنجاسة من يشتري أو يبيع , فما هو إلا زبون لحظة عابرة في مسار الصراع . إنهم يحرثون على ظهر البعض ثم يقذفونهم مثلما تقذف النواة من التمرة . وهم بحاجة الآن إلى الدور الذي يلعبه أردوغان في التآمر على سوريا بالذات , ولكن متى انتفت هذه الحاجة لسبب أو لآخر , فإن وعدهم له سيسحب مثلما سحب الوعد من الشريف حسين . فالذين فككوا السلطنة العثمانية قبل حوالي مائة سنة لن يسمحوا بعودتها إلى الحياة الآن .

والذين منعوا العرب من إقامة دولة واحدة مستقلة بزعامة حليفهم الشريف حسين وخذلوا هذا الحليف سيخذلون أردوغان أيضاً الآن . وهذا الخذلان سيحدث في حالة نجاح مؤامرتهم في كل فصولها , فكيف إذا ما أفشلت سوريا بالذات أهم هذه الفصول وقلبت السحر على الساحر ؟ .
إن الوعد لأردوغان – إن صحّ أنه موجود - هو وعدٌ مكذوب , ليس لأنه شخصياً غير مرضيّ عنه أمريكياً وإسرائيلياً , ولكن لأن وحدة المنطقة – وعلى أيّ مستوى كان – تعتبر خطراً على المشروع الصهيوني . ومن هنا فإن أردوغان إذ يتصوّر إمكانية تحوّله إلى سلطان وامتداد سلطانه من تركيا إلى موريتانيا – باستثناء ما تسيطر عليه إسرائيل سيطرة مباشرة - إنما يعيش وهماً خدّاعاً . فالقوى المعادية لا يمكن أن تمكن أحداً أياً كان من تحقيق هدف الوحدة في المنطقة على أي مستوى كان . والدليل الحي على صحّة ذلك ما نحن فيه الآن .

فالمخطط التآمري الراهن يتمثل هدفه الفوري والمباشر في تقويض محاولة التشبيك الاقتصادي بين دول المنطقة , والذي كانت تركيا وسوريا وإيران والعراق تشكل أهم أطرافه . وإذا كان البعض يعتقدون بأن جماعة الإخوان المسلمين والحركات التي في حكمها يمكن أن تنجز هدف توحيد المنطقة , وأن أردوغان يراهن عليها أن تبايعه , فإن هذا الاعتقاد لن يكون صحيحاً إلا في حالة القدرة على تحدّي أميركا وإسرائيل وقهرهما , وليس على قاعدة التفاهم معهما أو الولاء لهما . ومن المؤكد أنه يوم يقوم أيّ زعيم في المنطقة بقهر إسرائيل وتحرير بيت المقدس فإن كل الجماهير الشعبية في المنطقة ستبايعه بالزعامة . فإذا كان أردوغان يسعى إلى السلطان , فإن الطريق الوحيد إلى هذه الزعامة هو الطريق إلى تحرير بيت المقدس .

ونحن نعرف أن تحرير بيت المقدس يعني تحرير فلسطين . وتحرير فلسطين يعني زوال الكيان الدخيل الذي يتطلب استمراره الحيلولة دون وحدة المنطقة . أما أن يفكر أردوغان بنيل منصب السلطان من خلال طعن سوريا ومحور المقاومة , والتعاون مع الكيان الصهيوني , والتبعية لأميركا , فهذا يعني أنه يحلم بالمستحيل . إنه قد يمكن الصهاينة من إقامة " إسرائيل الكبرى " لكنه لن يحصل بالمقابل على " السلطنة الإسلامية أو العثمانية الكبرى " .

بل إن كيان تركيا نفسها قد يكون عرضة للتفكيك حتى تكف عن التفكير بمثل هذا الحلم الذي يمكن أن يزعج إسرائيل الكبرى في وقت ما .

*عبدالرحمن غنيم - اسلام تايمز

كلمات دليلية :