التهور الممنهج والسيناريوهات المفتوحة

التهور الممنهج والسيناريوهات المفتوحة
الجمعة ٠٨ ديسمبر ٢٠١٧ - ٠٣:٤٠ بتوقيت غرينتش

كثيرة هي التساؤلات المشروعة المتناقضة التي يولدها قرار الرئيس الأمريكي رونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة الكيان الصهيوني، فهل جاء مفاجئاً؟ وهل هذا القرار بصيغته الأولى من وحي أفكار إدارة ترامب ، أم أنه قرار أمريكي أجمع عليه الجمهوريون والديمقراطيون منذ إدارة بيل كلنتون 1995م.؟

العالم - مقالات وتحليلات 

وكيف يمكن فهم حقيقة هذه العربدة الأمريكية غير المسبوقة قي سياقها الزماني والدلالي المرتبط بتطور الأحداث وتداعياتها إقليمياً ودوليا؟ وماذا عن ردود الأفعال العربية والإقليمية والدولية؟ وإلى أية درجة تتناسب ومستوى التحديات والتهديدات التي يفرزها تطبيق هذا القرار؟ وهل كان لترامب أو غيره أن يقدم على ذلك لو أنه يحسب حساباً لمليار ومئتي مليون مسلم؟

 وفي الوقت ذاته: من الذي قال إن حسابات أولئك دائماً صحيحة؟ ومن الذي يضمن ألا تأتي حسابات البيدر متناقضة مع حسابات الحقول المروية بمياه قذرة ومجرثمة؟ وهل هناك ما يثبت صحة ما روجته إمبراطورياتهم الإعلامية  بأن ما يريدونه قدر لا يمكن رده ولا مواجهته؟ والأهم من هذا وذاك: هل يمنح القرار الأمريكي الكيان الصهيوني مزيداً من الحصانة والقوة وفرض الإرادة والتمرد على القرارات الدولية، أم أنه في الوقت نفسه يمهد لتوليد بيئة استراتيجية جديدة تحمل في طياتها حتمية المواجهة الكبرى الشاملة التي لا يستطيع أصحاب الرؤوس الحامية التحكم بنتائجها ولا بسقفها الزمني المفتوح على العديد من السيناريوهات والاحتمالات المتقاربة حيناً والمتناقضة حيناً آخر؟

باختصار شديد يمكن القول: إن ترامب لم يخادع أحداً بإعلانه ما هو مقرر في الكونغرس بمجلسي الشيوخ والنواب منذ سبعة وعشرين عاماً، بل كان متوقعاً، وبالتالي فالسؤال المشروع هو: لماذا تأخر الرئيس الأمريكي حتى الآن في ارتكاب جريمته هذه التي خاض الانتخابات الرئاسية باعتمادها هدفاً تعهد بتنفيذه ؟ وما الذي يمكن أن يسوقه اليوم من يرفعون شعار " نظرية المؤامرة" سيفاً مسلطاً فوق رقبة كل من يريد أن يربط النتائج بالمقدمات وفق رؤية تحليلية موضوعية تبين الخطوات التي يتم تنفيذها من قبل أصحاب المشروع التفتيتي وبسط الهيمنة والسيطرة والنفوذ وفق تعليمات ما يمكن تسميته بالحكومة العميقة أو "حكومة الظل" المتحكمة بالكثير من مفاصل صنع القرار الدولي، والجميع يذكر كيف تسابق بعض هواة الكتابة التنظيرية والتحليل السياسي للتبشير بخلافات أمريكية إسرائيلية متصاعدة، وقطيعة أو شبه قطيعة بين نتنياهو وترامب، وراحوا يكيلون الاتهامات لكل من قال: إن كل ذلك جزء من استراتيجية التدمير الممنهج التي تعتمدها الحكومة الكونية العميقة ـ إذا صح التعبيرـ  وهاهي الأحداث تثبت على أرض الواقع أن لكل مفصل من مفاصل صنع القرار الأمريكي دوراً محدداً يؤديه بدقة تامة، وينفذه بحرفيته وفق ما تم تخطيطه في الغرف السوداء المظلمة منذ سنوات وعقود، مع أن فريق بوش الابن في الولايتين الأولى والثانية كان يضم طغاة اليمين الأمريكي الجديد المتصهين، وقد بلغوا الذروة في العربدة وتهميش الجميع، واعتبار /كل من ليس معهم فهو ضدهم/، ومع ذلك لم يقدموا على ما فعله ترامب بالأمس ليس لأنهم أكثر عقلانية منه، ولا لأن ترامب أحمقاً ومتهوراً، بل لأن البيئة الاستراتيجية لم تكن مؤهلة لا إقليمياً ولا دولياً، أما اليوم فيبدو أن حساباتهم أسقطت من أجندتها الخشية من مئات مليارات الدولارات التي تكدسها الأسر الأوليغاريشية المتحكمة بالبلاد والعباد في مشيخات مسرطنة ومنتشرة في صحراء التيه والظلامية في الخليج الفارسي المربوط بأقدام أجهزة الاستخبارات الأجنبية منذ أن كان الاستعمار الكولنيالي يجثم فوق صدور شعوب المنطقة بشكل مباشر، وأرغمت الأسر لدول مجلس التعاون الحاكمة بفضل نتائج الحرب التي يخوضها محور المقاومة ضد الإرهاب على المجاهرة بحرصها على أمن الكيان الصهيوني، وإعلان انضوائها التام تحت العباءة الأمريكية ضد أبناء الأمة ومصالحهم الحيوية المنسجمة مع القانون الدولي.

لاشك أن إدارة ترامب ومن يقف وراءها قد وضعوا في حساباتهم ردود الأفعال المحتملة، ويبدو أن النتيجة التي توصلوا إليها تشير إلى أنه الوقت المثالي لاتخاذ القرار، فالداخل الفلسطيني منقسم ومتشرذم ومشغول بغالبيته بفتات السلطة وفق المعايير التي تجود بها حكومة نتنياهو، فضلاً عن أن الحبل السعودي  أو ما يشبهه ملفوف حول عنق العديد من أولي الأمر في فلسطين المحتلة وخارجها، وحزب الله ـ وفق حساباتهم ـ مشغول في الحرب ضد الإرهاب على الجغرافية السورية، وكذلك الجيش العربي السوري والعراقي، كما أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما تزال في مواجهة عدد لا متناه من الضغوط المتنوعة، ومنشغلة في الوقت ذاته بمحاربة الجيوش البديلة للمارينز الأمريكي وجيش الكيان الصهيوني على الجغرافيا العراقية والسورية بآن معاً، وبقية الدول المسلمة إما أنها مشلولة الإرادة أو فاقدة القدرة على الفعل والتأثير، وبالتالي اعتماد القرار في هذا التوقيت بالذات ـ وفق حساباتهم ـ يصيب عدة عصافير بحجر واحد، فهو يضمن لترامب التملص الآمن من ضغوط الداخل الأمريكي وانخفاض شعبيته بدرجات غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يحرف الأنظار عن الإخفاقات الجوهرية والانتكاسات المتلاحقة التي أصابت مشروع الاستثمار في الإرهاب المتداعي بتسارعات كبيرة في سورية والعراق، ويغطي في الوقت نفسه على الإخفاق السعودي المدوي في الملف اليمني، ويؤجل انهيار مجلس التعاون ، ويقطع الطريق على سوتشي أو جنيف أو أية محطة أخرى تعمل لتفعيل المسار السياسي بعد النجاح في تقويض جحافل الإرهاب التي تم تصديرها إلى المنطقة، والأهم من ذلك كله يضمن لتل أبيب  الاقتراب من تحقيق أحلامها التوارتية بتصفية القضية الفلسطينية بالضربة القاضية، وكل ذلك يؤدي بالضرورة لبقاء الدور الأمريكي مهيمنا في المنطقة لعقود، وبالتالي يكون الأمريكي خرج من الباب وعاد من نافذة أكثر عرضاً من الباب الذي خرج منه، ومثل هذه الحسابات ليست وهمية أو خيالية بالمطلق، بل تستند إلى الكثير من المرتكزات الفعلية على أرض الواقع، وإلا كيف يمكن فهم موقف السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تعلن على أقل تقدير ـ و فور صدور قرار ترامب ـ وقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي المكلفة بكبت أنفاس الفلسطينيين.

ومن حق المتابع المهتم هنا أن يطرح بعض تساؤلات الاستفهام الإنكاري، ومنها:

ـ ماذا لو أن "أبا مازن" رئيس السلطة الفلسطينية رفض أن تغتصب القدس على مرأى ومسمع منه، وأعلن استقالته احتجاجاً على ذلك، بدلاً من أن يستنكر القرار الترامبي ويتحف الرأي العام بوصفه إنه يمثل تحدياً للشرعية الدولية؟ وكأن ترامب ونتنياهو لا يدركان ذلك؟ وماذا لو أن بضعة آلاف فقط من الأطفال الفلسطينيين خبأ كل منهم حجراً صغيرا في جيبه وألقاه على أحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية التي تقطع أوصال الضفة الغربية بأحزمة نار وقهر وذل واستعباد؟

ـ هل كان يضير "أم الدنيا" مصر لو أنها  رفعت الصوت قليلا ومررت عبر الإعلام الرسمي مجرد تمرير أنها قد لا تستطيع كبت الشارع الغاضب إذا توجه إلى السفارتين الأمريكية والإسرائيلية؟، وليتصور أي منصف يريد قراءة الواقع بموضوعية شوارع المدن في دول المنطقة  لو أن مثل هذه الخشية من خروج الشارع عن السيطرة قد تم التعبير عنها في  إعلام بقية الدول التي تدعي بأنها غير راضية ولا موافقة على قرار ترامب.

ـ ماذا لو أن خائن الحرمين الشريفين تذكر أن الأقصى في القدس وأن القدس تهود، وهدد برفع الظهر قليلا عن الأرض التي انبطح عليها ليمسح ترامب ونتنياهو حذائيهما باللحى النتنة المشرفة على تفريخ الإرهاب من الرياض وتصديره للعالم أجمع؟.

ـ وإذا تركنا دول المنطقة قليلاً ، والتفتنا إلى الأطراف الفاعلة دولياً: فهل كان ترامب سيعلن قراره المشؤوم لولا الاطمئنان المسبق بأن الأصدقاء الروس سيكتفون بالتصريح بأن القرار قد يزيد من تأزم العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية؟. مع الإشارة إلى أن استخدام حرف "قد" قبل الفعل المضارع يفيد التقليل، في حين يفيد التأكيد لو أنه تم استخدامه قبل فعل ماض، والأمر ذاته ينسحب على موقف التنين الصيني الذي تأرجح عند حدود " القلق إزاء تصعيد محتمل للتوتر".

أمام مثل هذه العربدة غير المسبوقة، وأمام الواقع  القائم بصبح من العبث التعويل على ما قد تقوم الأنظمة الرسمية في الغالبية المطلقة من دول العالم، وهذا لا يعفي النخب السياسية والثقافية و الإعلامية والمجتمعية من مسؤوليتها التاريخية في مثل هذه المحطات التاريخية من الصراع المزمن والمفتوح بين قوة الحق وحق القوة، فالصورة لن تبقى كما هي لو خرج غدا المثقفون ودعاة التعايش الإنساني في وقت واحد يجوبون شوارع المدن الرئيسية في جميع الدول التي تدعي حرصها على العدل والسلام والقانون الدولي، أو على الأقل في شوارع الدول الإسلامية، والتحشد أمام أي مكتب تابع للمنظمة الدولية.

وإذا كان هناك من يراهن على الدور التركي وغيرة أردوغان على القدس، فالمنطق يقول : ما تزال تركيا أردوغان رأس حربة الناتو، وحرصها على علاقاتها الاستراتيجية بتل أبيب يفوق أي أمر آخر بغض النظر عن العنتريات الكلامية لأردوغان وزبانيته، ولا يستبعد أن يكون صراخ أردوغان كله حلقة من دور وظيفي مناط به لتبريد الشارع وتثبيط الهمم وتوزيع أوهام كاذبة عن موقف جاد قد تتخذه تركيا، وقد ثبت بالدلائل المتكررة أن الذبذبات الأردوغانية جزء من المسرحية المحبوكة بعناية فيما يتعلق بفلسطين بخاصة، وبهذه الحرب المفروضة على دول المنطقة بعامة، وهل يمكن لعاقل أن ينسى أو يتناسى قدرة أردوغان الفائقة على التمثيل في  مؤتمر دافوس وسفينة مرمرة؟ فما الذي يمنع أن يكون الغزل التركي لروسيا ولإيران فصلاً تكميلياً مطلوباً لمنح أردوغان جائزة نوبل في الأعوام القادمة؟.

تساؤلات كثيرة متداخلة ومشروعة لكنها لا تلغي التساؤل الأهم عن المستقبل القريب والمتوسط  لو أن محور المقاومة فاجأ المعربدين بقدرته على قلب الطاولة فوق رؤوس جميع اللاعبين؟؟.

ويقيني أن هذا ما سيحدث في القريب العاجل ، وعندها ستتحول هذه العربدة الجديدة إلى إخفاق استراتيجي مركب بدلاً من التغطية على الإخفاقات الجوهرية التي تلحق بالمشروع الصهيو ـ أمريكي المتهالك بشقه التكفيري الوهابي تحت أقدام من يعشقون الشهادة بكرامة بما يفوق عشق أعدائهم للحياة بذلة وتبعية واحتيال وخداع، فقادة محور المقاومة هم من أثبتوا بالقول والفعل بأنه يمكن كسر إرادة الأمريكي والصهيوني، وإن ما تصدره الحكومات العميقة في هذه الدولة أو تلك ليس قدراً تستحيل مواجهته، وهزيمة الإرهاب الوهابي التكفيري على الجغرافيتين السورية والعراقية خير دليل على ذلك، وقادة المحور المقاوم هم الصادقون في أقوالهم، والموفون بعهودهم والمؤمنون الموقنون بحتمية تنفيذ وعد الله، وحاشا لله أن يخلف الميعاد، وهو القائل عز وجل: " ... إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" صدق الله العلي العظيم، وواهم من يظن أن مصير القدس يقرره غير عشاق القدس،  و"إن غدا لناظره قريب".

بقلم حسن أحمد حسن