دفاع عن الذاكرة

دفاع عن الذاكرة
الثلاثاء ٢٦ مايو ٢٠١٥ - ٠٧:٠٢ بتوقيت غرينتش

من بين الأخبار «غير المهمة» التي لم يشر إليها الإعلام المصري أن ثمة تعبئة عالية الصوت في (إسرائيل) دعت المستوطنين إلى الاحتشاد لاقتحام المسجد الأقصى يوم (الأحد) احتفالا بما يسمونه عيد «شفوعوت» (ذكرى نزول التوراة) وأن ثمة دعوات مقابلة من الفلسطينيين للاحتشاد أمام المسجد الأقصى للحيلولة دون ذلك.

من تلك الأخبار أيضا أن نحو ألفين من مسلمي الروهينجا الهاربين من جحيم بلادهم (ميانمار) عالقون في عرض البحر منذ أربعين يوما. يعانون من الجوع والمرض، ويبحثون عن مأوى لهم.
ليست جديدة مخططات الإسرائيليين لا لتهويد القدس ولا لاقتحام المسجد الأقصى.
من ثَمَّ فإن أي خطوات تصدر عنهم في هذا الاتجاه أو ذاك فقدت قيمتها الإخبارية، رغم فداحتها السياسية والحقوقية والتاريخية.
مع ذلك فإن الوجع الناشئ عن ذلك كان شديدا خلال الأسابيع الأخيرة.
إذ جرى الاستنفار لإنشاء القوة العربية وتذكر الجميع أن هناك اتفاقية للدفاع المشترك بين الدول العربية، وتنادى البعض لاجتماع رؤساء أركان الجيوش العربية.
في الوقت ذاته تحركت أطراف عدة لوقف استيلاء الحوثيين على اليمن من خلال عاصفة الحزم، التي أعقبتها عاصفة الأمل، وانتشرت في سماء اليمن أسراب الطائرات العربية المقاتلة التي ألقت حممها في الفضاء اليمنى وأحدثت ما أحدثته من دمار وترويع.
وفي تلك السياقات لم يشر أحد ولو من باب المجاملة إلى ما كان يسمى القضية المركزية. حدث لك في الوقت الذي تسارعت فيه خطى الاستيطان. وتداعى الإسرائيليون للاحتفال بما وصفوه ذكرى توحيد القدس (يقصدون احتلال القدس الشرقية)، واقتحمت جماعات من المستوطنين باحات المسجد الأقصى وهم يهللون ويرقصون ويؤدون الشعائر التلمودية.
وبعد أن انتهوا من مراسم ذلك الاحتفال في الأسبوع الماضي، دعوا هذا الأسبوع إلى اقتحام الأقصى في ذكرى عيد «شفوعوت»، خلال يومي الأحد والإثنين.
وكانت الرسالة التي أعلنت على الملأ أنهم لن يهدأ لهم بال قبل أن ينجزوا مهمتهم في اقتحام واحتلال المسجد الأقصى تمهيدا لما بعد ذلك.
كان المشهد مستفزا ومفارقا، العرب يتقاتلون فيما بينهم ويلوحون بالعضلات في اليمن وفي غيرها، والإسرائيليون يهللون ويرقصون أمام المسجد الأقصى.
إزاء ذلك فإن المرء لا يستطيع أن ينسى أن العالم العربي والإسلامي اهتز حين أشعل أحد الإسرائيليين حريقا أتى على منبر نور الدين زنكي بالمسجد الأقصى في شهر أغسطس عام ١٩٦٩.
فدعا رؤساء الدول الإسلامية لاجتماع في الرباط خلال شهر واحد، أسفر عن تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي التي أنيطت بها حرية رعاية شؤون المسلمين والتخفيف من أحزانهم.
بالمقارنة، لابد أن يدهش المرء حين يقارن استنفار الأمن قبل نحو ٤٥ عاما لأن منبرا تاريخيا بالمسجد الأقصى تم إحراقه، بالصمت والبلادة المخيمين على العالم العربي والإسلامي إزاء جهود اقتحام المسجد الأقصى ومحاولة الاستيلاء عليه كله.
تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي يصلح مدخلا للحديث عن مسلمي الروهينجا البؤساء، الذين يركبون قوارب الموت باحثين عن ملاذ لهم من الجحيم الذي يلاحقهم في بلدهم الأصلي، بورما التي صارت ميانمار.
قصتهم بدورها ليست جديدة، وعذاباتهم لم تتوقف منذ خضعت بورما لحكم المجلس العسكري قبل نصف قرن، وأصدر في الثمانينيات قانونا للجنسية لم يعترف بها كمواطنين.
بالتالي فقد جردوهم من أبسط حقوقهم في التعليم والعمل والملكية والانتقال.
وأحاطهم البوذيون بسياج من الحصار والكراهية، جعلهم يوصفون بأنهم أكثر الأقليات بؤسا في العالم.
خلال السنوات الأخيرة يئس البعض من البقاء ولم يحتملوا جحيم الحياة في مقاطعتهم (أراكون) فاختاروا أن يهاجروا إلى الدول المجاورة، ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، الأمر الذي روج لتجارة نقل البشر وبيعهم واسترقاقهم. وفي حين رفضتهم تايلاند وقاومت وقوافلهم، فإن إندونيسيا وماليزيا أبدتا استعدادا لاستقبالهم، لكن إعاشتهم تحولت إلى مشكلة أخرى الأمر الذي جعل الدولتان تضيقان بهم وتتذمر من استقبال أفواجهم.
(في وقت متزامن نشر أن أحد الأمراء أهدى ٣٠ سيارة «رولز رويس» لمرافقيه في مناسبة زواجه).
التقارير الصحفية تتحدث كل يوم عن معاناة العالقين في البحر (عددهم ألفان) وعن عذابات ثلاثة آلاف آخرين تكدسوا على الشواطئ وانتشرت بينهم المجاعات والأمراض.
أما الذين لم يهاجروا فإن مسلسل اضطهادهم لم يتوقف، ذلك أن بيوتهم وزراعاتهم يتم حرقها وضغوط المتطرفين الراغبين في طردهم تزداد يوما بعد يوم.
العالم العربي مشغول بصراعاته عن كل ذلك، والإعلام العربي وظفته الأنظمة للحرب المعلنة على الإرهاب، الذي أصبحت مواجهته «أم المعارك» التي حجبت ما عداها.
ولأن الأمر كذلك فلا عاد اقتحام المسجد الأقصى خبرا مهما.
ولم يعد هناك مجال في نشرات الأخبار لذكر شيء من هموم المسلمين الأقربين فما بالك بالأبعدين؟
من ثَمَّ فلم تعد الكتابة تعبر عن أمل في فعل شيء، وإنما صارت لا تطمح في أكثر من مجرد الحفاظ على الوعي والدفاع عن الذاكرة.

فهمي هويدي - الشروق