في ذكرى شهادة من بكته ملائكة السماء

في ذكرى شهادة من بكته ملائكة السماء
الأحد ٢٥ نوفمبر ٢٠١٢ - ٠٢:٥٣ بتوقيت غرينتش

عندما ايقن الامام الحسين عليه السلام في اليوم التاسع من محرم، من انه لامناص من المواجهة لانه لاعودة له ولارجوع عن القرار: (ان مثلي لايبايع يريد) فان کان ولابد؛ فما زال يردد القول" لااري الموت ألا سعادة والحياة مع الظالمين ألا برما" ومازال يحمل شعاره الذي ورثه عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وخاطب به الجيش الاموي قبل ايام: (ايها الناس أن رسول الله (ص) قال: من راي سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ماعليه بفعل ولاقول کان حقا علي الله ان يدخله مدخله).

يئس الحسين عليه السلام من هذا القطيع المسلوب الوعي والارادة الاهث وراء المغانم والحطام فطلب من اخيه العباس ان يفاوضهم علي اعطائهم، مهلة تمتد طوال ليلة العاشر من المحرم ليعطي قراره الحاسم، عرض العباس ذلك الطلب فوافق عليه عمر بن سعد وارکان جيشه ان يمهلوا الحسين عليه السلام ليلة واحدة.   
ولم يکن طلب الحسين عليه السلام تأجيل قراره الي غد لغرض التفکير في الامر وحساب الموقف، فانه قد فرغ من ذلك وبدا کل شيء أمامه واضحا إنما أراد أن تکون هذه الليلة - وهي آخر ليلة له من الدنيا - ليلة عبادة ودعاء وليلة وداع ووصية مع الاهل والاحبة فهو يدري مايخبئه الغد.
جن الليل وأرخي الصمت سدوله وهدأ الطير والهوام ونامت جفون الخلائق کلها، ألا آل محمد صلي الله عليه واله وسلم وأنصارهم، باتوا ليلتهم بين داع ومصل وتال للقرآن ومستغفر، بين مودع وموص بأهله وبأبنائه ونسائه، فکان لهم دوي کدوي النحل وحرکة واستعداد للقاء الله سبحانه يصلحون سيوفهم ويهيؤون رماحهم.
باتوا تلک الليلة ضيوفا علي الرحمن في أحضان کربلاء وبات التأريخ أرقا ينتظر الحدث الأکبر ومايتمخض عن ميلاد الصباح.. فغدا سيخط بمداد الدم المقدس القاني أروع کتاب في عمر الانسان واکبر مجزرة في التاريخ البشري وافجعها علي مر العصور والدهور الي يوم القيامة. 
الحسين عليه السلام يودع أهله وأحبائه ويوصي آخر وصاياه ويعهد بآخر عهد له وقد أستسلم للقدر وباع نفسه لله وقرر أن يسقي شجرة الهدي والايمان بغزير دمه الشريف وفيض معاناته.
مضت تلک الليلة ومضي معها تاريخ طويل وها قد ولد اليوم العاشر من المحرم يوم الدم والجهاد والشهادة يوم اللقاء والمصير، يوم سوف يستمطر السماء فيه دما ودموعا على فراق العترة الطاهرة.
نظر الحسين عليه السلام الي الجيش الزاحف وتأمل به طويلا ولم يزل الحسين کالجبل الشامخ فقد اطمأنت نفسه بذکر الله تعالي وهانت دنيا الباطل في عينه وتصاغر الجيش أمامه فلم ترهبه کثرة أعدائه وتدافع سيوفهم ورماحهم نحوه ونحو بيت أهله واصحابه فاتجه نحو ربه رافعا يد الضراعة والابتهال الي الله تعالي وراح يناجي:
( اللهم أنت ثقتي في کل کرب، وأنت رجائي في کل شدة، وأنت لي في کل امر نزل بي ثقة وعدة،  کم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشکوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته عني فانت ولي کل نعمة وصاحب کل حسنة ومنتهي کل رغبة).
کانت تلك البداية منطلق الکارثه التي ذهب ضحيتها سليل النبوة وامام المسلمين الحسين بن علي بن ابي طالب سبط الرسول الاکرم صلي الله عليه وآله وسلم وريحانته.
وهکذا بدأ شلال الدم الطاهر ينحدر علي ارض کربلاء وسحب المأساة تتجمع في آفاقها الکئيبة وتساقط الشهداء من اصحاب الحسين وأهل بيته عليه السلام الواحد تلو الاخر .... وجاء دور ذخيرة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، ليوم الطف ونصرة الحسين في کربلاء .. وسقط العباس عليه السلام، وهو يسبح بدم الشهادة ويثبت لواء الحسين الذي حمله يوم عاشوراء في ارض کربلاء إلي الأبد لاتبليه الأيام ولا تطأطيء هامه للطغاة.
وراح الحسين يناجي ربه (اللهم اني اشکو اليك مايفعل بابن بنت نبيك).
نظر الحسين عليه السلام الي ماحوله مد بصره الي اقصي الميدان فلم ير احدا من اصحابه واهل بيته الا وهو مضرج بدم الشهادة مقطع الاوصال فراح يردد کلماته الخالدة:
سأمضي وما الموت عار علي الفتي         إذا مانوي حقا وجاهد مسلما   
وواسي الرجال الصالحين بنفسه            وفارق مثبورا وخالف مُحرما 
فان عشت لم اندم وان مت لم الم            کفي بك ذلا ان تعيش وترغما
اذن هذا هو اليوم الموعود الذي اخبر به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وتلك هي تربته التي بشر بها من قبل.
وأخيرا عانق الحسين عليه السلام صعيد الطفوف استرسل جسده الطاهر ممتدا علي بطاح کربلاء، ويجري من شريان عنقه شلال الدم المقدس إلا أن روح الحقد والوحشية التي ملات جوانح الطغاة لم تکتف بذلك الصنيع ولم تستفرغ احقادها الجاهلية في حدود هذا الموقف بل راحو بقطع الراس الطاهر من جسده الشريف وقطعوا غصنا من شجرة النبوة، الراس الذي طالما سجد مخلصا لله وحمل اللسان الذي مافتىء يردد ذکر الله تعالي وينادي (لااعطيکم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد).
فالحسين مر خلال کل هذه الفترة نشيدا يتغني به الاحرار والحسين مر خلال هذه الفترة حقا يرهبه الباطل، الحسين مر خلال هذه الفترة ثروة تغني بها الشعوب اذا ماتت فيه الضمير. 
فالحسين عاش منذ لحظة ولادته الي يومنا هذا .. وکم سيعش في المستقبل؟ .. وقطعا انه سيبقي مابقيت الدنيا وسيظل خالدا مابقي الخلود فان المبدأ الحر لايقتل وکل عرق قطعوه من عروقک سيدي لهو بوجه الظلم والغي صارم مسلول ... أکثر من اربعة عشر قرن مر والاجيال تراك سيدي ابا عبدالله حيا لاتموت لان الانبياء والائمة والشهداء لايموتون .. ان عطر شهادتك تعطر الدنيا بأريجها .. وهل صنع الحياة في الدنيا ألا الشهداء؟ .. ستبقي الدنيا مدينة للشهداء .. فالشهداء احياء مهما امتدت الدنيا .. وما اکثر الاعمار وهي تمر خاليه بالأمجاد في حين يوم واحد طافح بالامجاد لهو کل الحياة .. فالحسين عطاء للاسلام وللانسانية کلها، قبل ان يکون عطاء لفئة .. الحسين ومضة من محمد .. الحسين روح ممتد من محمد .. الحسين موقف من محمد .. الحسين نبع طاهر من علي وفاطمة .. فکل مسلم واع ما مد يدية الي هذا النبع الا وارتد مملوءا بالعطاء ... الحسين حمل الشهادة علي يدية شعار عنوانا وشمعة يبدد بها ظلام الاستبداد والطغيان والجهل.  
فسلام عليك ياعبير البطولة .. والسلام علي التراب الذي رفع المبدأ لواءا تمر الانسانية به فتسجد لبريقه وروعته اجلالا واکبارا.    
والسلام علي تلك البقاع وعلي شواطيء نهر شهدت شفاه عطشي وقلوب حري ولکلنها شبعت من رحمة الله وأرتوت من عطاء الله  .. ثم السلام علي تراب شهدت دمعة لنساء ولکنها لم تکن بدمع بل نار احرقت الظالمين .. والسلام علي رمال شهدت صرخة لامرأة عزلاء ولکنها کانت ولاتزال سيفا بتارا علي الطغاة بجانب سيف اخيها الحسين.     
فتحية الي ذلك الصوت الهادر والي ذلك الثغر الذي ماتلکأ ولاحل به فأفئه ولاخمدت له نبره .. وکان ولايزال صوت العزيمة صوت الحق الذي امتد عبر التاريخ وسيبقي ولهذا الصوت اصداء ومهما حاول الظلم والظالمون ان يکبوا هذا الصوت فسيتمرد علي الکبت لانه صوت الحق صوت العدالة.
وتحية اخري أبا الشهداء نرفعها إلي الهام الذي أبي ان يرکع إلي الطغاة ..نرفعها إلي الجبهة التي أبت السجود الا لخالقها .. أبت ان تظهر عليها سمات الخضوع للظلم والخنوع للطغيان .. بل وقفت رغم السيوف التي تکاثفت عليها وبالرغم من السهام والآلم التي نالها .. وان الرمح الذي رفع هامتك انما رفع هامة المجد وجبهة الکرامة ولم يرفع هامة خانعة ولم يرفع راسا ذل للطغاة .. بل سيظل راسك سيدي مرفوعا.
فتحية والف تحية إلي ذلك الجبين المشرق وتحية إلي تلك الجبهة التي ظلت عليها بصمات شفاء النبي(ص) يوم کان يشبعها لثما وتقبلا ويسکب عليها من عطفه وروحه ويسجل عليها شعاره (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي علي ان اترك هذه الدعوة مافعلت) وقد احتفظت تلك الجبهة بذلك الشعار وعاشت عزيزة کريمة مرتفعة لانها ابت الا العلو..
أبا الشهداء لقد وضعت علي جبهة کل يزيد في کل عصر وصمة عار.. فانت عز لايذل وانت کرامة لاتهون.
واسمح لي أبا الشهداء أن أرفعك إلي جدك المصطفي دماء علي أطراف الاسنة وجسدا قطعته السيوف وعظاما هشمته سنابك الخيول وان أعرضك لامك الزهراء هذه الايام دموعا من أختك التي احست بفراقك وتعلقت باهداب ثوبك وتريد ان تنتزع منك کلمة لتکون سلوي لها ولباقي النساء من بعدك لانها کانت تشعر بان هذا الجبين سيفارقها، واسمح لي سيدي ان ارفعك إلي أبيك علي بن أبي طالب مقطوع الراس مذبوح من الوريد الي الوريد ..
السلام علي من الاجابة تحت قبته السلام علي المرمل بالدماء السلام علي غريب الغرباء السلام علي من بکته ملائکة السماء السلام علي الشفاء الذابلات السلام علي الاجساد العاريات السلام علي الدماء السائلات السلام علي الرؤس المشالات السلام علي المجدلين في الفلوات السلام علي من نکثت ذمته السلام علي من اريق بالظلم دمه السلام علي المغسل بدم الجراح السلام علي المنحور في الوري السلام علي الشيب الخضيب السلام علي الخد التريب .. السلام عليك يامولاي وعلي الملائکة المرفرفين حول قبتك الحافين بتربتك الطائفين بعرصتك الواردين لزيارتك ورحمة الله وبرکاته ..

تصنيف :
كلمات دليلية :