آهات في ذکري شهادة سيد الساجدين عليه السلام

آهات في ذکري شهادة سيد الساجدين عليه السلام
الإثنين ٢٦ نوفمبر ٢٠١٢ - ١٠:١٩ بتوقيت غرينتش

لحکمة الهية بالغة، بقي الامام علي بن الحسين عليه السلام حيا بعد المجزرة الدموية الاموية التي حلت ببيت الرسالة في کربلاء، في وضع مأساوي وصفه الامام السجاد (ع) ذاته في جوابه (للمنهال بن عمر) حين ساله، کيف امسيت ياابن رسول الله ؟ قال (ع): (أمسينا کمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبَحون أبنائهم ويستحيون نساءهم).

لقد نجا بقدر الله تعالي، في حين کان عمره يومها ثلاثا وعشرين سنة، فقد کان المرض الذي استبدَ به اثناء المعرکة المبرر المنظور لاسقاط واجب الجهاد بالسيف عنه.

وبعد حوادث الطف مباشرة بدأ السجاد(ع) يقود الحرکة الاصلاحية، وبمقدور المتبع ان يلمح في قيادة الامام السجاد (ع) ظاهرتين اثنتين:

الاولي: أستکمال الشوط الرسالي الذي بداه الحسين عليه السلام:

کان بنو أمية والضالعون في رکابهم مدرکين تماما ما للحسين عليه السلام وآل البيت من مکانة لاتضاهيها مکانة في نفوس المسلمين وکانوا يعلمون ان قتل الحسين (ع) واصحابه في کربلاء سيثير سخط المسلمين عليهم، ومن  اجل ذلك خططوا للتعميمة وبذلوا کل وسعهم لاثارة الضباب، لکي يمتصوا ايَ رد فعل متوقع، لاسيما في بلاد الشام حصنهم القوي.

وهکذا سخروا اجهزة اعلامهم المتاحة يومذاك حتي اوصلوا الناس الي حد القناعة بان الحسين عليه السلام وصحبه انما هم من الخوارج.

وقد کان مقدرا لتلك الدعاية ان تنجح في الشام الي اقصي حدَ ممکن، مما کان يفرض القيام بما من شانه ان يفشل الدعاية الاموية واهدافها المسعورة ويکشف بحزم عن اهداف ثورة الحسين عليه السلام وعن مکانته بالذات في دنيا المسلمين وهکذا کان.

تبني الامام السجاد عليه السلام وکرائم اهل البيت کزينب وام کلثوم وغيرهما، سياسة اسقاط الاقنعة التي يغطي الامويون وجوه سياستهم الکالحة الخطيرة بها وتحميل الامة کذلك مسؤوليتها التاريخية امام الله والرسالة.

ففي الشام وعند دخول سبايا آل الرسول عليه السلام دنا شيخ من الامام السجاد عليه السلام وقال له: الحمد لله الذي اهلککم وامکن الامير منکم، فاجابه الامام عليه السلام: ياشيخ أقرات القرآن؟ قال الرجل: بلي.

قال الامام عليه السلام: أقرأت: (قل لا أسالکم عليه اجرا إلا المودة في القربي)؟ وقرأت قوله تعالي ( وآت ذا القربي حقه) وقوله تعالي (واعلموا إنما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربي ).   

قال الشيخ: نعم قرأت ذلك.

قال عليه السلام: نحن والله القربي في هذه الآيات.

ثم قال الامام عليه السلام: أقرأت قوله تعالي (انما يريد الله ليذهب عنکم الرجس اهل البيت ويطهرکم تطهيرا).

قال الشيخ: بلي.

فقال الامام عليه السلام: نحن اهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير.

قال الشيخ: بالله عليك انتم هم؟.

قال عليه السلام: انا لنحن هم من غير شك.

فاسف الشيخ علي مامضي من قوله وتبرا الي الله من آل امية وحزبهم . - مقتل الحسين للمقرم .  

ومن اجل کسر التعتيم الاعلامي الاموي وفضح جرائم يزيد وقف الامام السجاد عليه السلام في الحکم الاموي وبحضور يزيد بن معاوية وکل معاونيه من رؤوس التحريف والضلال والقي ببيانه الخالد معريا سياسة الامويين الضالة الدموية ومبينا من هم السبايا واي مقام رفيع يمثلون في دنيا الاسلام وقد جاء في بيانه:    

( ايها الناس: اعطينا ستا وفضلنا بسبع، اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين.

وفضلنا: بان منا النبي المختار والصديق والطيار واسد الله واسد رسوله ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول وسبطا هذه الامة.

أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.  

أيها الناس: أنا ابن مکة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الرکن باطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدي وخير من طاف وسعي وحج ولَبي، أنا ابن من حمل علي البراق وبلغ به جبريل سدرة المنتهي، فکان قاب قوسين او ادني، أنا من صلي بملائکة السماء، أنا ابن من أوحي اليه الجليل ما أوحي. 

أنا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، وابن خديجة الکبري، انا ابن المرمل بالدماء أنا ابن ذبيح کربلاء.

وحين بلغ هذا الموضع من خطابه استولي الذعر علي الحاضرين وضج اغلبهم بالبکاء حين فوجئوا بالحقيقة مما اضطر يزيد ان يأمر المؤذن للصلاة ليقطع علي الامام عليه السلام خطبته، غير ان الامام عليه السلام سکت حتي قال المؤذن (اشهد ان محمدا رسول لله) التفت الامام السجاد عليه السلام الي يزيد قائلا: (هذا الرسول العزيز الکريم جدك ام جدَي؟) فان قلت جدَك، علم الحاضرون والناس کلهم انك کاذب، وان قلت جدي، فلم قتلت ابي ظلما وعدوانا وانتهبت ماله وسبيت نساءه؟ فويل لك يوم القيامة إذا کان جدَي خصمك).

اما عقائل آل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فقد مرَغن أنوف بني أمية في الوحل واسقطن کبرياءهم عمليا أمام الامة التي يحکمونها، تجد ذلك في خطبة زينب الکبري التي القتها في مجلس يزيد في دمشق وفي المناقشات الحادة التي دارت هناك.

الثانية: تبني منعطف جديد للحرکة الاصلاحية في الامة . 

ان المتتبع لطبيعة دور الامام السجاد عليه السلام في الحياة الاسلامية بعد عودته يلمح انه عليه السلام قد رسم منهجه العملي بناء علي دراسة الاوضاع العامة للامة بعد ثورة الامام الحسين عليه السلام وتشخيص نقاط ضعفها ومقومات نهوضها.

مارس الامام عليه السلام دوره من خلال العلم علي انماء التيار الاسلامي الرسالي الاصيل في الامة وتوسيع دائرته في الساحة وقد ساعد في انجاح عمله عاملان اساسيان هما: الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي تفجر في اکثر مراکز العالم الاسلامي اهمية وتاثيرا بعد مأساة الطف مباشرة والثانية التجاوب مع اهل البيت عيلهم السلام من قبل قطاعات واسعة من الامة وذلك نتيجة لشعور اسلامي عام بمظلومية اهل البيت عليهم السلام خصوصا بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام. 

هذا وقد التزم الامام عليه السلام منهجا محدد المعالم والغايات في دوره القيادي وکان من ابرز حقوله :

1- المهمة التعليمية: اتخذ الامام السجاد عليه السلام من المسجد النبوي الشريف وداره المبارکة مجالا خصبا لنشر المعارف والمفاهيم الاسلامية فشهدت طوال خمسة وثلاثين عاما- وهي فترة امامته - نشاطا فکريا من الطراز الاول. 

استقطب عليه السلام خلال تلك الفترة طلاب المعرفة الاسلامية في جميع حقولها واستطاع ان يخلق نواة مدرسة فکرية لها طابعها ومعالمها المميزة وتخرج فيها قمم فکرية وقادة رأي ورواة محدثون وفقهاء. 

2- تبني مشاکل الجماهير: أبدي الامام السجاد عليه السلام کسواه من ائمة اهل البيت عليهم السلام اهتماما متزايدا بالامة فرسخ علاقته بها وعمق تعامله مع اوسع قطاعاتها فکان الاب الرحيم والقائد الحکيم الحريص علي علاج ادواتها طوال أيام امامته. 

3- احياء ذکري الحسين عليه السلام: أقام الامام السجاد عليه السلام مأتما دائما في داره لاعطاء الذکري حرارة دائمة ولتبقي حيَة في ضمير الامة وتاريخها وهي تذکر بالمباديء والقيم الاسلامية التي ثار الامام من اجلها وضحي باهل بيته واصحابه في سبيلها. 

4- الدعاء : حفظت لنا سيرة الامام السجاد عليه السلام نمطا من الادعية بلغ الذروة في الکمال والنضج والشموخ فقد کانت ذات وجهين غاية في الارتباط والتکامل وجها عباديا وآخر اجتماعيا يتسق مع مسار الحرکة الاصلاحية التي قودها عليه السلام.

وقد جمع ذلك التراث السجادي الخالد، فحمل عنوان (الصحيفة السجادية) المتداولة اليوم بين ايدي المؤمنين، وکان هذا التراث يحظي باهتمام متزايد من ائمة اهل البيت عليهم السلام.  

من ناحية اخري وکرد فعل سياسي اموي تبني الحکم الاموي بقيادة عبد الملك شعار التصفية للوجود الرسالي ونفذت تلك الخطة من خلال تعيين الجزَار الرهيب الحجاج بن يوسف الثقفي واليا علي الکوفة - عاصمة اهل البيت عليهم السلام- .   

فنشر الحجاج في ربوع الکوفة الدمار واشاع الرعب والموت، فقتل المؤمنين علي التهمة والظنة وحسبنا وصفا لتلك المأساة الرهيبة تحديد الامام الباقر عليه السلام لحجمها الدامي بقوله: (ثم جاء الحجاج فقتلهم -يعني اتباع اهل البيت- کل قتلة، واخذهم بکل ظنَة وتهمة حتي ان الرجل ليقال له زنديق او کافر احب اليه من أن يقال له: شيعة علي). 

لقد اشار بعض المؤرخين الي ان عدد الذين قتلهم الحجاج عبر العشرين سنة التي کان فيها واليا عشرات الالوف وقد مات الجزار الرهيب وفي سجنه خمسون الف رجل وثلاثون الف امراة -الشيعة والحاکمون / محمد جواد مغنية / مما يجسد حجم الماساة التي عاني منها اتباع اهل البيت. 

علي ان الموقف قد تأزم بعد موت عبد الملك حيث تسلم الوليد ابنه الامر بعده، في وقت صفيت فيه المعارضة او کادت ولم يبق غير الامام السجاد عليه السلام متابعا خطواته الاصلاحية في الامة تثقيفا وارشادا وامرا بمعروف ونهيا عن منکر.

کان الامر يؤرق قادة الحکم الاموي ذي الاهداف التحريفية للرسالة الالهية ويثير مخاوفهم وقد ادرکوا ان ايقاف مسيرة الامام عليه السلام تلك لاتتم بارهابه.  

من هنا فان خططهم اتجهت لتصفية الامام عليه السلام ذاته، وهکذا کان فقد اغتاله سليمان بن عبد الملک في عهد الوليد من خلال سم دسه اليه، وبذلک اسدل الستار علي عصر ذلك الامام العظيم عليه السلام بيد ان افکاره واهدافه بقيت حيَة نابضة بالحياة متدفقة بالخير والخصب والنماء تسيَر التاريخ الانساني، حاملة المشعل التفجر بالفضيلة والهدي. 

فسلام عليه وعلي الائمة الهداة الميامين من آبائه وأبنائه، سلاما دائما مع الخالدين.

تصنيف :
كلمات دليلية :