الضاحية الجنوبية بعيون صحفي فلسطيني

الضاحية الجنوبية بعيون صحفي فلسطيني
الخميس ١٤ ديسمبر ٢٠١٧ - ٠٩:٢٥ بتوقيت غرينتش

عقب وصولي بيروت قبل أكثر من شهرين أحببت أن تكون اقامتي هذه المرة ليس كالمعتاد في شارع الحمرا، أو مناطق أخرى، وإنما في سكن متواضع في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، ضاحية البؤس والمحرومين كما توصف تاريخيا.

في هذا المكان أحسست كم أن الرغبة تجتاحني لأصمت، وفي المواقع التي تأنس فيها إلى الصمت، ترتاح روحك، رغم كل الضجيج، الناتج عن البشر والسيارات، والموتسيكلات. وهنا لست معنيا أن أتحدث عن الواقع الخدماتي اليومي والماء والكهرباء وما إلى ذلك، أو حتى مقارنة هذه البيئة العقائدية بأحياء بيروت الأخرى. لكن شئت أم أبيت ستستهويك المقارنة بين ما كنت تسمع، وواقع الحال، سياسيا بالذات، وما يغير وجه التاريخ حقا.

تزدهي شوارع الضاحية وأزقتها بصور الشهداء الذين بذلوا أرواحهم في ساحات الصراع ضد الصهاينة، ومن قريب الذين سقطوا في مواجهة العصابات التكفيرية. افتخار الناس هنا بالشهداء لا يسبقه افتخار، لكنه في بيئة الضاحية يتم عن وعي، فالقاطنون في أحيائها، من سياسيين، ومثقفين، وحزبيين، ورجال دين، مدينون للشهداء وتضحياتهم، التي أثمرت عزة ومنعة، وأجواء حرة مستقرة، يستطيع الجميع فيها ممارسة أنشطتهم، وتقديم خدماتهم. محقّ هذا الجمهور إذاً إذ يعظم الشهداء، الذين هزموا جبروت اسرائيل، بل منعوها من أن تدنس أحياء الضاحية، وأوقفوا تنفيذ المزيد من التفجيرات في عاصمة المقاومة. حضورهم في الساحة وتضحياتهم فرملت المد التكفيري من الوصول إلى كل لبنان، بل كل المشرق العربي.
 
صحيح أن معظم هؤلاء الشهداء ينتمون إلى حزب الله، لكنه الحزب المشرقي الذي هزم اسرائيل مرارا وتكرارا، وساهم باقتدار في لجم مزيد من هيمنة أمريكا والصهاينة بواسطة أدواتهم التكفيرية على مشرق العرب، في سوريا والعراق والاردن ولبنان. قائده العسكري الأسطورة الذي يعرفه المقاومون الفلسطينيون قبل أي أحد (عماد مغنية) يرقد بين المحرومين كالجبل الشامخ في ضريحه في روضة الشهيدين، وهو المطلوب الأول للأمريكيين والصهاينة على مدى عقود. بجواره يرقد نجله جهاد الذي قضى بضربة اسرائيلية أخرى، وعن يساره القائد مصطفى بدر الدين، وعن يمينه عريس أيلول الشهيد هادي نصر الله نجل أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله. قادة يقدمون فلذات الأكباد قرابين في ساحة الصراع مع ألد أعداء بني الانسان، من يعتقدون أن كل البشرية أغيار خلقوا لخدمة الشعب المختار. ما أجمل أن ترتع وتنهل من معين الشهداء في رياض الشهداء، تستمد منهم العزم والقوة وتخجل أن لا تكون شهيدا، منشغلا فقط في روتينك اليومي، والمماحكات الصغيرة هنا وهناك.
 
وليس بعيدا في روضة الحوراء يستوقفك ضريح الشهيد العابر للطوائف، عميد الأسرى في كيان الاحتلال قبل أن تحرره المقاومة سمير القنطار، يخبرك محيا نصبه الشامخ عن عذابات الأسر والصبر والكفاح حتى نيل وسام الشهادة على مدى كل هذه السنوات، استهدفه الصهاينة وهو يعد العدة لمقاومتهم، من الموقع الذي أرادوه خرابا على رؤوس أعدائهم من المقاومين الحقيقيين المواظبين، والشهداء الآخرين، وكل له حكايته في الصبر والتضحية والفداء.

الاعلام المعادي للمقاومة وثقافتها وأدبياتها، حرص طيلة السنوات الماضية على تصوير الضاحية كمربع أمني محظور على غير أنصار المقاومة، أو على القوى الأمنية الرسمية، فرية سيكتشفها من يمكث عن قرب بين أهالي الشهداء والمقاومين، فأحياء الضاحية ملأى بالعمال الأجانب العرب وغيرهم، ناهيك عن المؤسسات التجارية والورشات الممتلئة بالعمالة السورية، في وقت يلتحق خيرة الشباب من أبناء الضاحية بالمرابطة في نقاط التماس إن مع الاحتلال أو في الأراضي السورية، ومواجهة الارهاب العابر للحدود.

وحسينيات الضاحية تعقد على الدوام مجالس ثقافية تتحدث عن نهضة الحسين حفيد الرسول محمد، وعن قيم الاسلام ومدرسة أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وبعدها يتم اطعام الطعام للورادين دون تمييز، من كافة الجنسيات والمذاهب، يشارك فيها بين الفينة والأخرى شيوخ من أهل السنة آتين من بيروت أو المدن اللبنانية.  كما تضم الضاحية العديد من الكنائس التي تلاصق المساجد. أما انتشار جنود الجيش اللبناني، وقوى الأمن فحدث ولا حرج، الى درجة أن من لا يعرف أن هذه الأحياء هي في الضاحية لن يستطيع تمييزها.
 
وقد ترافقت اقامتي مع العشرة الأولى من محرم الحرام، وهي أيام يستذكر فيها أتباع مدرسة أهل البيت حركة حفيد النبي محمد الحسين بن علي، ولن تقع العين هنا على تلك المشاهد المستهجنة التي تقوم بها أقلية من الشيعة في العالم وتؤدي إلى إدماء الرؤوس، بل شعائر ومراسم احيائية واعية، يتحدث فيها خيرة العلماء والخطباء المميزين بدعواتهم الدائمة للوحدة الاسلامية والنضال الموحد ضد العدو الصهيوني. كما أن فلسطين حاضرة بقوة خاصة في أنشطة حزب الله العاشورائية، لجهة الشعارات أو المجسمات الفنية للأقصى وقبة الصخرة وصور الشهداء الفلسطينيين، وتشارك فيها شخصيات دينية من كل الطوائف الاسلامية وغير الاسلامية أحيانا. 

وفي الشوارع طيلة هذه الأيام توزع الأطعمة وأصناف العصائر والحلويات على كل مرتادي الضاحية في أجواء مفعمة بعبق الشهادة والفداء التي جسدتها حركة شهيد الاسلام والانسانية الحسين ابن بنت الرسول (ص)، وكل ذلك توج بخطاب استثنائي للأمين العام لحزب الله يوم العاشر طالب فيه الصهاينة بمُغادرة فلسطين إلى البُلدان التي جاؤوا منها، حتى لا يَكونوا وقودًا لأيّ حربٍ تجرّهم إليها حُكومة نتنياهو، وحذّرهم بأن الوقت قد لا يسعفهم لو نشبت الحرب لمُغادرة فِلسطين المُحتلّة، ولن يكون لهم أيّ مكانٍ آمنٍ فيها. تهديد للكيان ممن هزمه في كل الحروب يفوق الحرب النفسية، ويحيي في نفس كل عربي الشعور بالعزة والعنفوان.

وفي عودة لتاريخ هذا القلب من العاصمة اللبنانية سيتضح للمتتبع قوة انتمائه للعروبة غير المزيفة، ففي خمسينيات القرن الماضي، عندما كان زعماء العرب يقدمون فروض الطاعة لشرطي الخليج شاه ايران رضا بهلوي،  المتحالف مع الصهاينة، في أواخر الستينيات انضم الكثير من ابنائها الشيعة الى صفوف العمل الفدائي الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي، ومنهم لاحقا الشهيد عماد مغنية الذي بقي على علاقة بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كما ينقل مقربون منه، وهو ما يؤكد أن المعيار المذهبي لم يكن هو ما يحرك ولاءات أبناء الضاحية آنذاك. إرث نضالي، عززه مشروع السيد موسى الصدر مع بدايات الحرب الاهلية من قلب الضاحية الجنوبية، رسم بوصلة الحركة الكفاحية الشيعية ضد اسرائيل على وجه الخصوص، تجلت بالمحطة الفاصلة عندما تصدت نواة حزب الله لتقدم الجيش الاسرائيلي على أطراف الضاحية، ومنعته من التقدم إبان الغزو البغيض للبنان.
 
تمتنت اذاً هذه العلاقة الكفاحية الممهورة بالدم بين المقاومة الاسلامية وهذه الأحياء،  التي أصبحت معقلاً سياسياً وثقافياً للمقاومة، مما جعلها هدفاً مباشراً للاعتداءات الإسرائيلية ولا سيما خلال حرب تموز 2006. لكن الزائر لأحياء الضاحية اليوم، لن يجد أثرا لذاك الدمار بعد أن تم اصلاح كل شيء باشراف من شركة وعد ومؤسسة جهاد البناء التابعتين للمقاومة. وبعد الحرب السورية تعرضت المنطقة لتفجيرات هزّتها عدة مرّات على أيدي الإرهابيين التكفيريين من داعش وجبهة النصرة.
 
في محلة "جسر المطار" وخلال اقامتي حضرت الذكرى الرابعة والعشرين لمجزرة 13 أيلول، يوم سال الدم الوحيد غير الفلسطيني المحتج على الاستسلام للمحتل،  فالذين خرجوا في ذلك اليوم عام 1993 يهتفون ضد اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الصهيوني، كانوا يهتفون ضد بيع فلسطين وما تبقى منها.. كانوا ينادون بتحريرها من البحر الى النهر، كانوا يهتفون لعودة كل أبنائها الى بيوتهم وبياراتهم وقراهم ومدنهم، قبل أن يفاجئهم رصاص غادر مشبوه، سقط 9 شهداء، وأصيب العشرات بجراح. 

ترافق وجودي مع انجاز التحرير الثاني في لبنان أي اخراج جبهة النصرة وداعش من الأراضي اللبنانية، بالتعاون بين الجيش اللبناني والمقاومة، فكثرت بالتالي دعوات التهديد ضد هذه البيئة باعتبارها العمود الفقري وخزان المقاومة، ومع أنك لا يمكن أن تشعر بأي تواجد عسكري ملحوظ لكوادر المقاومة على أرض الضاحية لكنني سأذكر ما تعرضت له شخصيا عندما كنت أسير في الشارع، أوقفني شاب بملابس مدنية اعتيادية، فأنا غريب عن هذا المكان الذي يعرفه هؤلاء الشباب بكل تفاصيله وناسه، بتهذيب طلب أوراقي الثبوتية، قبل أن يصطحبني إلى إحدى النقاط القريبة، اوراقي رسمية وكل شيء طبيعي، سكنت الضاحية لرخص ايجار شققها عن الأحياء الاخرى، وأتعاون مع صحيفة الاخبار اللبنانية في كتابة بعض التقارير الاخبارية، خلال أقل من نصف ساعة كانت كل الاجراءات منتهية، في تعامل أخلاقي احترافي تفتقده أفضل الأجهزة الأمنية في أعرق الدول.
 
كنت متعطشا وقد خبرت جماعات الاسلام السياسي وما جرته على الأمة من ويلات في بلاد كثيرة إن في أفغانستان أو الصومال أو الجزائر أو الشيشان أو العراق أو حتى فلسطين، لدراسة هذا الشكل الناجح لمقاومة تستند الى مرجعية اسلامية كبيرة، وإن كانت في التصنيف شيعية، لكنك لا يمكن أن تلحظ أي ضغط من هذه القوة النافذة على الآخرين. في النصر الأول ضد اسرائيل أهدي هذا النصر لطوائف لبنان الثمانية عشرة جميعا، لا بل لكل العرب وأحرار العالم، أمر تكرر هذه الأيام على لسان سيد هذه المقاومة الشيعي المعمم المؤمن المتدين، لم يطالب رغم انتصاراته المتكررة أبناء أمته باتباع نهجه وطريقته، وهو أمر اعترف لي به أصدقاء لبنانيون كثر من كل الطوائف، في تمايز واضح عما فعله الاسلاميون الآخرون في أي بقعة تمكنوا فيها أو غاب القانون عنها.
 
لطالما كرر نصر الله في خطاباته، نحن أبناء علي الذين لا نغدر أبدا، وعلي بن ابي طالب هو القائل عبارته الخالدة: يا مالك إن الناس صنفان: (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
 
* عبدالرحمن أبوسنينة - صحفي فلسطيني